بداية: أقدم جزيل الشكر ووافر التقدير لـ«جائزة الملك فيصل» على ما تقوم به من تحقيق رسالتها في تكريم المتميزين من العلماء في حقول المعرفة الأساسية من كل العالم بكل حيادية ونزاهة ودقة وضبط وإتقان، فتكون الجائزة تتويجًا لمجمل إنجازاتهم العلمية وإسهاماتهم المتفردة، بحيث أصبحت نِدًّا لجائزة «نوبل» فكسبت سمعة واحترامًا في كل الأوساط العلمية العالمية. ليس هذا فحسب بل ساهمت «جائزة الملك فيصل» في نشر وترجمة أعمال علمية ذات قيمة علمية عالية، منها في عام (2024م) وفقًا للترتيب الزمني، الكتاب التحفة التراثية والأدبية الذي يمثل ثمرة تعاون علمي سعودي- إسباني وعنوانه: «رياض الشعراء في قصور الحمراء» من تأليف كل من: البروفيسور السعودي عبدالعزيز المانع والبروفيسور الإسباني خوسيه ميغيل بويرتا فلتشت. والكتاب الآخر، الذي أقدم له قراءة في الصفحات الآتية، عنوانه: «الحملات الصليبية- منظور إسلامي»(1)، من تأليف البروفيسورة البريطانية كارول هيلينبراند، وترجمة المعهد العالي العربي للترجمة ومراجعة الدكتور محمد بن عبدالله الفريح، ويقع الكتاب في 800 صفحة.
هذا فضلًا عما يقوم به مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، منذ إنشائه، من نشر كتب منتقاة في جوانب المعرفة المختلفة. أسأل الله أن يجعل ثواب هذه الأعمال في ميزان حسنات من يحمل اسم الجائزة والمركز وكل العاملين المخلصين فيهما.
نظرة تأريخية
الحملات الصليبية هي تسمية أطلقها الأوربيون على الغزوات التي قامت بها شعوب غرب أوربا ضد العالم الإسلامي رافعة شعار الصليب. نظم هذه الغزوات المسيحيون في غرب أوربا؛ وذلك لاستعادة بيت المقدس من المسلمين واستجابة لقرون من حروب التوسع الإسلامي (الفتوحات).
بدأت هذه الغزوات (الحملات) في القرن الحادي عشر الميلادي وانتهى الوجود الصليبي بفتح المسلمين لعَكَّا في نهاية القرن الثالث عشر الميلادي ديسمبر 1293م. أما المسلمون فكانوا يطلقون عليها اسم «غزوات الفرنجة»، والفرنجة اسم كان يطلقه المسلمون على سكان فرنسا، على الرغم من أن الحملات الصليبية شارك فيها كل شعوب غرب أوربا.
شكل الغزو والاستقرار الصليبي في فلسطين وساحل الشام -من القرن الخامس إلى السابع الهجرييْنِ (القرن الحادي عشر إلى الثالث عشر الميلادييْنِ)- أهمية مركزية في التاريخ الأوربي، وقد أولاها المؤرخون الأوربيون أهمية مركزية وذلك بتدوين وقائعها وبحث أبعادها التاريخية بحثًا مفصلًا معتمدين على المصادر الأوربية بلغتيها اللاتينية والفرنسية القديمة واللغات الأوربية الحديثة، وبشكل أقل على المصادر الشرقية: السريانية والأرمنية والإسلامية.
لحظ بعض الباحثين الأوربيين أن المصادر التاريخية الإسلامية -التي تمثل الطرف الآخر في هذه الحروب والاتصالات بشكليها العدائي والسلمي- لم تستثمر بالشكل المطلوب لسببين: الأول أن كثيرًا من المصادر العربية التي أرَّختْ للحروب الصليبية كانت مخطوطة ولم تكن في متناول الباحثين. والآخر يمثله عائق معرفة اللغة العربية لكثير من دارسي الحروب الصليبية من الأوربيين. وقد أجرى قلة من الباحثين الأوربيين الذين يجيدون اللغة العربية دراسات قيمةً، يأتي في طليعتهم السير هاملتون جِب الذي نشر عددًا من الأبحاث معتمدًا فيها على المصادر الإسلامية، وجُمعت أبحاثه في كتابه «دراسات في حضارة الإسلام»(2).
