فوز السعودية باستضافة كأس العالم لكرة القدم 2034م من شأنه أن يسفر عن نتائج اقتصادية وسياسية وثقافية مهمة، وسيقطع شوطًا طويلًا في تحقيق الطموحات التي حددتها المملكة في عملية تغيير صورتها الدولية وتنويع اقتصادها.
لا شك أن كأس العالم سيُسهِم إسهامًا كبيرًا في اقتصاد المملكة العربية السعودية، وتعزيز صناعة السياحة، بزيارة ملايين الأشخاص من الخارج. من المتوقع أن يكون كأس العالم حدثًا ثريًّا ثقافيًّا، حيث يزيد من التفاعل مع الجماهير العالمية وتعزيز التبادل الثقافي. سيجمع الحدث المشجعين من خلفيات متنوعة، مما قد يؤدي إلى زيادة التفاهم والتفاعل بين الثقافات. وسيعتمد نجاح هذه النتائج على مدى الفاعلية في التعامل مع هذه التحديات المتعددة الأوجه على مدى العقد المقبل.
جودة الحياة
استضافة كأس العالم لكرة القدم 2034م في السعودية سيكون له تأثير متعدد الأبعاد في جودة الحياة، سيغطي جميع الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
يشكل التأثير البيئي عاملًا مهمًّا، فمن المتوقع أن يُخلف البناء 3.6 ملايين طن متري من ثاني أكسيد الكربون. وتتطلب الحرارة الشديدة في السعودية استخدامًا مكثفًا للطاقة من خلال أنظمة التبريد. لكن هناك خطط لاستخدام الطاقة المتجددة ومعايير البناء الأخضر. وسوف يعتمد الإرث الطويل الأجل لاستضافة كأس العالم على مدى فاعلية المملكة العربية السعودية في معالجة هذه التحديات. وإذا وُزِّعت الفوائد الاقتصادية بشكل عادل، ونُفِّذَت الإصلاحات الاجتماعية، وأُعطِيَت الأولوية للاستدامة البيئية، فقد يؤدي الحدث إلى تحسين نوعية الحياة للعديد من السكان.
الموجة الكورية
لقد استخدمت كوريا الجنوبية والمملكة العربية السعودية، بشكل إستراتيجي ومن خلال نهجين مختلفين، جوانب مختلفة من القوة الناعمة لتعزيز مكانتهما العالمية. لقد استفادت كوريا الجنوبية بشكل فعال من صادراتها الثقافية، وبخاصة الكيبوب والدراما الكورية؛ لكسب الشعبية والتأثير الدوليين. لقد غيرت هذه الظاهرة، المعروفة باسم «الموجة الكورية» أو هاليو، صورة كوريا الجنوبية العالمية بشكل كبير وعززت نفوذها الدبلوماسي(1). وقد تجلت هذه الإستراتيجية بشكل جيد من خلال النجاح العالمي لمجموعات الكيبوب مثل فرقة BTS التي ظهرت أيضًا سفيرة ثقافية لكوريا الجنوبية، حيث تحدثت في الأمم المتحدة حول القضايا الاجتماعية والاستدامة. وينعكس تأثير الفرقة في إنجازاتها القياسية من الأغاني التي تصدرت قائمة Billboard Hot 100 وفي قاعدتها الجماهيرية الضخمة المنتشرة في جميع أنحاء العالم التي تعمل بنشاط على الترويج للثقافة والقيم الكورية.
دبلوماسية المنح الأكاديمية
أدت المبادرات التعليمية، التي كانت لمدة طويلة ركيزة أساسية في إستراتيجية القوة الناعمة للولايات المتحدة، دورًا رئيسًا في تشكيل السياسة الخارجية الأميركية، مع برامج مثل منحة فولبرايت التي تأسست عام 1946م لتعزيز التفاهم من خلال التبادلات الأكاديمية والثقافية(2)، وهو ما أدى إلى تحسين سمعة الولايات المتحدة العالمية بشكل كبير. وقد دعم البرنامج أكثر من 400 ألف مشارك من أكثر من 160 دولة، وهو ما أدى إلى إنشاء شبكة من الخريجين الذين غالبًا ما يرتقون إلى مناصب النفوذ في بلدانهم الأصلية، ويروجون للقيم والمُثُل الأميركية في الخارج. وتشكل مثل هذه التبادلات التعليمية شكلًا من أشكال الدبلوماسية التي تساعد في التغلب على التصورات السلبية وبناء حسن النية. وهي تساهم بشكل كبير في جهود الدبلوماسية العامة من خلال تعزيز الاحترام المتبادل والتفاهم بين الثقافات المتنوعة. ومع ذلك، فإن فاعلية هذه المبادرات هي موضع تساؤل حاليًّا، مع انخفاض أعداد الطلاب الدوليين المسجلين في الولايات المتحدة بنسبة 10% في السنوات الأخيرة.

