كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
موريس بلانشو: فلسفة الكتابة وقلق اللانهائي
«أشعر بالحاجة إلى اللانهاية… لا أستطيع..لا أستطيع أن أشبع هذه الحاجة»
لوتريامون، أناشيد مالدورور.
يُعدّ موريس بلانشو منظِّرًا أدبيًّا وناقدًا أكثر منه مبدعًا روائيًّا، رغم أن شعريته في عمله الروائي توماس الغامض (1932م) تُظهر سردية مثيرة للاهتمام بشكل قوي. ومنذ نصّه الأوّل لم يتوقّف الكاتب عن الاندفاع الخلاق صوب توتّرات والتواءات الفضاء السّردي، وكان من منظِّري الفكر الأدبي الباحث عن الـمتغير وغير الـمؤكَّد والصعب داخل الواقع الثقافي والاجتماعي وصهره في الـمجتمعات النصية أدبًا ونقدًا. وهذا النوع الجديد من الكتابة جعل له أتباعًا يحذون حذوه مثل جورج باتاي أو جاك دريدا من خلال تخريب وتفكيك الثنائيات الـميتافيزيقية الثابتة التي تحتكم إليها الـمؤسّسات والتّمثلات العقلية والاجتماعية (عقل – جنون، جسد – روح، طبيعة – ثقافة، ذكر – أنثى…) التي تعمل على صوغ الأدب في أحلام شـمولية أو تـخييلات تسطّر لنفسها خطًّا أحاديًّا متّزنًا غير قابل للرفض.
عبر هذا الـمقال، ومن خلال قراءة بلانشو، سنحاول تطويق بعض الـمقترحات التساؤلية عن ماهية الكتابة لديه؟ وملامح هذا الفضاء الإشكاليّ، «الفضاء الأدبي»، الذي أغرقه بحثًا؟ ولماذا وقعت اختياراته في الفضاء الأدبي على تشكيلة خاصّة من الأدباء (فلوبير، كافكا، بروست، مالارميه، ريلكه، ساد، أو لوتريامون). إنّ نصيّات بلانشو، كتابة معتمة، غامضة، تشتغل كلغز أو أسئلة مفتوحة من دون هدنة. هذه الصورة التي يمكن لنا رسمها عن هذا الفضاء الذي يغالي في الأسئلة أكثر من أن يصل إلى أجوبة مهدّئة، استنفار لاضطرابات وانفعالات في الفهم الأنطولوجي أو الإدراك الوجودي لدى الـمبدع، أو هي تساؤلات ملحّة تقترب من الروابط الحسّاسة بين النص والحدث، بين الأدب والأنطولوجيا، أو بين تفاعل الـمرئي واللامرئي (الواقعي والتخييلي) داخل الـممارسة النقدية. فبين الفكر والخطاب الأدبي والذات تتأرجح مواضيع هذا الـمقال قيد البحث عن حقائق سِرية ومتعذّر لـمسها توجّه أو تسيطر على نوعٍ من الصوفية الأدبية التي وجب أن تُستمدّ من العتمة المتواطئة قبل الدنوّ منها.
طيّات النصي ودوائر السردي
السرد سواء كان قصة أو كلمة أو صورة يحمل معكوسه في داخله، لتكتمل الصورة أو الرسم، تجاوز فريد من نوعه يجعل من السرد خيالًا جذابًا وخطابًا غير واقعي ومستحيل، ومن ثم سيحرمنا الخطاب السردي حسب تصوُّر بلانشو من النهاية الـمثالية من دون أن يحرمنا من الوهم. تشكيل فانتازي يهيمن عليه احتشاد الأضداد وتعايشها في اقتراب هارموني يـمثّل الفكرة الـمهمّة عند بلانشو حول الكتابة، وهي أن الـموت يسيطر علينا، لكنّ هيمنته تتأتّى من خلال استحالته، يرى بلانشو أنّ الكتابة حرفة مهولة، محفوفة بالألم، فهي تنتجه وتتعلّق بالـموت تعلُّقًا كبيرًا، الذي يتجلّى فيها بشكلٍ حادّ وطارئ، وهو ما دفع بلانشو للحديث عن فنّ للموت، حيث تتوقّف الحياة مع الـموت، ويُعَلَّق الحلم ليبزغ كلّ الألـم، ليكون في انتظارك.
