يرى الدكتور سعيد بن فايز السعيد، المتخصص في الحضارات واللغات السامية، الذي فاز بجائزة الملك فيصل للدراسات الإسلامية مناصفة مع الدكتور سعد الراشد، في النقوش الأثرية براهينَ دالة على تطور الفكر العربي قبل الإسلام، وتعكس مضامينها ثراءً فكريًّا وثقافيًّا كان سائدًا آنذاك. والنقوش من وجهة نظره ليست تقاريرَ عابرةً للأحداث أو رسومًا فنية بدائية، بل تعبر عن رؤية الإنسان لنفسه وتفصح عن وعيه الوجودي لدورة الزمن وفكرة الخلود وعلاقته بالمكان.
كما يرى الدكتور السعيد في النقوش الأثرية في الجزيرة العربية مصدرًا ثريًّا لفهم التنوع الثقافي وأنماط الحياة، ويوضح أن النقوش تثبت أن البلاد العربية لم تكن بمعزل عن محيطها الجغرافي، وأن الجزيرة العربية لم تكن مجرد منطقة هامشية. وفي الوقت نفسه، كما يقول في حوار مع “الفيصل”، تتضمن تلك النقوش تعابير عميقة عن فلسفة الإنسان القديم ورؤيته للحياة والعالم، وتحمل في طياتها أبعادًا رمزية وفلسفية تتجاوز المعنى المباشر. ويخلص السعيد من هذه النتيجة إلى ضرورة إحياء التراث من أجل فتح حوار بناء بين الماضي والحاضر يستلهم منه الفرد والمجتمع قيم الأسلاف وإنجازاتهم بجميع أشكالها.
كما يتحدث السعيد عن دور ترجمة الثقافة والفكر العربي القديم بجميع أشكاله إلى اللغات العالمية في تعزيز حضور وفهم العالم للحضارة العربية، ودور التنقيب في الكشف عن الأدلة المادية من عمارة وفنون ونقوش مكتوبة تدلل على التاريخ الثقافي وأنماط المعيشة والتطور والتغير الاجتماعي. ومن المواضيع ذات العلاقة بالتراث والنقوش، يرى السعيد أن استخدام تقنيات مثل التوثيق الرقمي لمحتوى النصوص يسهل حفظها من التلف، ويساهم في الوصول السريع إلى المعلومات، كما أن توظيف تقنيات البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات اللغوية يعزز من سرعة ودقة تحليل كميات كبيرة من النقوش والرموز القديمة.
وتطرق الحوار إلى العمل الميداني في المواقع الأثرية الذي يُعد تجربة غنية ومثيرة مصحوبة بالتحديات، لكنه أمر ضروري، كما يطرح السعيد، ولا بد منه لمن يعمل في مجال الآثار.
أهمية النقوش الأثرية
● بداية؛ نبارك لكم حصولكم على جائزة الملك فيصل في فرع الدراسات الإسلامية، وموضوعها «الدراسات التي تناولت آثار الجزيرة العربية»، وذلك عن مجمل أعمالكم العلمية، من خلال دراستك العميقة لآثار الجزيرة العربية. كيف ترى دور الكتابة والنقوش القديمة في بناء هوية ثقافية وحضارية لهذه المنطقة، في ظل غياب الوثائق التاريخية المكتوبة بشكل واسع في العصور الأولى؟
■ الكتابة والنقوش القديمة تؤدي دورًا حيويًّا في بناء الهوية الثقافية والحضارية للإنسان في الجزيرة العربية، وبخاصة في ظل غياب الوثائق التاريخية المكتوبة بشكل واسع في العصور المبكرة؛ لكون هذه النقوش سجلات تاريخية تحفظ معلومات مهمة وشواهد مادية عن تطور حضارة وثقافة الإنسان والمكان، وتقدم معلومات عميقة عن حياة الإنسان القديم وفلسفته في الحياة. مما يساهم في تأسيس ذاكرة مجتمعية تستحضر الأحداث التاريخية لربط الحاضر بالماضي وبناء جيل واعٍ بجذوره ومعتزّ بمرجعيته الحضارية وبهويته الثقافية.
