كثيرًا ما تساءلت، وأنا أحاول الاقتراب من مجال القانون، سواء بما تضمنه من مواد وفصول، تجلى بنصوصه في مدونات، أو راج في ردهات المحاكم وبمنطوق القضاة، أو تضمن فلسفات القانون ومذاهبها، عن الغاية والمقصد من هذا الاقتراب. انتابني في البداية نوع من التردد، يمكن التعبير عنه بالسؤال الآتي: ماذا سأضيف لتخصص القانون كوني أنتمي إلى تخصص الأدب؟ وماذا عن الأدب؟ هل ستترك ما كان سببًا في جعلك تنفتح على آفاق عديدة متنكرًا بذلك لتخصصك؟ لنفترض أنك تفوقت في مجال القانون، وما قد يعني ذلك بالتبعية انتصارًا للأدب، ما دامت الوسيلة واحدة، وهي اللغة؟
صلة القانون بالأدب
لا أروم بأسئلتي هذه، التقليل من قيمة القانون ولا من قيمة الأدب؛ لأنني ببساطة أصبحت مهتمًّا بهما معًا؛ وقد زاد يقيني بذلك عندما اطلعت على مقالة تعود إلى الأديب الدكتور طه حسين عنوانها «بين الأدب والقانون» المنشورة في العدد الثالث من مجلة الهلال في 1 يناير 1935م، وهي عبارة عن مناقشات ومحاورات مع صديقه الدكتور محمد حسين هيكل الذي عنون جوابه في مقالة «صلة الأدب بالقانون» المنشورة في العدد 4، 1 فبراير، في المجلة نفسها والسنة نفسها؛ بل إني على يقين تام أن هذه المحاورات تعود إلى زمن أبعد. لكن ما يهمنا نحن، ليس الخوض في هذا النقاش أو الانتصار لأحدهما على حساب الآخر، وإنما هدفنا الإشارة إلى المنفعة أو الخدمة المتبادلة بين تخصص القانون وتخصص الأدب.
إذا أردنا إثبات الاتصال بين الأدب والقانون، فإن نطاق الإثبات، يقع على المحاماة بوصفها إبداعًا فنيًّا، نعم المحاماة مهنة المبدعين. فالمحامي كونه رجل قانون لا مبرر له في التحامل على ما ينتسب إلى الأدب، فلولا فضل هذا الأخير لما كتب مرافعته، ولما دافع عن موكّله. فهو يحاجج بالأدب وأسلوبه بهدف إحداث الإذعان في نفس القاضي… ولن يتأتى له ذلك إلا بلغة أدبية رفيعة وبأسلوب حجاجي إقناعي يخدم قضيته؛ لذلك لا تستغرب أيها القارئ الكريم إن صادفت فقيهًا قانونيًّا مولعًا بالأدب وفنونه، يحفظ كثيرًا من الشعر والأمثال والحِكم… ولا تستغرب أيضًا إذا وجدت أديبًا أصبح مولعًا بالقانون. فإذا كان رجل القانون يجتهد في تحصيل المعرفة القانونية فإنه بالضرورة يجتهد في تنزيل تلك المعرفة بأدوات وأساليب أدبية، سواء كان ذلك كتابة أو تلفظًا. وهذا ما نلحظه جليًّا في المذكرات الجوابية الكتابية، حيث تصبح اللغة أداة -المُرافع- الوحيدة التي بها يسرد وقائع القضية في قالب أدبي بديع، يحترم، في فعله السردي ذاك، التسلسل المنطقي الذي تنتظم وفقه الوقائع المسرودة حتى يكون مقنعًا ولا يوقع القاضي والمتلقي بشكل عام في الشك.
