صديق عزيز رحل دعاني، ذات مرة، إلى فلم سينمائي ولَبَّيت دعوته لأسباب ثلاثة: كان المخرج أثيرًا لدي والفلم مأخوذًا عن رواية قرأتها غير مرة، يُعرض في «النادي السينمائي» في المدينة الجامعية في باريس، وثمن البطاقة زهيد، بالغ الزهد، كأنه بالمجّان، امتياز تخصّ به الجامعة «طلاب السكن الجامعي». كان من عادتي، أو عادتنا، في ذاك الزمان، أن نتحاور في الموضوعات جميعها، وأن نسيّس الحوار تسييسًا جامحًا، وأن نبدّل في دلالات الموضوعات إلى حدود الاختراع و«عدم الأمانة»، مردّدين معًا: لا وجود لقراءة بريئة في المجتمعات الرأسمالية.
نبوءات روبنسون كروزو
ما زلتُ أذكر بغبطة مدخل الفلم الذي يُستهل بصورة كتاب ضخم أصفر اللون، بغلاف خارجي كُتب عليه بالأحمر والأزرق عنوان الرواية، الذي ينفتح على أمواج بيضاء غاضبة كأنها قطيع خيول مجنحة، تلهث زبدًا وتتنفس هواءً سائلًا مرتجف الألوان.
كان المخرج السينمائي «لويس بونويل»، هذا اسمه، فرنسي الجنسية إسباني الأصول، ترك بلده إثر الحرب الأهلية 1936- 1939م، التي هزم فيها الجنرال المستبد فرانكو، القوى الديمقراطية وألحق بها هزيمة نكراء، دفعت قوى اليسار، آنذاك، إلى منفى طويل الأمد، جاوز ثلاثة عقود، أنهاه رحيل الجنرال الذي نصره في معركته النازي الألماني هتلر والفاشي الإيطالي موسوليني. شارك بونويل، في شبابه الأول، الرسام الإسباني الشهير سلفادور دالي في إخراج فلم «كلب أندلسي»، الشهير بصورة العين التي غادرت محجرها.
عاش بونويل مرحلة واقعية غزيرة ومديدة، عَرفت تلك المرحلة فلمًا أعجب النقاد فأغدقوا عليه المديح، عنوانه: «جميلة النهار»، وأغلق إبداعه في سبعينيات القرن الماضي بفلمين شهيرين: «سحر البرجوازية الخفي وشبح الحرية». كنتُ مفتونًا بفلمه: «المنسيّون»، الذي صوّر فيه بؤسًا اجتماعيًّا مكتملًا لصِبْيَة أضاعوا طفولتهم، أغرقهم الغبار ولم يَنتبه إليهم أحد.
الفلم الذي حضرته مع الصديق الذي «أطفأته الحياة مبكرًا» كان عنوانه: «روبنسون كروزو» (1954م)، المأخوذ عن رواية دانييل ديفو، التي هي من بين رواياته الأكثر شهرة. ومع أن المؤلف أنجزها مبكرًا فهو لم ينشرها إلا في مرحلة لاحقة (1719م). بدأ ديفو حياته، حال كثير من الروائيين، صحفيًّا، كان نشيطًا متعدد الموضوعات، حملت كتاباته اتهامًا للسلطة ونقدًا لها، فسُجن وحاصرته السلطة بما تحاصر به الناقمين عليها. زاوجت حياته الممتدة، من 1660-1731م بين غزارة الكتابة والكره الدؤوب للسلطة المفتقرة إلى العدل والمساواة.
كشفت رواية «روبنسون كروزو» عن ثقافة واسعة «حديثة»، انطوت على السياسة والاقتصاد وأبعاد من علم الاجتماع وعلم النفس، وألمحت إلى الشكل الأول من «الكولونيالية واستعمار الشعوب»، هذا الشكل الذي عامل كثيرًا من الشعوب بالحديد والنار، فنهب ما نهب وقتل ما قتل ليؤسس ما دُعي «إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس»، قوامها الجشع والمخادعة و«دبلوماسية المدافع» و«سياسة الأساطيل الحارقة»، بل إنها كانت سبّاقة في استعمال: «البراميل المتفجرة»، التي حرقت بها فلاحين فلسطينيين كادت عزيمتهم تقهر «رجل الله الإنجليزي»، في النصف الثاني من ثلاثينيات القرن الماضي.
تنطوي هذه الرواية، نظريًّا، على مقولات أساسية ثلاث تحكم الفعل الروائي، وتعكس أيديولوجيا الغزو الاستعماري التي حايثت الفكر البرجوازي في ذاك الزمان، و«ما تلاه» أولها: المغامرة التي توسّع المكان والزمان وتنقل المغامر من المعلوم إلى المجهول، وممّا يعرفه الإنسان الأبيض إلى ما هو ذاهب إلى معرفته بحثًا عن معرفة وثروة؛ ذلك أنه كان في المغامرة يكتشف ذاته ويكتشف الخيرات الموزعة على «أراضي إنسان الغابات» والمطمورة في أرضه. لكأن المغامرة عقيدة الإنجليزي الحقيقي كما «شاء الله» له أن يكون، متفوقًا على غيره عدوانيًّا يجنح إلى السيطرة.