● وهل يمكن عدّ النقوش شواهدَ حيةً على تطور الفكر العربي قبل الإسلام؟
■ بالتأكيد، النقوش الأثرية تُعد براهين دالة على تطور الفكر العربي قبل الإسلام، وتعكس مضامينها ثراءً فكريًّا وثقافيًّا كان سائدًا آنذاك، وتكشف من جانب آخر عن القيم وتطور الأفكار. فمن خلال دراسة هذه النقوش وتحليل مضامينها، يمكن أن نفهم بشكل أفضل كيف كان الإنسان العربي القديم يفكر في قضايا مثل: الدين، والفلسفة، والاجتماع، والسياسة، والاقتصاد، والفن، واللغة، والعلوم بجميع أشكالها.
● تتجاوز أبحاثك في النقوش الأثرية حدود التاريخ التقليدي، لتلامس أبعادًا فلسفية تتعلق بمفهوم الزمن والمكان في الذاكرة الجماعية لشعوب الجزيرة العربية. كيف ترى علاقة الإنسان في تلك العصور بمحيطه الطبيعي والاجتماعي من خلال ما خلّفته تلك النقوش؟
■ النقوش الأثرية في الجزيرة العربية ليست مجرد شواهد تاريخية وحسب، بل هي نافذةً فريدة تعبر عن فهم علاقة الإنسان القديم بمحيطه الطبيعي والاجتماعي، وتكشف عن أبعادٍ فلسفية عميقة تتجاوز السرد التاريخي التقليدي إلى بناء علاقة سمتها التعاون والتضامن مع مكونه الاجتماعي والتكيف مع الظواهر الطبيعة التي أعتبرها الأساس في تلبية احتياجاته الحياتية والروحية. وهكذا فإن هذه النقوش ليست فقط تقارير عابرة للأحداث أو رسومًا فنية بدائية، بل إن مضامينها تعبير عن رؤية الإنسان لنفسه، وتفصح عن وعيه الوجودي لدورة الزمن وفكرة الخلود وعلاقته بالمكان، وكيفية تفاعله مع الطبيعة والعالم من حوله.
● بالنظر إلى كون النقوش مصدرًا رئيسًا لفهم تاريخ الجزيرة العربية، كيف يمكننا استقراء الفروقات الثقافية بين الشعوب التي سكنت هذه المنطقة في عصور ما قبل الإسلام، ولا سيما أن هذه النقوش تشكّل مرآة لواقع اجتماعي وسياسي أكثر تعقيدًا مما نتصور؟
■ النقوش الأثرية في الجزيرة العربية هي على الإجمال مصدر غني لفهم التنوع الثقافي وأنماط الحياة التي تنشأ وفق تطور عوامل تاريخية وجغرافية. وتقدم محتوياتها صورًا معقدةً ومتعددة الأبعاد للفروقات الثقافية بين الشعوب العربية القديمة، وتعكس ثراءً ثقافيًّا وحضاريًّا متنوعًا في اللغة والفروقات اللهجية، وفي الخط وأنظمة الكتابة، وفي الفكر الديني والممارسات العقدية، وفي البنية الاجتماعية والأساليب الفنية.

