تحت ظلال سوريا الجديدة.. مثقفون بقوا وآخرون عادوا بعد سنوات
بكاء على الأطلال أم استعادة لأحلام يقظة ببيت الطفولة الأول؟
سامر إسماعيل - كاتب سوري | مارس 1, 2025 | قضايا
عشرات المثقفين والفنانين السوريين عادوا إلى بلادهم بعد سقوط نظام الرئيس بشار الأسد، في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) الماضي. عادوا إلى أهلهم وعائلاتهم ومكتباتهم المهجورة. عادوا إلى المقاهي والمسارح والأحياء وصالات السينما التي تركوها قسرًا منذ 14 عامًا. بعضهم التقط صورًا مع الأماكن والأهل والأصدقاء، ثم غادروا قافلين إلى بلاد المغترب، وبعضهم الآخر فضّلوا المكوث وأن يعيشوا هذه التجربة بصمت وخشوع لأرواح آلاف الضحايا، مرددين عبارة محمود درويش: «إذا أعادوا لنا المقاهي، فمن يعيد لنا الرفاق؟» على المقلب الآخر هناك مثقفون بقوا في ديارهم، وعاشوا ظروفًا معيشية وأمنية قاسية في ظل القمع والخوف من الملاحقة.
«الفيصل» التقت أشخاصًا من الفريقين، وكان التحقيق الآتي:
ليس الأمر بيسير ولا هو حدث عادي، فما شهدته سوريا خلال عقد ونصف تقريبًا من التهجير والإبعاد القسري لكتّاب ومفكرين وفنانين وناشطين يعيدنا إلى زمن الحرب الأهلية الإسبانية (1936- 1939م)، وما فعله الدكتاتور فرانكو بأدباء إسبانيا ليس أقل مما فعله الطاغية بشار الأسد بكل من تجرأ على فضح جرائم نظامه البائد.
الناشر مروان عدوان صاحب ومدير دار ممدوح عدوان للنشر، يستعيد لحظة رحيله عن البلاد إلى دبي فيقول: «غادرت دمشق مضطرًّا عام 2013م، ومع مرور السنوات كانت المسافة بيننا تتسع بالإحساس بعدم إمكانية العودة، الذي تحول تدريجيًّا إلى يقين ثقيل، حتى جاءت لحظة سقوط الأبد. لم أفكر كثيرًا، وجدت نفسي في دمشق كما لو أنني لم أغادرها قط. كان الشعور الأول متداخلًا بين الحنين إلى دمشق التي أعرف ودمشق التي أتخيل، وبين الرهبة من كلتيهما. دمشق اليوم متعبة، بالكاد تلتقط أنفاسها، وندوب الحرب تملأ أحياءها المدمرة، وصور المفقودين تملأ جدرانها، والوضع الاقتصادي والمعيشي والخدماتي كارثي. ومع ذلك، ثمة شيء عنيد في دمشق، شيء يجعلها تصر على البقاء، وعلى النبض بالحياة».
لكن هل كانت زيارة مروان عدوان قرارًا شخصيًّا أم هي رغبة في المشاركة في استنهاض الحياة الثقافية للبلاد؟ نسأل ويجيب هو: «لا، لم تكن زيارتي قرارًا على الصعيد الشخصي فقط، بل هي رغبة في المشاركة في إنعاش الحياة الثقافية في دمشق وفي كل سوريا. فالثقافة ليست رفاهية، وليست مجرد كتبٍ عن البلاد تُنشر خارجها، بل هي ارتباط بالمكان، بإيقاعه وتاريخه ومستقبله. غياب الكثير من المثقفين السوريين لسنوات طويلة لم يكن اختيارًا، بل كان نتيجة مناخ خانق صنعته الحرب والرقابة والخوف. وكما كانت الثقافة والكلمة في قلب الصراع من أجل الحريات، فإن دورهما في إعادة البناء اليوم لا يقل أهمية».
ماذا عن انطباعات مروان عدوان بعد العودة إلى العاصمة السورية بعد غياب؟ نسأل الناشر السوري ويجيب: «ما شاهدته في دمشق لم يكن فقط بقايا الخراب، بل إرادة جماعية لإعادة تشكيل المشهد الثقافي. الفاعلون الثقافيون الذين قابلتهم، والأدباء والفنانون الذين استمروا في الإنتاج رغم كل شيء، حتى القُرّاء الذين يبحثون عن الكتب في زوايا المدينة، وظهور الكتب الممنوعة بسرعة على أرصفة باعة الكتب. كل ذلك كان دليلًا على أن الثقافة لم تمت، بل كانت تنتظر لحظةً تستعيد فيها مكانها الطبيعي. بالنسبة لي التحدي الحقيقي ليس في عودة المثقفين إلى سوريا فقط، بل في قدرتنا على خلق فضاء ثقافي حر، بعيد من الوصاية والرقابة التي خنقت الإبداع لعقود. الحلم بمعرض كتاب دولي في دمشق يحوي الكتب كلها، وبمنتديات فكرية مفتوحة، وبحوار ثقافي لا يهاب الخطوط الحمراء، لم يعد رفاهية، بل ضرورة».