تتعيّن المقولة الثانية، إذن، بفرادة الإنسان الأبيض، المبرّأ من الخوف والإخفاق، يندفع إلى المغامرة ويواجه غيره ويتفوّق عليه. وثالثًا مراكمة الثروة واستثمارها، فثروات الطبيعة تتحول إلى صناعة والأخيرة تصير تجارة مربحة، وتجارة الصناعة تستند إلى العلم والتقنية، إلى المهارة العملية وإرضاء الفضول. لكأن الإنسان الأبيض، الباحث أبدًا عن الجديد، يصيّر الطبيعة إلى مختبر كبير، يعالجها بالقوانين العلمية، بعيدًا من «إنسان الغابات» الذي يفتقر إلى العقل الاختباري ويرضخ إلى آخر متفوق عليه يختبره وينهبه ويحوّله إلى موضوع للاختبار.
سيد ذاته والجزيرة
شخصية روبنسون كروزو مرآة لممارسات «الإنسان الأبيض» في مرحلة صعوده، هجر مبكرًا عائلته في لندن والتحق بسفينة ذاهبة إلى أرض يجهلها، ضربتها عاصفة عاتية، ألقت بالصبي الواعد على شاطئ جزيرة مهجورة. أملى عليه مآله تدبير حياته الصعبة وأحواله المستجدة، اعتمادًا على ذاته المفتقرة إلى التجربة والمطمئنة إلى العمل الذاتي ومجابهة المجهول. حاور الطبيعة الصماء واستنطقها، وانتزع منها ما يشاء من إجابات، وغدا فيها سيّدًا، وصيّره عمله المواظب «مواطنًا خالقًا»، وغدت الجزيرة امتدادًا له، يُنطقها بعمله اليدوي- الذهني وتنطقه بمهارات كانت غريبة عنه. بدا سيدًا على الجزيرة، على الواضح والخفيّ فيها. اختصر علاقته بما هو خارجه بكلمتين: «نعم سيدي»، حيث السيد بداهة، الإنجليزي الأبيض الذي جاء من لندن، والتابع هو ذاك الذي منع الله عنه بشرة بيضاء حال «جمعة» المخلوق الذي التقاه في الغابة صدفة.
علّم روبنسون «جمعة» الصيدَ وإطلاق الرصاص وحماية الملكية الخاصة وأصول الدفاع عن الذات ومواجهة الغرباء، ولم يُعلمه القراءة والكتابة، أي أنه علَّمه ما يجعل منه خادمًا جيدًا، كأنه يد إضافية أو قوة عضلية تُضاعف قوة السيّد وتؤمن له الراحة.
في إبداع كروزو، الذي لا يخاف من خارجه، ما يلغي المعنى المألوف للمغامرة والجزيرة النائية، لكأنهما من أطرافه ينصاعان لمشيئته ويلبيان ما يريد. ولهذا تخطئه الأمواج العاتية وتبتعد منه الضواري. يعيش آمنًا، يرضيه عقله وترضى الطبيعة عمّا اقترح عليه عقله. إنه الإنسان المفكّر المُصاحب بصيغة: «لماذا؟» التي لن يخذلها أبدًا، وهو الذي يربط بين الظواهر والأسباب، يتخذ من السببية العاقلة منهجًا ويطمئن إليها مرشدًا، بعيدًا من «الضمان الأسري» وإرشادات الوعّاظ ودعاة الفضيلة المجردة.
وواقع الأمر أن كروزو، وكما صاغه دانييل ديفو، آية إنسان عصر النهضة أو التنوير، بلغة لا تراقب ذاتها، ملهمه العقل ومرجعه فضول متعدد الوسائل أسعفه في «استعمار الآخر». الذي فاتته المغامرة وارتاح إلى المألوف والموروث. لا غرابة أن يحتفي الفرنسي التنويري جان جاك روسو -كان معاديًا للاستعمار- «بالإنسان المقتدر»، وأن يقرأ بعضٌ إبداعه بفلسفة الإنجليزي جون لوك، الذي ساوى بين الإنسان الجديد وتعدّد حاجاته، وعدّ الزمن قوة منتجة.
عثر كروزو على أصله في ذاته، تنازل عن عائلته وسار طليقًا باحثًا عن أصل مختلف ضمانه داخله، يتكوّن ولا يُعطى دفعة واحدة. يكتشف ذاته وهو يكتشف عالمه ويستوي إنسانًا مستقلًّا، لا يرتهن إلى إرادة خارجية، بعد أن آمن بذاته «ككائن مكتشِف»، يهيمن على ما يواجهه وينصِّب ذاته مرجعًا لأكوان غير متناهية، اكتشفها أو أنه في طريقه إلى اكتشافها؛ ذلك أن فضوله «يتطلّع إلى فضح أسرار الطبيعة وامتلاك ثروات الأقاليم المختلفة…».