دور الترجمة والتنقيب والتقنيات الحديثة
● نشرت العديد من أبحاثك القيمة بلغات مختلفة، فهل ترى أن الترجمة قد تساهم في تعزيز فهم العالم لتاريخ الجزيرة العربية وحضارتها، أم إن هناك دائمًا تحديات لغوية وثقافية تضعف من عمق الرسائل الأصلية؟
■ لا جدال في أن ترجمة الثقافة والفكر العربي القديم بجميع أشكاله إلى اللغات العالمية يؤدي دورًا حاسمًا في تعزيز حضور وفهم العالم للحضارة العربية، مما يساهم في توسيع نطاق المعرفة والتفاهم بين الثقافات ويعزز من حضور الحوار الحضاري والتفاهم المتبادل بين الثقافات. ولكن الترجمة في الوقت نفسه قد لا تخلو من بعض التحديات اللغوية والثقافية، مما يؤثر في عمق الرسالة وفهم المضمون، خصوصًا أن بعض المفاهيم والمصطلحات في اللغة العربية القديمة قد لا يكون لها مقابل دقيق في اللغات الأخرى، أو أن يكون ارتباطها بسياق ثقافي يستعصي فهمه على المترجم، أو بُعد تخصص المترجم نفسه عن مجال الحقل العلمي المراد ترجمته؛ مما قد يؤدي إلى فقدان بعض الدلالات الثقافية أو إساءة فهمها.
● مع تقدم التقنية وتطور أدوات البحث، هل تعتقد أن الحفر والتنقيب في المواقع الأثرية يمكن أن يضيف بُعدًا آخر لفهمنا لهذه النقوش القديمة؟
■ التنقيب الأثري ليس مهمًّا فقط في تقديم مزيد من فهم مضامين النقوش، ولكنه جزء أساسي في الكشف عن الأدلة المادية من عمارة وفنون ونقوش مكتوبة تدلل على التاريخ الثقافي وأنماط المعيشة والتطور والتغير الاجتماعي لحضارة أصحاب الموقع، ولكون النقوش ما هي إلا وثائق تعكس ثقافة سكان المكان بجميع أشكالها، فإن الكشف عنها في مواقها وربط مضامينها مع مكونات الموقع الأثري المادية يسهل من تفسير مفرداتها، ويعزز من دقة إعادة بناء السرد التاريخي لمعطياتها الفكرية والاجتماعية.
● كيف ترى أهمية توظيف التقدم العلمي في تفسير الرموز واللغات القديمة بشكل يعكس فهمًا أعمق لواقع تلك العصور؟
■ تَقدُّمُ التقنيةِ وتَطوُّرُ أدواتِ البحث يفتح اليوم آفاقًا جديدة ومهمة لمزيد من فهم النقوش القديمة، ويوفر استيعابًا أعمق وأكثر دقة لواقع العصور القديمة. فمن من خلال استخدام تقنيات مثل التوثيق الرقمي لمحتوى النصوص يسهل حفظها من التلف ويساهم في الوصول السريع إلى المعلومات، وتوظيف تقنيات البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات اللغوية يعزز من سرعة ودقة تحليل كميات كبيرة من النقوش والرموز القديمة، ويتيح كذلك التصوير ثلاثي الأبعاد إعادة إنتاج نماذج دقيقة تمكن الباحثين من قراءتها بشكل أكثر دقة والتغلب على كثير من التحديات التي تواجه تفسير محتويات النقوش ومضامين الرموز، وتصبح مع ذلك دراسة المادة العلمية أكثر جودة في الطرح والتحليل.
شواهد على تفاعل الحضارات القديمة
● تُعَدُّ النقوش الأثرية التي اكتُشِفَت في مناطق الجزيرة العربية شاهدة على تفاعل الحضارات القديمة. كيف يمكن أن تُسهم هذه الاكتشافات في إعادة صياغة النظرة السائدة حول العلاقات الثقافية بين الجزيرة العربية وبقية أجزاء العالم القديم، وبخاصة فيما يتعلق بتبادل المعرفة والفكر؟
■ لا شك أن المضامين المعرفية للنقوش التي كشف عنها وبأعداد كثيرة في مواقع متفرقة من جزيرة العرب وكتبها شهود عيان تُسهم بشكل واضح في إعادة قراءة النظرة السائدة حول العلاقة الثقافية لسكان الجزيرة العربية مع الآخر. فهي تُنبِئ أن سكان بلاد العرب لم يكونوا بمعزل عن محيطهم الجغرافي، بل إنها تعيد تأكيد أن الجزيرة العربية لم تكن مجرد منطقة هامشية، وتؤكد من جانب آخر أنها كانت مركزًا حضاريًّا نشطًا ساهم بقدر وافر في تشكيل الحضارة الإنسانية القديمة، وذات ارتباط وثيق مع الحضارات الكبرى في العالم القديم من خلال شبكة معقدة من التبادلات الثقافية والفكرية والاقتصادية التي تعكس في مجملها دور الإنسان في الجزيرة العربية بوصفه منتجًا للفكر والثقافة، وأنه قد أثر وتأثر بحضارات محيطه الجغرافي وساهم بدور فاعل في تشكيل تطور المعرفة الإنسانية.