تتدحرج الكتابة إلى أقاصي المحن الوجودية بكشف التباسات الحياة وتقنّعات الموت الذي يُعَدّ ظلًّا للحياة في لوحة يكتمل فيها التمثل، يشبّه كينونتنا بوجود الليل والنهار وأنها تكمن فقط في ذلك الشفق الغامض، الوهمي والهارب بين ذكرى النهار وتوق الظلام، نهاية الشمس واقتراب الشمس من النهاية. اكتشاف متعة اللانهائي في حلقة حلزونية تستبعد فكرة التحديد أو النهاية، ومن ثم فالسارد يحلم دومًا بالحصول على موطئ قدم، شيء ثابت وأزليّ، تنتابه كلّ تلك الكرب عندما يعي سجنه في الحياة، بؤس الـمنفى في أسوأ معنى مـمكن له. هو ما يدعو السارد إلى ألَّا يتوقّف أبدًا في أن يكون هناك حيث لا يتحقّق وجوده في مكان محدَّد أو في أماكن أخرى، نوع من الطوباوية في سعيه إلى التهرب من منفى العيش وقلق الحياة، لذلك تستتبّ فكرة الـموت عند بلانشو لتكتمل الصورة الناقصة للوجود.
إنّ الحسّ الغريب بعوالم السرد ومواطن السواد، بالانفعال السلبي والتخريبي الذي تُمثِّله كتابة الكارثة كما يُسميها موريس بلانشو، تتأتّى باحتكاكه بنصوص سردية شاذَّة ومنحرفة عن المألوف الإبداعي، عندما يفاجئنا بقراءات عن عالم العذاب البارد والواقع الليلي لكافكا، عالم معتم يخلو من الطبيعي والمعنوي ليحتلّ اليأس والكرب جُلَّ الفضاء السردي في نصوصه، ومن هنا تشكَّلت بؤرة اهتمام بلانشو بموضوعية السرد لدى كافكا بالعودة إلى حميمية يومياته، لياليه القاتـمة التي لا تُسمع فيها إلا صرخات رجل مفقود. فعلى أيّ قارئ لهذا النمط من السرد أن يجنِّد قلبه وعقله داخل التواءات النص ويحترس من ألغامه، ويتأمَّل جماليات الثقوب التي تـملأ شبكاته، النص السردي حينها يتَّخذ صفة الانفجارية، فهو على أُهْبة الفيض ألـمًا وفرحًا في الآن معًا، «إنّ من أعياه الألم أحياه الألم» كما قال لاوتسي، الألم والقسوة بوصفهما نبعًا فوارًا للإبداع السردي ومصدر طاقة للاستثناء الأدبي. وكما قال بلانشو من حُقَّ له الكلام عن نصوص كافكا، عليه أن يسمع إلى كلامه الـملغز، ببساطته وتعقيداته.