ذلك الأحد
من زاوية أُخرى يخبرنا الروائي خليل صويلح بانطباعه وهو الأديب الذي فضّل البقاء في بلاده طيلة سنوات الثورة السورية، عاكفًا على الكتابة ولقاء الأصدقاء في مقهى الروضة: «ذلك الأحد، كان على الكائن الخائف، الكائن المذعور من ظلّه، أن يستيقظ على هتافٍ آخر. لم يكن منامًا إذًا، إنما حقيقة ساطعة كشمس ذلك اليوم من ديسمبر، يقول الروائي صويلح ويضيف: «هكذا تكشّف المشهد تدريجيًّا عن زلزال، تبعًا لتحطّم التماثيل في الساحات، وارتفاع منسوب البهجة في الوجوه. ها هي دمشق أُخرى تزيح الحراشف السميكة عن جلدها وتتنفس هواء الحرية. ولكن مهلًا، ماذا يفعل المريض الذي اعتاد غرفة الإنعاش في هذه المصحة البشرية؟ فقد كان التمرين شاقًّا للخلاص من نصف قرن من الطغيان في يومٍ واحد».
عمومًا، لكل سوري حكايته الشخصية مع الخنوع والإذلال وتكميم الأفواه، يستطرد صويلح ويمضي قائلا: «بدا الأمر مثل خطأ في الترجمة، وها نحن نفتش في المعجم عن التوصيف الدقيق لصورة دمشق ما بعد انتهاء عهد الطغيان: حقل من عبّاد الشمس، أم عتمة باهرة؟».
لكأنني خرجتُ ليومين ثم عدتُ
الشاعر والكاتب عدنان العودة فضّل أن يعلق على إيابه من سنوات المنفى الطويلة بالقول شارحًا: «لكأنني خرجتُ ليومين ثم عدتُ، بيتي لا يزال في مكانه، وألعاب ابني الورد الذي يعيش في هولندا. مكتبتي التي يكسوها الغبار تعتقت أكثر. الصحب هم هم. ولكن الصبر رشح على وجوههم مِلحًا. أصوات الناس والباعة، وكأن البلاد لم تمر بهذه الكوارث. عجيب أمر هذه المدينة، ما إن تدخلها حتى تنخرط في تفاصليها؛ أزمة الكهرباء، التدفئة، شبكة الاتصالات، رائحة الفيول في سماء المدينة، هموم وقلق صناع الدراما، من هم الحُكام الجدد؟ وسوريا إلى أين؟ ولكنك تقول ما قاله محمود درويش فيها: (نحن والأبدية سكان
هذا البلد)».
يسيطر القلق على كثيرين، وخصوصًا من لا يزالون يعيشون في الخارج، يعقب عدنان العودة ويقول: «لكنني مطمئن إلى أن الأمور ستأخذ مجراها، وستستعيد دمشق مكانتها التاريخية، ولذا فهي بحاجة لدعم الأخوة العرب. أنا شاعر وكاتب دراما، ولا تشغلني السياسة كثيرًا، بل يشغلني علم وفن الاجتماع، وميزة السوريين أنهم قادرون على الاجتماع بعد أي كارثة. أنا لا أقيس فداحة وحجم الكوارث التي مرت بها بلادي، ولكنني أعلم علم اليقين أنها قادرة على التجاوز والبقاء كما فعلت طوال سيرتها خلال ثمانية آلاف سنة».

المكان يتحدث معنا
الكاتبة والناقدة السورية فدوى عبود التي آثرت البقاء في البلاد تبدو علاقتها بالمكان ملتبسة، فهي كما تقول «كائن نوستالجي»، لكن هذه العلاقة مرّت بعد 2011م بتحولات كثيرة: «كان ذلك أشبه بما اختبره آدم حين قتل قابيل أخاه هابيل، يقال: إن الأرض (رجفت بما عليها سبعة أيام). فبعد 2012م أخذ المكان يتحول إلى كابوس، تهدمت البيوت وتحولت سوريا إلى مقبرة كبيرة. تلاشى البيت، وكُسرت الليمونة في حديقته. وربما ماتت القطة أو هربت، في كل حال لم يعد هناك أحد. فقدت روابطي بالمكان وبدأت بيننا علاقة من نوع مختلف، يمكنني القول: إنها كابوسيّة. شعرتُ أنه يوجّه لي رسالة صامتة. فالمكان أيضًا يتحدث معنا، يرفضك، يخبرك بدون كلمات أنه لم يعد قادرًا على استيعابك. لم تعد سوريا وطنًا. صارت بالنسبة لي متاهة. صحراء من العدم أتوقع في كل لحظة أن تبتلعني رمالها المتحركة. قد يبدو وصفي هذا عاطفيًّا، لكن هذا حرفيًّا ما شعرتُ به. أذهب إلى مدرسة باردة ورمادية، جدرانها متسخة، مديرها أحمق ومتعجرف. وهنا اختنقت حرفيًّا».