في هندسة الوقائع تكمن الحقائق، أو بتعبير أصح: في سرد الوقائع تبزغ الحقائق وتنجلي الحجب عن العدالة. بمجرد أن يبدأ القاضي في قراءة مذكرة المحامي يبدأ تصوره في التشكل والتكوُّن، ويبدأ في بناء حُكمه أو قراره القضائي، وهكذا يكون القاضي قد بدأ في تأليف نص ثانٍ يكون عبارة عن حل النزاع/ الخصومة. فلولا براعة الكاتب (المحامي) لَما اقتنع القارئ (القاضي)، ولولا براعة القاضي لما اقتنع المحكوم عليه والجمهور الحاضر في قاعة المحكمة عمومًا. ثم إن صياغة الحكم أو القرار القضائي، لا تروم حل النزاع فقط، بل الأدهى من ذلك، يسعى مبدع هذا الحل ممارسة فعل الإقناع، وهذا الأخير يكون مضمنًا في ذلك الحل، وغايته أن يغدو المحكوم عليه بدوره مقتنعًا بالحكم أو القرار الصادر في حقه حتى لو كان حكمًا أو قرارًا مخالفًا لهواه أو مصلحته. والظاهر أن جودة عمليتي حبك المذكرة لإقناع القاضي، وحبك القرار لإقناع المحكوم عليه خصوصًا بوصفه متلقيًا خاصًّا، وإقناع الجمهور بوصفه متلقيًا عامًّا، تنطوي على أساليب أدبية- لسانية ذات تأثير مرتفع تركيبيًّا وصرفيًّا ودلاليًّا وتداوليًّا.
قد يقول قائل: إن غاية المحامي هي الدفاع عن الحقيقة ثم الدفاع عن موكله، ومهمة القاضي هي تطبيق القانون انتصارًا للعدالة، لكن، هل من مسلك لكل هذا غير مسلك اللغة؟ إذ باللغة نَسُنُّ القواعد القانونية، وبها نترافع عن الحق، وبها يُمنح الحق، وبها تبسُط العدالة أجنحتها، وبها يُسجَن الظالم ويُبرَّأُ المظلوم، وبها تُنفَّذ الأحكام والقرارات، وبها يُسرَّح المشتبه فيه، وبها نلتزم بالواجبات، وبها نتعلم ونعبّر عن حاجاتنا، إلخ. بكل بساطة، إننا نحيا باللغة؛ ولولاها لَسَكَنَ الكون. بل إنّ إساءة استخدامها من قِبَل المحامي، والمُشرع، والقاضي… يؤدي لا محالة إلى اغتصاب واستباحة حقوق الناس دونما وجه حق، وهذا كله لا يتحقق إلا عن طريق اللغة لا عن غيرها.
القانون وعناصر الفن المسرحي
من الأساليب الأدبية كذلك، إضافة إلى الأشعار والأمثال والحِكم التي يضمنها الدفاع في مذكراته، نجد «مسرح الجريمة»، فالعبارة كما هو واضح، تتألف من لفظتين اثنتين، تُحيل الأولى إلى أعرق وأقدم الفنون، أو كما يحلو لبعضٍ نعته بأب الفنون، وهو في اللغة مكان تمثيل المسرحية، وهذه الأخيرة لا تعدو أن تكون عنصرًا واحدًا من عناصر البناء المسرحي إلى جانب العناصر الأخرى من: ممثلين، وفن الديكور، وإضاءة، وتشخيص، وموسيقا، وإخراج… وإذا أردنا زيادة في التفريق، قُلنا: يراد بلفظة «المسرحية» ذلك النص الأدبي المكتوب، وهي بذلك أخَص من مفهوم «المسرح» -الذي هو أعم- الذي يقصد به كل ما سبق ذكره بما فيه نص المسرحية. فهو بذلك أبو الفنون؛ لكونه يستوعب تلك العناصر الفنية جميعها.
ثم إنه من الناحية الفنية يعد نمطًا من أنماط الفن، يجري تحويل النص المسرحي/ الأدبي المكتوب إلى مشاهد تمثيلية، حيث يعمل الممثِّل على تجسيد النص الأدبي وعرضه أمام الجمهور بحِرَفية عالية، محافظًا على تفاصيل النص الإبداعي بجميع حركاته وسكناته؛ وذلك باعتماده أساليب وتعابير لغوية وأخرى جسدية في تفاعل- قد- يصل حد التماهي بين شخصية الممثل والنص الأدبي المكتوب، وكأن هذا الأخير يتم إنتاجه وإنتاج عناصره لأول مرة… في حين، تُحيلُنا لفظة «الجريمة» إلى سلوك أو فعل مخالفٍ للقانون، ومنافٍ للأعراف المجتمعية والإنسانية، وهو فعل ينتج عنه إحداث اضطراب في المجتمع؛ وذلك ما نصّ عليه الفصل الأول من مجموعة القانون الجنائي المغربي، حيث ورد فيه: «يحدد التشريع الجنائي أفعال الإنسان التي يعدها جرائم؛ بسبب ما تحدثه من اضطراب اجتماعي، ويوجب زجر مرتكبيها بعقوبات أو بتدابير وقائية».