دبلوماسية الجاز
في أثناء الحرب الباردة، استخدمت الولايات المتحدة موسيقيي الجاز بفاعلية سفراء ثقافيين في إستراتيجية عُرفت باسم «دبلوماسية الجاز»(3). وكانت هذه المبادرة جزءًا من نهج أوسع نطاقًا للقوة الناعمة يهدف إلى مواجهة النفوذ السوفييتي عبر تعزيز القيم الأميركية للإبداع والحرية والشمول. لكن الجاز بوصفه فنًّا أميركيًّا أصليًّا وتجسيدًا للتناغم العرقي، كان مختلفًا تمامًا عن الاستبداد في الاتحاد السوفييتي. مبعوثون مثل لويس أرمسترونغ وديزي جيليسبي ودوق إلينغتون ذهبوا في جولات عالمية برعاية وزارة الخارجية الأميركية. وكان للجولات هدف واحد: إقناع أكبر عدد ممكن من الناس في أكبر عدد ممكن من الأماكن التي قد تقع تحت الإقناع الشيوعي بثراء الثقافة الأميركية. لم تكن عروض الموسيقيين مجرد أحداث موسيقية فحسب، بل كانت أيضًا بعثات دبلوماسية جعلت التبادل الثقافي والحوار حول العرق والديمقراطية ممكنًا. في الواقع، كان لهذه الجولات تأثير كبير في تشكيل التصورات الدولية حول أميركا وتقليل جاذبية الشيوعية. ولكن المشروع لم يخلُ من تناقضاته أيضًا؛ إذ واجه العديد من الموسيقيين في الوطن التمييز العنصري، وهي حقيقة تزيد من تعقيد أي محاولة لاستخدام الشخصيات الثقافية أدوات للسياسة الخارجية.
دبلوماسية اللقاحات
كانت دبلوماسية اللقاحات التي تبنّتها الهند في جائحة كوفيد-19، التي يطلق عليها «لقاح مايتري»، جهدًا إستراتيجيًّا ساعد مساعدة كبيرة في تعزيز قوتها الناعمة في جنوب آسيا وخارجها(4). وأُطلِقَ هذا البرنامج في يناير 2021م، وكان يهدف إلى توفير لقاحات كوفيد-19 لأكثر من 100 دولة في جوارها، مثل: بوتان ونيبال وبنغلاديش، إلى جانب دول أخرى في إفريقيا وأميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي. منذ فبراير 2022م، قدمت الهند نحو 162.9 مليون جرعة إلى 96 دولة، معظمها على شكل منح. واستنادًا إلى فلسفة «العالم عائلة واحدة»(5) أكدت الهندُ الإنسانيةَ والتضامنَ في استجابتها للأزمة الصحية العالمية. وبهذه الطريقة، لم تُلَبَّ الاحتياجاتُ الصحيةُ مباشرةً فحسب، بل حرصت الهند أيضًا على تعميق مشاركتها الدبلوماسية مع الدول المحيطة، وتقويض نفوذ الصين داخل تلك المنطقة. ولكن الموجة الثانية من كوفيد-19 خلقت انتكاسات في الهند، وهو ما عمل في الواقع لصالح الصين حيث استعادت زخمها، وتمكنت من تطعيم دول مثل نيبال وبنغلاديش.
تطوير القوة الناعمة السعودية
يمكن عدّ فوز المملكة العربية السعودية باستضافة كأس العالم لكرة القدم 2034م خطوة رئيسة نحو تطوير القوة الناعمة. إن استضافة مثل هذا الحدث الدولي المرموق يوفر للمملكة وسيلة لعرض ثقافتها وكرم ضيافتها وحداثتها للعالم. وهذا يناسب أيضًا حجة جوزف ناي القائلة بأن القوة الناعمة يمكن تطويرها من خلال الدبلوماسية الثقافية والمشاركة الدولية. إن استضافة كأس العالم هي محاولة من جانب المملكة لإبراز صورة لنفسها وتعزيز ثقافتها. وهذا يتفق مع تصريح ناي عندما قال: إن الجاذبية الثقافية تزيد من القوة الناعمة للدولة بشكل هائل. كما يصور الحدث التبادل الثقافي، ويولد حسن النية للدول المشاركة. وتنعكس عناصر القوة الصلبة في الموارد المالية المخصصة؛ لتطوير البنية الأساسية وتنظيم الأحداث. وستساهم هذه الاستثمارات بشكل كبير في تطوير صورة البلاد لجذب الاستثمار الأجنبي، وبالتالي تحسين قوتها الناعمة من خلال المشاركة الاقتصادية.
هوامش:
(1) Jang, G., & Paik, W. K. (2012). Korean Wave as tool for Korea’s new cultural diplomacy. Advances in Applied Sociology, 2(03), 196.
(2) Garner, A., & Kirkby, D. (2018). Academic ambassadors, pacific allies: Australia, America and the Fulbright Program. In Academic ambassadors, Pacific allies. Manchester University Press.
(3) Erdeljac, N. (2024). Jazz Music in Yugoslav-American Foreign Relations (1956-1974) (Doctoral dissertation, University of Zagreb. Faculty of Humanities and Social Sciences. Department of History).
(4) Sharun, K., & Dhama, K. (2021). India’s role in COVID-19 vaccine diplomacy. Journal of Travel Medicine, 28(7), taab064.
(5) Dash, P. K., & Sharma, M. A. Vasudhaiva Kutumbakam in the Context of Globalization: Ideals, Realities, and Contemporary Challenges.
0 تعليق