في هذه الأثناء تركت فدوى عملها وعاشت حالة طفو غريب- كما تخبرنا: «انغمستُ في القراءة والكتابة، وبدأتُ مرحلة ثانية من علاقتي بالمكان، حالة (تروما). كنتُ أشعر أني إن غادرتُ البيت لسبب ما، سأعود فلا أجده، شعرتُ للحظة بأن البيت قد يتحرك أو يغادر فعلًا، ولأن ما تقاومه في أحيان كثيرة يوجد بداخلك، فقد انقطعت عن زيارة مسقط رأسي ثلاث عشرة سنة، لكنه الأخير لم يمتنع عن زيارتي، عبر الكوابيس، تارة هاوية، ومرة مُرتفع، وفي أخرى مقبرة جماعية. في أحلامي دائمًا أبحث عن الناس في الأمكنة التي كانوا فيها».
وعن لحظة سقوط النظام في 8 ديسمبر تخبرنا القاصّة السورية عبود: «في الصباح التالي تمشيت في شوارع دمشق، شهدتُ تبدل المكان بشكل سريالي، أعلام جديدة على جدرانه، كلمات ما كنا نجرؤ على كتابتها. فكرت عندها بزيارة مسقط رأسي، لكني افتقرت للشجاعة رغم أني لم أفتقر للشوق، أخشى أن يقول لي أحدهم ما قاله ألفريدو لتيتو بطل سينما بارديسو: (ما أتيت لتبحث عنه ليس موجودًا، ما كان ملكك قد ضاع). علاقتي بالمكان مربكة وغير مستقرة؛ إذ إني عاطفية جدًّا بهذا الخصوص. أحيانًا تصبح أحلامي أكثر رأفة وإنسانية، فأرى نفسي في الدار، وعند الباب، أمي توقد الجمر في المنقل، القطة تتابع تفتيت قرص الكبة والبحث عن قطع اللحم، الليمونة هناك تحمل ثمرة صغيرة هي ذاتها منذ سنوات، متيبسة في الباب. أعي أن ذلك حلم، يعرف الحالم أنه يحلم. بخلاف من يعيش كابوسًا».
سوريا تحتاجنا جميعًا
المخرج السينمائي عبده مدخنة سجّل شهادته هو الآخر عن دمشق التي غادرها منذ عام 2013م، ليعود إليها حاملًا كاميراه لتحقيق فِلْم عن معتقلي سجن صيدنايا الرهيب: «دمشق المدينة والبلد بأكمله يحتاج إلى كل شيء تقريبًا. لا شيء فيه يشبه هذا العصر، وكأن حكامه كانوا قطعان من الجراد فأتوا على الأخضر واليابس. تكاد ترى في وجوه الناس تجاعيد قرون وليس مجرد سنوات الخراب التي مارسها الوريث الساقط. سوريا اليوم تحتاجنا جميعًا وليس فقط لصورنا في لقطاتٍ تذكارية نضيفها إلى ألبومات عابرة».
أما الشاعر طه خليل الذي غادر دمشق في بداية ٢٠١٢م ليعود إلى بلدته في أقصى الشمال الشرقي، ومنها إلى ألمانيا فيقول: «تركت دمشق وبيتي ومكتبتي ولوحاتي وذكرياتي وأصدقائي إلى غير رجعة، وصرتُ أتتبع أخبار أصدقائي من بلاد بعيدة تركوا بدورهم دمشق وأقاموا في منافيهم الجديدة. ثم وبعد أشهر بدأت الاصطفافات السياسية تطفو على السطح».
استمر الحال مع طه خليل على هذا المنوال لاثنتي عشرة سنة، إلى أن علم أن اسمه قد حُذِفَ من لوائح المطلوبين. حينها قرر السفر إلى أوربا في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024م. وعن هذا يقول: «مررتُ بدمشق لعدة أيام لأنتقل منها إلى عمان، ومن ثم إلى ألمانيا. ما وجدته وقتها في دمشق خلال تلك الأيام القليلة كان مدهشًا ومحزنًا وبائسًا. دمشق التي سرتُ في شوارعها مع الأصدقاء وتنقلنا بين مطاعمها ومقاهيها ومراكزها بدت فقيرة تعيش في الظلام، وجوه الناس حزينة بائسة، ينظرون إليَّ بحسد ظاهر كوني أعيش في مناطق الجزيرة السورية ونأخذ رواتبنا بـ«الدولار الأميركي» ولدينا ما يكفي من النفط والغاز والخبز».