الكتابة: الأثر وأساليب الكتابة
فرادة الرؤية الأنطولوجية عند بلانشو تكاد تتحرَّر من قيد الشرطية الـمعرفية التي تلهث وراء رسم دقيق للماهيات والتصورات، بل تخلق حرجًا للكشف عن المفارقة التي تُعشِّش بداخلها. يتخذ من موضوع «الـموت» تمثيلًا لهذا التمدّد الانعكاسي للآلام، وذلك لا ينبع إلا من فراغ أو خواء سحيق ليتم الانغماس في الواقع الإنساني وطبقاته العميقة. وهذا الالتفات هو التفاف لانـهائي، لينكر أن يكون هناك أي ملجأ نلوذ إليه، وأيّ مـحاولة لذلك ستبوء بالفشل؛ لأن بلانشو يرى أنه لا يوجد شيء وهذا «اللاشيء» يحمل في عدميته وجودًا أكثر. مفاد هذا أننا لا نستطيع العيش على أكمل وجه أو التفكير باستكانة، نضالنا من أجل الحياة هو حقيقة عمياء أو كفاح من أجل الـموت، فالفخاخ التي تربطنا بالوعي وبالظاهريّ والـمرئيّ لا جدوى لها عندما تتضاءل أمام الشقّ اللامرئي للواقع والحياة. لهذا يرى بلانشو أنه إذا كان الـعيش أملنا فالـموت خلاصنا، فاليأس يلفُّنا والأمل يدمِّرنا، أملٌ نأمل أنْ يكون علامة على اليأس، الإنصات إلى اليأس بما لديه من قيمة تحرُّرية تدفعنا إلى المضيّ قدمًا حيث ما لا نأسف عليه هو بالضبط ما نسمّيه عيشًا.
تُسائِل الكتابة عند بلانشو فضاءً وجوديًّا مقلقًا في هدوئه، متأمِّلة بجمود هَسْهَسَة الـمحو الذي يكون الأثرَ الخفي لصفائح الـمكتوب. لماذا يكون المضي قُدمًا في مغامرة الكتابة؟ لماذا نتحرَّك إلى الأمام عبر الحبر من دون أن نخلِّف آثارًا وعلاماتٍ؟ الـمحو في الكتابة يجعلك تتحرّك بكلّ حرية، تتحرّك داخل الفراغ، لتتحرّى مكان البداية ولحظة الـمآل. هل الدائرة السردية أو كتابة الكتابة هي كشف لما يعرفه الإنسان من سرائر أنه لا يعرفها؟ هل الكتابة هي محاولة كتابة ما يتعذَّر كتابته؟ هنا يجد الكاتب نفسه عبر سلسلة الإرجاءات الـممدودة حائرًا مُدانًا أمام ما لا يمكن محوه.
إنّ الكلام الأدبي احتواء عدميّ؛ فاللغة تنبع فقط من الفراغ وليس من الامتلاء، فالسارد لا يتكلّم من أجل قول شيء بل «لا شيء» يتطلَّب الكلام، فاللاشيئية النصية تكمن في كونها كلامًا أو كتابة أصلية كون الكلام لا شيء. العدمية أو السلب أو اللايقين يمكن أن يتكلَّم أكثر من أيّ وقت مضى، عندما ننظر إلى ذلك الشيء الأساسي الذي يفتقر إليه أي شخص في أثناء التعبير عنه. عبر ذلك الفقدان اللامـحدود، أمام العوز والافتقار للصبر والانتظار، في نهاية الـمطاف كان يتصوَّر قدرته على اشتقاق قوة؛ من دون الصبر أو من دون نفاده بين اللاموافقة واللارفض، حيث يكون التخلي من دون التخلي، وهو ما يجعلها تتربع في منطقة من دون ألوان، وتتحرَّك داخل جمود وحزن مع اليقين الهادئ في شعوره أنه لن يكون قادرًا مرَّة أخرى على قول «أنا». كما يجد الكاتب نفسه في حالة سخيفة متزايدة من عدم وجود أيِّ شيء للكتابة، من عدم وجود وسيلة للكتابة، وكونها مقيّدة من جانب الضرورة المطلقة للكتابة دائمًا. يجب عدم اتخاذ أي شيء للتعبير عنه في أكثر الطرائق الحرفية. وأيًّا كان ما يودُّ أن يقوله، فإنه لا شيء. العالم، والأشياء، والمعرفة لها معالم عبر الفراغ فقط. هنالك تُلغَى الصُّور وتُبدَّد الاستعارات. تُكسَر الكلمات الـمفتوحة. من الآن فصاعدًا، ليس هناك سوى عُمق في العقل، أو قصيدة غير قابلة للتنفيذ، نص مفتوح على غياهب الوجود، في نوعٍ من الاعتراف بالطاعة الـمطلقة لهذا الغياب.