من الذين استثمروا المصادر العربية للحروب الصليبية الباحث الإيطالي فرانشيسكو جَبْرِيِلِي الذي بذل جهدًا يستحق التقدير بتقديم الرواية الإسلامية للحروب الصليبية عبر ترجمة وتلخيص قدر من النصوص من المصادر العربية إلى اللغة الإيطالية، ووضعها في كتاب نشره بالإيطالية عام 1957م ثم تُرجمَ الكتاب لاحقًا (1969م) إلى اللغة الإنجليزية بعنوان: (Arab Historians of the Crusades) «المؤرخون العرب للحروب الصليبية». وقد استفاد من هذا الكتاب كثير من الباحثين.
الحروب الصليبية في المصادر العربية
لحسن الحظ فقد تخصصت باحثة بريطانية لامعة هي البروفيسورة كارول هيلينبراند في التاريخ الإسلامي إبان حقبة الغزو والاحتلال الصليبي لفلسطين وساحل الشام. وقائمة الإنتاج العلمي للبروفيسورة هيلينبراند تعكس دقة اختيارها للموضوعات وجدتها، ساعدها على ذلك حسها البحثي الدقيق وسعة اطلاعها على الدراسات باللغات الأوربية واللغة العربية عن تلك الحقبة في موضوع الصراع الصليبي- الإسلامي، وقراءة وإعادة قراءة مصادر التاريخ الإسلامي بكل تنوعاته إضافة لامتلاكها منهجًا نقديًّا جديرًا بالتقدير. أما كتابها «الحملات الصليبية» فيقدم رواية ورؤية للجانب الإسلامي اعتمادًا على المصادر العربية للحروب والاستيطان الصليبي في فلسطين وساحل الشام.
أحد أسباب اختيارها للكتابة في هذا الموضوع أنه من خلال تدريسها التاريخ الإسلامي لطلبة الجامعة، وبخاصة تاريخ الحروب الصليبية، تبيَّن لها أن معظم الكتب المتاحة عن الموضوع كانت تركز خصوصًا على تاريخ الصليبيين الأوربيين أيام وجودهم في فلسطين. وقد اعتمدت هذه الكتب على مصادر أساسية من القرون الوسطى كُتبت باللاتينية والفرنسية القديمة، وكانت المؤلفة تُجيد هاتين اللغتين، وصُدمت بمدى تحيز مؤلفي القرون الوسطى؛ وذلك ما جعلها تدرك أن المؤلفين الغربيين في القرون اللاحقة -الذين اختاروا الكتابة في موضوع «الحروب الصليبية» وكثيرًا ما سخَّروا له كامل حياتهم- تأثروا بذلك التحيز ونقلوه إلى كتبهم(3). باختصار شديد، لم يركز الباحثون الغربيون في القرون الوسطى والعصر الحديث إلا قليلًا -إنْ فعلوا- على وجهة نظر المسلمين بشأن هذه الحقبة المهمة من تاريخ القرون الوسطى. وأكثر ما يزعج أن تلك الروايات متحيزة عن غير وعي -في كثير من الأحيان- وقد انتقل ذلك التحيز إلى قرائهم من غير الباحثين الذين كان لديهم اهتمام وشغف بقراءة التاريخ، وتَشَرَّبت الأجيال تلك الروايات، في حين بقي الآخر المسلم حاضرًا في الظل باهتًا ولا يكاد يُلحظ.
يدرس هذا الكتاب، كما يُفصح عنوانه، الرواية الإسلامية من خلال المصادر الإسلامية وحدها. حاولت الباحثة النفاذ لعقلية مسلمي العصور الوسيطة الذين عانوا آثارَ الحروبِ الصليبية، واستنطاق بعض الإلماحات حول كيف كانت مشاعر المسلمين، وكيف كانت استجابتهم للتجربة غير المسبوقة للغزو الأوربي الغربي لبلادهم وحياتهم.

النظر إلى الحروب الصليبية من وجهة النظر الإسلامية دون غيرها قد يبدو موقفًا أحادي الجانب ومبالغًا فيه، لكن هذا الموقف جاء في توقيته الصحيح؛ فكثير من الدراسات عن الحروب الصليبية، التي كتبها باحثون متخصصون في تاريخ أوربا في العصور الوسطى، اتخذت من أوربا مركزًا ومصدرًا لها، وهذه الدراسة تأمل في إعادة التوازن. مثل هذا التركيز يمكن أن يُحدث فهمًا نافذًا لحروب تَركت أثرًا نفسيًّا وأيديولوجيًّا عميقًا في مسلمي الشرق لا يمكن محوه، مع أن الاحتلال الصليبي العسكري الفعلي وقع على منطقة صغيرة من العالم الإسلامي.