لم يجد طه خليل من الأصدقاء إلا قلة قليلة ما زالوا يعيشون في دمشق، وهم يمسكون على جمرة الانتظار. يضيف قائلًا: «غادرتُ الشام إلى برلين، وفي ليلة الثامن من يناير كنت مع صديقي الفنان التشكيلي عبد مجدل البيك نتابع الأخبار حتى علمنا أن النظام قد انهار. عدتُ بعد شهر من انهيار النظام، وللمرة الأولى لم أشعر بالرعب من الموظف الجديد الذي تفحّص جواز سفري، وفي الطريق إلى دمشق كانت مشاهد الدمار والسيارات العسكرية المحترقة على جانبي الطريق تقول لي: أنت لا تعود إلى دمشق، بل إلى مدينة مجهولة، مدينة هي نفسها لربما قد أضاعت اسمها، ومن جديد لم أتمكن من أن أظل أكثر من خمسة أيام. شعرتُ بدمشق كما لو أنها تعاتب الجميع، ولأنني لم أتمكن من الرد على أسئلتها الكثيرة تركتها خلفي من جديد. لا أدري إن كانت دمشق ستتعرف على نفسها اليوم، كما لم أتعرف عليها عند عودتي الأخيرة».

منام العودة
الكريوغراف والمخرجة المسرحية مي سعيفان كانت قد اخترعت لنفسها هواية غريبة منذ مغادرتها البلاد قبل 14 عامًا، هواية تقول: إنها كانت تربطها ببلادها بطريقة سرية: «دون أن أكون امرأة مرمية في منتصف دوائر العنف والواقع. كان لي هواية حمتني كثيرًا، وحمت كثيرين من حولي. لقد اخترعتُ هواية توثيق منامات وكوابيس السوريات والسوريين. هواية تحولت مع الوقت لهوس. ففي السنوات الأخيرة من إقامتي في ألمانيا اشتغلت على منام/ كابوس متكرر جدًّا لدى أغلب المغتربين السوريين، وهو منام العودة إلى سوريا، ونتج عن هذا البحث عرض مسرحي يحاكي الواقع الافتراضي، وكان بعنوان: (كيف أنا هون؟). نظريًّا، وبدون تخطيط، كنت أحضّر نفسي للحظة العودة، وأشارك الكثيرين تحضيراتهم أو تخيلاتهم لتلك اللحظة».
وتسترسل مي فتقول: «فجأة سقط النظام، وبدأتُ أخطط وأنظم وقتي وأرتب للسفر إلى دمشق، فأنا في ألمانيا لدي العديد من الالتزامات والأشغال والمواعيد. كنتُ مرتبكة للغاية، لكن لا أعرف لأي سبب. بعدها حسمت أمري، وعدتُ إلى سوريا». كان الوقت ليلًا والعتمة تحيط بالمكان، تقول مي سعيفان وتضيف: «هذا بالنسبة لي كان جيدًا. عندما دخلت عبر سيارة أجرة نحو أوتوستراد المزة، وبعده إلى ساحة الأمويين وسط العاصمة السورية، عبرتُ في زحام جسر الحرية، (الرئيس سابقًا)، كان يسيطر عليَّ إحساس عادي، فمن الطبيعي والبديهي أن يعود المرء إلى بلده كأي مسافر يغيب سنوات ثم يرجع! وأن كل ما مررت به خلال ١٤ سنة من المنفى هو الاستثناء وغير الطبيعي، فمن البديهي أنني كنتُ أرفض تلك الفكرة كل هذه السنوات. وشعوري الضمني كان يقول لي: يجب في يوم من الأيام أن أكون في دمشق».
«مشيتُ كثيرًا في شوارع دمشق حتى طلوع الفجر»، تقول مي وتضيف: «في اليوم التالي استيقظتُ على صوت الأذان. كان صوت المؤذن أقرب إلى قلبي. استيقظتُ وقد شبعتُ نومًا بعد ثلاث ساعات فقط من خلودي إلى السرير، وشعرتُ أنني جاهزة لكل شيء. دمشق مثل جدتكَ أو أمك. تحبك أكثر من أمك. أنت مشتاق لها ببساطتها. مشتاق لحكمتها العميقة وعدم اكتراثها بالاستعراض. وهي مدركة تمامًا أن وجودها وحده كافٍ ليعطيك حبًّا وحنانًا يصل حرفيًّا لأولادك، بل ربما لجيلين من أحفادك المستقبليين».
0 تعليق