● إن نقوش الجزيرة العربية ليست مجرد رسائل أو تعابير عابرة، بل هي بمنزلة نوافذ تنفتح على أسرار الإنسان القديم وفلسفته في الحياة. كيف ترى الفلسفة الكامنة وراء بعض النقوش التي عُثِرَ عليها؟ وهل تعتقد أن هذه النقوش تحمل رسائل رمزية تتجاوز المعنى الظاهر؟
■ النقوش الأثرية في الجزيرة العربية ليست مجرد سرد لأحداث الماضي أو رسالة مباشرة، بل هي تتضمن تعابير عميقة عن فلسفة الإنسان القديم ورؤيته للحياة والعالم من حوله. فهذه النقوش تحمل في طياتها أبعادًا رمزية وفلسفية تتجاوز المعنى المباشر، وتكشف عن تفكير الإنسان القديم في قضايا مثل: علاقته بالطبيعة من حوله، واتخاذ ظواهرها الطبيعية مصدر إلهام، وتمنحه القوة والحماية، وتلبي بعضًا من احتياجاته الروحية والنفعية، وتلقي مزيدًا من الضوء على فهم تفكير ذلك الإنسان القديم لطبيعة الوجود والغرض من الحياة، وتكشف عن أسراره الخاصة والعامة وقيمه ومعتقداته وهرمية مجتمعه.
أهمية الدراسات التاريخية وتحدياتها
● كيف يمكن أن تسهم دراستك في الآثار في تعزيز مفهوم الهوية الوطنية في العصر الحديث؟ وهل ترى أن العودة إلى جذورنا التاريخية من خلال التراث قد تساهم في تجديد الوعي الثقافي العربي المعاصر؟
■ دراسة التراث عامة تسهم بشكل كبير في تجديد الوعي الثقافي المعاصر، وتُمَكّن من بناء هوية ثقافية متصلة بجذورها التاريخية. خصوصًا أن التراث أضحى اليوم ليس مجرد شواهد على الماضي البعيد، بل هو في جوهره يحمل جذورًا عميقة تعكس الثراء الحضاري والتنوع الثقافي للإنسان الذي عاش في الجزيرة العربية، وإحياء التراث هو بكل تأكيد يفتح حوارًا بناءً بين الماضي والحاضر يستلهم منه الفرد والمجتمع قيم وإنجازات الأسلاف بجميع أشكالها. وفي تبنيها في السياق المعاصر ما يسهم في تأسيس ذاكرة جمعية يتحقق معها مبدأ الوحدة والانسجام في المجتمع، ويترسخ من خلالها مفهوم الهوية الثقافية الوطنية المرتكزة على البعد الثقافي المشترك.
● في ضوء تجاربكم الشخصية في الدراسات الأثرية والنقوش، كيف ترى تحديات العمل الميداني في المواقع الأثرية في المناطق النائية؟
■ العمل الميداني في المواقع الأثرية هو في حد ذاته تجربة غنية ومثيرة، وهو أمر ضروري ولا بد منه لمن يعمل في مجال الآثار، ولكنه أيضًا يواجه مجموعة من التحديات التي تتطلب استعدادًا جيدًا وقدرة على التكيف والمرونة مع الواقع والظروف الطارئة. وبناءً على تجارب شخصية في هذا المجال، يمكن أن أذكر بعض الأمور، مثل: صعوبة الوصول إلى المواقع الأثرية؛ إما لوقوعها في أماكن وعرة أو في مناطق نائية، وكذلك التعرض لقسوة المناخ بحرارته أو برودته الشديدة، وصعوبة نقل المعدات اللازمة لإنجاز العمل، ولكن كل ذلك وغيره يمكن تجاوزه بالتخطيط المسبق والجيد قبل بدء أي عمل ميداني.