تقرر المؤلفة أن هناك وجهات نظر مختلفة ومتكاملة تلقي ضوءًا جديدًا على ظاهرة الحروب الصليبية. من حيث المنطلق لا بُدَّ من أن تُروى القصة السياسية والعسكرية، أما الوازع والعقيدة اللذان كانا يحركان كل جانب فهما في حاجة إلى إعادة نظر. كما يمدنا التفاعل الاجتماعي والاقتصادي بين الصليبيين والمسلمين برؤى دقيقة عن واقع الحياة في الشرق طوال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين وطبيعة الحروب في تلك الحقبة، وكيف أن قدوم الصليبيين إلى الأراضي الإسلامية قد أدى إلى وقوع حروب انتصروا فيها بداية، ثم دُحروا بعد ذلك(4).
نماذج نقدية
في نقد المؤلفة للمؤلفات الإسلامية المعاصرة عن الحروب الصليبية تقول: لا جدال في أن المؤلفات الإسلامية المعاصرة قد قلَّلَتْ من شأن دور الأتراك في حقبة الحروب الصليبية. تحتاج دراسة الرد الإسلامي على قدوم الصليبيين أن تتم ضمن سياق أوسع يشمل الدور الذي اضطلع به شرق العالم الإسلامي عامة، مع الأخذ في الحسبان على الخصوص الدور العسكري والعَقَدي الذي قام به الأتراك حديثو العهد بالإسلام، فضلًا عن الموروث المستمر للإمبراطورية السلجوقية في سوريا وفلسطين. ومع أن العرب المسلمين اليوم على يقين بأن جميع المجاهدين العظام تقريبًا الذين دحروا الصليبيين في نهاية الأمر -ومنهم زَنكي، ونور الدين محمود، والظاهر بيبرس- كانوا أتراكًا، فهذه الحقيقة لم تأخذ حقها من الاعتراف، ولعل السبب في ذلك راجع إلى امتداد الحكم العثماني التركي قرونًا عديدة أعقبت الحروب الصليبية. ومن المتعارف عليه أن عرب الشرق ينظرون إلى تلك الحقبة بنوع من المَقْت، وربما كان هذا ما يفسر الإهمال الحديث للإنجازات التركية في سياق حقبة القرون الوسطى. ولا بد من الإشارة إلى أن الباحثين المسلمين من غير العرب -كالأتراك والأكراد، والفرس والباكستانيين وغيرهم- لم يحرصوا على تناول ردود الأفعال الإسلامية في القرون الوسطى على الحروب الصليبية بجدية. وبذلك فالاهتمام الإسلامي الحديث هو بالتأكيد عربي المنحى(5).

كارول هيلينبراند
تناولت المؤلفة بالنقد نماذج قليلة من المؤلفات العربية عن الحروب الصليبية، ومن ملحوظاتها عليهم: أنهم يكتبون تواريخهم عن الحروب الصليبية وفقًا للنموذج الأوربي، ويعتمدون اعتمادًا كبيرًا على الأبحاث التاريخية الأوربية، بصفة خاصة ستيفن رَنْسِمان، ليقدموا ما تبين أنه سرد تاريخي للحروب الصليبية ولم يقدموا إضافة ذاتَ قيمة من المصادر الإسلامية الغنية التي لم تُستثمر وقت تأليفهم. مثالٌ على هذه الفئة الأخيرة الباحث السوري سهيل زكَّار الذي نشر كتابًا من جزأين عنوانه: «الحروب الصليبية» ويحتوي على قدر كبير من السرد التاريخي والقليل من تفسير الأحداث(6).
أوضحت الباحثة محاولتها الالتزام بالموضوعية العلمية قدر استطاعتها: «وبَدَهِيّ أنه يستحيل على الباحثين الغربيين أن يجردوا أنفسهم تمامًا من الآراء والتحيزات التي يحملونها مسبقًا». مع ذلك فالمعلومات في هذا الكتاب جُمِعَت من المصادر المكتوبة ومن الموروثات الفنية التي تعتمد كلية على المصادر الإسلامية التي تروي إلى درجة معينة قصتها بنفسها مع أنه قد يكون اختيارها وتفسيرها ذاتيين.