وبذلك فالسلوك الذي لا يُخلِّف اضطرابًا مجتمعيًّا لا يعد «جريمة». والأفعال الإجرامية عمومًا، تنقسم إلى نوعين: إما أفعال إجرامية إيجابية (القيام بالفعل الذي ينهى عنه القانون) أو أفعال إجرامية سلبية (عدم القيام بالفعل الذي يأمر به القانون). وقد جاء تعريف المشرّع الجنائي المغربي للجريمة جامعًا لكل هذه العناصر، حيث نص الفصل 110 من مجموعة القانون الجنائي المغربي على أن «الجريمة هي عمل أو امتناع مخالف للقانون الجنائي ومعاقب عليه بمقتضاه».
وعليه، يكون توظيف ما يدخل في زمرة الأدب وينتسب إليه من قبيل «المسرح» خدمة للقانون ولعمل القانونيين وتحديدًا المحققين… أمرًا يؤكد الاتصال القائم بين الحقلين (حقل الأدب وحقل القانون)؛ فتمثيل الجريمة من بدايتها إلى نهايتها، عمل أدبي صِرف، بطلها «المجرم» أو «الفاعل»، فالتماهي الذي يسعى إلى تحقيقه هو ذلك التماهي بين ما صرّح به «المجرم» في أثناء البحث التمهيدي للضابطة القضائية شفهيًّا، والبحث الإعدادي الذي يختص به ويأمر به قاضي التحقيق، وما سيجسده «المجرم» من مشاهد تمثيلية لفعله الإجرامي. فالنص المُدوَّن في المحاضر، هو نص بطبيعة الحال، ازدواجي التركيب، فهو نص أدبي وقانوني في الوقت نفسه؛ وتشخيص «المُجرِم» للمَشاهد عملٌ لا يخلو من أدبية الممثِّل العادي، فهو أيضًا يحتاج إلى عناصر الفن المسرحي جميعها من مكان وزمان محددين، وإضاءة، وديكور، وجمهور، وباقي الأدوات التي استخدمها قبل وفي أثناء وبعد ارتكابه الجريمة، إلخ؛ فالمُجرِم، وإن كان يجهل فن التمثيل، فهو يجتهد في إتقان هذا الفن، حتى يكتمل التحقيق، وحتى تكون المحاكمة عادلة. فعن طريق «مسرح الجريمة» تتجلى خيوط الحقيقة وتسمو كلمة العدالة؛ فيكون الأدب بهذا المعنى، أداة فضلى في إحقاق الحق، وإظهار الحقيقة، وكشف الظلم ورفعه، ورد المظالم إلى أصحابها.
إن حضور الأدب في القانون وحضور القانون في الأدب، مسألة لا يمكن إنكارها، ولا المزايدة بعدم وجودها، وما اقترحناه في هذا البحث من وجود وشائج الاتصال والتفاعل والتكامل بين هذين الحقلين المعرفيين (حقل القانون وحقل الأدب) إنما هو اجتهادات شخصية، قد نخطئ تقديرها، كما قد نصيب، الأهم، أن يكون هذا الاجتهاد وهذه المحاولة، محط نقاش فعّال ومثمر يُسهِم ولو بقسط يسير في فتح آفاق البحث في هذا المجال العلمي الرحب؛ وما محاولتنا هذه، إلا دعوة الباحثين والمهتمين على حدّ سواء إلى توسيع دائرة أبحاثهم حتى تلقى ما تستحق من العناية والاهتمام.
0 تعليق