يصف بلانشو بانتظام تخريبي كبير فضاء «الأدب» كنَفْيٍ أو مَنْفى، مثل توبوس الصحراء أين يصبح الكاتب ضعيفًا تسكنه المخاوف والشطحات، لهذا تُعد الصحراء هندسة متميزة للحرية والعزلة واللاانتماء، هناك يُنفَى الأدب من العالم ومن إنجازاته القيمية، لتعفيه من مطالبه ومطالباته. الصحراء كمكان آمن يتنصّل من كل مسؤولية، ملجأ صامت ينتقل فيه المرء من العزلة إلى الخلوة، بساطة لا مبرّر لها أو خور يمكن للمرء عبرها أن يصل إلى أعماقه المنفية حتمًا. ومن ثم، تتجلّى الكتابة عبر اللحظة أو الخطفة أو وَمَضَات الحاضر، أين يلجأ الكاتب إلى عزلته، ليُلامس قلقه بنعومة ويُحدّث أطيافه بوقار. عندما يتسلّل إلى الزمن الـميّت الذي ليس بوقته أو وقت الآخر أو أيّ وقت مشترك بين أناه وهواه ولكن زمن شخص ما. استقلالية منزوعة أنطولوجيًّا لشخص موجود عندما لا يوجد أحد هناك. تبتغي الكتابة الوقوف عند تلك الظلال الـمعتمة، في ذلك الخارج الذي ينتمي إلى بُعدٍ لا يمكن إلقاء الضوء عليه، مكان خفي، خبيء، سرّ لا يمكن الكشف عنه. الكتابة تلتزم الصمت أمام ذلك الفضاء الذي لا بُعْدَ له لأنه غامض أساسًا، وكلّ ما يدخل إلى فوهته يصبح مجهول الهوية وغير صحيح وغير واقعي حتى لو كان نورًا، في تلك الخطفات أو الومضات نكون أقرب إلى مشهدية موتنا. هل ذلك الشخص يـمثل جزءًا منا؟ أم أننا ننتمي إليه؟ هل يقوم بانتحال شخصية هناك، حيث لا يوجد أحد، هناك ذلك الخارج الذي يمنع بطريقة أو بأخرى أي إمكانية لأي اتصال شخصيّ.
مارسيل بروست
لوتريامون
كافكا
مـصادر الـمقال:
1) Maurice Blanchot, Faux pas, Gallimard, 1943.
2) Maurice Blanchot, La part du feu, Gallimard, 1949.
3) Maurice Blanchot, Lautréamont et Sade, éditions Minuit, 1949.
4) Maurice Blanchot, L’espace littéraire, Gallimard, 1955.
5) Maurice Blanchot, L’entretient infini, Gallimard, 1969.
6) Maurice Blanchot, L’écriture du désastre, Gallimard,1980.
المنشورات ذات الصلة
خوليو كورتاثر كما عرفته
كانت آخر مرة رأينا فيها بعضنا هي يوم الجمعة 20 يناير 1984م، في غرفته الصغيرة بمشفى سان لازار في باريس، على مبعدة زهاء...
عن قتل تشارلز ديكنز
عشت الثلاثين عامًا الأولى من حياتي ضمن نصف قطر بطول ميل واحدٍ من محطة ويلسدن غرين تيوب. صحيح أني ذهبت إلى الكلية -حتى...
الأدب الروسي الحديث.. الاتجاهات، النزعات، اللغة
يشير مصطلح «الأدب المعاصر» إلى النصوص التي كتبت منذ عام 1985م حتى الوقت الحالي. إنه تاريخ بداية عملية البيرسترويكا،...
0 تعليق