أدرج الروائي في تصوّره للعالم مقولات النهضة الأوربية واشتق منها بطله، «الإنسان الصانع»، الذي يغيّر ذاته وهو يغيّر عالمه: فهناك الإنسان العقلاني الموحِّد بين الغاية والأداة ومبدأ التحويل الشامل الذي يستولد من عناصر عادية متفرقة أشياء غير عادية، سُلطة العلم والاكتشاف التي تروّض الطبيعة وتفرض كروزو سيدًا على الجزيرة، بطولة الاختراع وإنسانها المتعدد الإمكانيات… حمل كروزو في مساره «أيديولوجيا علمية» مستقبلية، تُنطق الماضي وتصرفه وتستدعي مستقبلًا مضيئًا، مضمون الوصول والنجاح.

تعددية التأويل
مستقبل الإنسان من حاضره، ومتخيّل الإنسان ممّا وصل إليه. فكرتان بورجوازيتان نهضويتان، عبّر عنهما كروزو «الفردي العظيم» بلغة روسو، الذي جمع بين الخلق والحاجة والمنفعة، إضافة إلى التملّك والأمان. استوى كروزو في النهاية، «خليفة الله على الأرض»، تقترح عليه رغباته السير في درب متصاعد، وتنصاع الرغبات إلى إرادة حاسمة، وتتحقق.
ومع أن كروزو يشبه، ظاهريًّا بروميثيوس، بطل الأسطورة اليونانية، فإن بينهما اختلافًا كبيرًا. سرق الأول «نار الآلهة» قاصدًا نشر المعرفة بين الناس، وسرق غيره أرض غيره وغدا «رائدًا استعماريًّا». سعى الأول القديم إلى تحرير البشر، وقاتل الثاني، بالمعرفة والبارود، الشعوب المدافعة عن حريتها واستقلالها، بنى «الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس» من عظام المستعمرات واجتثاث غاباتها.
يعقد بعض القائلين «بكونية الأدب» مقارنة بين رواية كروزو و«رسالة حي بن يقظان»، المنسوبة إلى ابن سيناء وابن طفيل والسهروردي، ففي العملين مفرد واسع الفضول. احتفى الإنجليزي التنويري، لمدة، بفرديته وبحث عن المصلحة وصيّر «جمعة» إلى خادم مطيع، وصادف «حي» غزالة وانشغل بقضايا الخالق والمخلوق، كما لو كان كل منهما يترجم ثقافته ويلاحق ما يهجس به.
بدا كروزو، في بعض أحواله إنسانًا فريدًا وحيدًا على الأرض، لا يُقارن بغيره ولا يُقارن غيره به، محسوب الحركة متوقّد البديهة وأقرب إلى الثبات كما لو أنه أُعطي دفعة واحدة. إنه «الآدم الأوربي» الذي يتناسل منه غيره من البشر بشعرهم الأشقر وعيونهم الزرقاء وعلى هذا فإنه لا يكون نمطًا، بالمعنى الفني إنه إنسان فريد؛ ذلك أن النمط يتكرر في غيره بينما يبدو كروزو مخلوقًا متفردًا أقرب إلى الندرة.
وإذا عطفنا كل موروث أدبي على سياقه التاريخي نسأل: من أين تأتي أهمية رواية «روبنسون كروزو»؟ وقد نجيب: من موقعها في تاريخ الرواية الإنجليزية خاصة والأوربية عامة، أو نقاربها من وجهة نظر أخرى أكثر صوابًا متحدثين عن: تعددية التأويل، الصادرة عن خيال فاعل وتقنية روائية موائمة، ومعرفة واسعة متعددة الأبعاد.
بدت رواية دانييل ديفو حكاية مثيرة تسائل الواقع الأوربي وآفاقه، وصيّرها تراكم القراءات الجادة عملًا أدبيًّا مرجعيًّا، يضيء تاريخ الرواية الأوربية، ويُلحق به دلالات النهضة والتنوير، ويكشف فيه عن دلالة «الفردية الاقتصادية»، التي شرحها الناقد الإنجليزي إيان وات في دراسته اللامعة: «روبنسون كروزو، الفردية والرواية»، التي جاءت في كتابه: «صعود الرواية» الذي ظهر عام 1957م.
بعد انتهاء الفلم قال لي صديقي الذي رحل: ما رأيك أن نبحث عن أرض جديدة؟ سألت: كيف؟ أجاب مازحًا: نغزوها، ذلك أن كل جديد بالغزو… شعرت عندها بلطمة مفاجئة، وتذكرت بيتي القديم في قريتي الفلسطينية. همست مخنوقًا: عجيب أمر هذا الجديد المباح الذي لا أسوار له ولا تعريف!
0 تعليق