● كيف تتعاملون مع مسألة الفجوة الزمنية التي تفصلنا عن الشعوب التي تركت تلك النقوش؟ وهل تجد أن هذه المسافة الزمنية تُعقد عملية الفهم الكامل للنقوش أم إنها تضيف لها أبعادًا من الغموض تزيد من جاذبيتها وعمقها؟
■ البعد الزمني بين الواقع المعاصر وبين من كتبوا تلك النقوش هو في حد ذاته تَحَدٍّ كبيرٌ، ويضيف مزيدًا من التعقيد للفهم الكامل لمحتوى بعض النصوص، ولكنه في الوقت نفسه مكمن للجاذبية والإثارة. والحقيقة أن تجاوز أثر هذه الفجوة الزمنية يتطلب استحضارًا لجملة من الأدوات البحثية، لعل من أهمها فهم السياق الثقافي والاجتماعي والتاريخي لأصحاب تلك النقوش، وتطبيق مناهج متعددة التخصصات تجمع بين علم الأنثروبولوجيا وعلم اللغة المقارن، وعلم الصوتيات، وعلم الدلالة، وعلم التاريخ، والتحليل المقارن؛ وكل ذلك وغيره يساهم في بناء صورة أكثر شمولية ودقة في استيعاب مضامين النصوص ومعطياتها الثقافية، ويضيق من مسألة البعد الزمني بين الماضي والحاضر.

النقوش القديمة وإعادة قراءة التاريخ
● هل تعتقدون أن مسألة التفسير اللغوي للنقوش القديمة هي مسألة نظرية بحتة، أم إن هناك أبعادًا فكرية وثقافية تؤثر في كيفية فهمنا وتفسيرنا لتلك الكتابات؟
■ تفسير الوثائق القديمة على الإجمال هو عملية تكاملية تجمع بين النظرية والتطبيق، وتعتمد بشكل رئيس على فهم عميق للسياقات الثقافية المختلفة التي أنتجت الوثيقة في الزمان أو في المكان. ولهذا فإن دراسة الوثائق القديمة مهمة متعددة التخصصات وتتطلب أدوات ومنهجيات متنوعة، لعل من أبرزها ضرورة التعرف ابتداءً إلى موضوع النص؛ أهو نص تشريعي وقانوني، أم هو نص ديني عقدي، أم إنه سياسي أو اقتصادي، أم هو شخصي تذكاري، وفي ضوء ذلك يمكن فهم لغة النص وتفسير أبعاده الحضارية بشكل شامل وأكثر دقة.
● تظنون أن فهمنا للنقوش القديمة يمكن أن يعيد تشكيل مفاهيمنا حول تاريخ البشرية وحضارتها؟ وهل يمكن لهذه النقوش أن تُسهم في تغيير الصورة السائدة عن التاريخ القديم؟
■ بالتأكيد، النقوش القديمة بما تحمله من مضامين ثقافية تُعَدّ مصادرَ ماديةً موثوقةً لكتابة التاريخ الإنساني؛ لكونها كتبت من قبل معاصرين وشهود عيان على أحداث تلك الحقبة الزمنية، ولهذا فهي تقدم صورة صادقة عن حياة الشعوب والأحداث التي شكلت مسار التاريخ، سواء في تفاعلها مع بيئاتها المكانية وعلاقاتها بمحيطها الحضاري، أو في ممارساتها العقدية، أو في كشفها عن حياة فئات مجتمعية لم تعط حقها في السرد التاريخي، أو في تفاصيل حياتها اليومية وابتكاراتها التقنية. وهكذا فمن خلال رواية النقوش القديمة يمكن تشكيل فهمنا من جديد للماضي وإعادة قراءة التاريخ وفق أدلة مادية وكما وثقه أصحابه، مما يساهم في تصحيح الصورة النمطية والمعلومات الخاطئة التي روتها فرضيات الدارسين، أو الكتب والمدونات التاريخية المعتمدة على النقل والذاكرة الشفوية عن التاريخ العربي القديم.
رؤية المملكة للتراث
● كيف ترون دور التراث في توجيه رؤية المملكة 2030 في المجال الثقافي؟ وهل تعتقد أن هذه الرؤية يمكن أن تستفيد بشكل أكبر من التراث الأثري والنقوش القديمة لتعزيز مفهوم الهوية السعودية الحديثة والتنمية المستديمة؟
■ بالنظر في أهداف رؤية المملكة 2030 عامة، يتبين أنها لا تعد التراث على الإجمال مجرد جزء من الماضي، بل تعدّه مكونًا رئيسًا وحيويًّا في بناء المستقبل، وترى حضوره في المشهد المعاصر للتنمية في المملكة العربية السعودية سوف يسهم في شمولية تحقيق مستهدفات الرؤية الثقافية والاقتصادية من خلال تعزيز الهوية الوطنية وترسيخ حضورها في الوعي الجمعي، وتوظيف مخرجات التراث في التنمية الاقتصادية المستديمة من خلال خلق منتجات صناعية تستلهم التراث وترتبط به، أو من خلال تنشيط السياحة التراثية وما ينتج عنها من تنويع في مصادر الدخل وخلق فرص عمل جديدة.
● في ضوء أبحاثكم المستمرة في مجال الآثار، هل تجد أن هناك حاجة لتطوير مناهج تعليمية جديدة تركز على الدراسات الأثرية في الجامعات السعودية؟
■ نعم، تطوير مناهج التعليم وخصوصًا في ظل التطورات المتسارعة في الوقت الراهن، أصبح ضرورة للرفع من مستوى الطالب وتعزيز نواتج التعلم والمعرفة الأكاديمية، ولإعداد جيل جديد من المختصين والباحثين القادرين على استكشاف ودراسة التراث كما ينبغي، وهذا أمر يتطلب أن تعكس المناهج التعليمية أساليب جديدة في تعلم التقنيات الناشئة بما أحدثته من تحولات جذرية في التعلم والبحث العلمي، وبما يؤدى توظيفها إلى رفع قدرات الطلاب في التفكير التحليلي والإبداعي، كذلك يجب أن تعكس المناهج التعليمية قدرًا كافيًا من المهارات اللازمة لتمكين الخريج وتهيئته لمتطلبات سوق العمل وبما يجعله قادرًا على مواجهة القضايا المعقدة وإيجاد الحلول المناسبة لها.
● كيف ترى جائزة الملك فيصل وهي تكرم الباحثين الجادين في مجالات مختلفة، وما أثرها في مستقبل البحث العلمي؟
■ تتبوأ جائزة الملك فيصل منذ إطلاقها مكانة رفيعة بين الجوائز العالمية، بل إنها أصبحت عنوانًا مهمًّا في تقدير إنجازات الباحثين الجادين في مجالات العلوم المختلفة، والمتفحّص لمخرجات هذه الجائزة العالمية يدرك أن ثمة مقومات قادتها نحو التميز؛ تتمثل في تشجيعها للبحث العلمي والابتكار على مستوى العالم أجمع، وبما يساهم في إلهام الباحثين لتحقيق اكتشافات علمية جديدة، وكذلك فيما اتسمت به الجائزة من حيادية في معايير الترشيح لها وموضوعية في تحكيمها، مما ساهم في تزايد حجم الثقة في مصداقية الجائزة ونُبل أهدافها.
0 تعليق