من موضوعات الكتاب
يتكون كتاب «الحملات الصليبية» من مقدمة جائزة الملك فيصل، ومقدمة المؤلفة للترجمة العربية، وثمانية فصول، وخاتمة- إرث الحملات الصليبية، وملحوظات ختامية. خُصص الفصل الأول من الكتاب للحملة الصليبية الأولى ورد فعل المسلمين الأَوّليّ لمجيء الفرنجة، وشغل هذا الفصل الصفحات 47 -82، واشتمل على 53 وحدة بدأتها المؤلفة بتقييم المصادر الإسلامية عن هذه الحملة، ثم دراسة لمجمل الأوضاع والقُوَى الإسلامية، ثم تسلسل الأحداث وردود الأفعال مع إبراز دور القوى الإسلامية المختلفة الإيجابي والسلبي والدور البيزنطي.
وخُصص الفصلان الثالث والرابع (145-317) لجهاد المسلمين ضد الصليبيين. عنوان الفصل الثالث: «الجهاد في الحقبة الزمنية 493-599هـ/ 1100-1174م». بدأته المؤلفة بالتعريف بالجهاد وجذوره في القرآن والحديث والجهاد في حقبة صدر الإسلام والجهاد في النظرية والتطبيق. ثم واصلت دراستها مُبينة انعدام روح الجهاد في أوائل مدة الغزو الصليبي لفلسطين وساحل الشام، ثم نمو ظاهرة الجهاد في حقبة الحروب الصليبية فكرًا وعملًا وظهور المؤلفات في الموضوع.
أوضحت المؤلفة بعد ذلك أن مجيء الحملة الصليبية الثالثة سنة 543هـ/1148م شكّل نقطةَ تحول بالنسبة للجهاد، ودور نور الدين محمود زنكي بتقريب العلماء ورجال الدين وإشاعة روح الجهاد. ثم درست مكانة بيت المقدس في الإسلام في العصور الوسيطة والتركيز على أهميتها الدينية بالنسبة للمسلمين ثم استخدامها في الدعاية والدعوة للجهاد ضد الصليبيين. ودرست المؤلفة بعد ذلك أدبَ الجهاد منذ بداية حكم نور الدين محمود 541هـ/1146م.
والباحثة -حسب ما أعلم- أولُ من لفت الانتباه إلى أن نور الدين محمود أولُ من رسم إستراتيجية المسلمين القائمة على التوحيد بين العسكري والديني؛ وذلك لتقريب العلماء ورجال الدين بكل صنوفهم والإعلاء من شأنهم وبناء المساجد والمدارس وإقامة الأوقاف عليها، وكان يحضر دروسهم ويعمد إلى الاستعانة بهم للتعبئة للجهاد.

أما الفصل الرابع (235-329) فعنوانه: «الجهاد في الفترة الواقعة بين وفاة نور الدين محمود (569هـ/ 1174م) حتى سقوط مدينة عكا سنة 569-690هـ/ 1174 -1291م.» ودرست فيه المؤلفة موضوع الجهاد من حيث المفهوم ومن حيث التوظيف الدعائي وكذلك توظيف أهمية بيت المقدس وقداسته، وتابعت دراسة الجهاد نظريًّا وعمليًّا في عهد الأيوبيين والمماليك. وأكّدت أن توظيف الجهاد في عهد المماليك كان توظيفًا جادًّا وصادقًا وبسببه استطاعوا هزيمة المغول في عين جالوت (658هـ/ 1260م)، ثم طرد الصليبيين نهائيًّا من الشرق الإسلامي (690هـ/ 1291م) ونوّهت بدور ابن تيمية (ت. 661هـ/ 1263م) في إشاعة روح الجهاد بقلمه ولسانه ومشاركته.
وجاء الفصل الخامس (329-421) بعنوان: «كيف نظر المسلمون إلى الفرنجة: النمطان الإثنيّ (العِرقيّ) والدينيّ؟» وفيه اقتبست عن اثنين من الرحّالِينَ المسلمين هما: ابن جُبَيْر(7) وأسامة بن مُنقِذ(8) اللذان تجوّلا في مناطق الصليبيين وتعاملا معهم. كما بيّنت قيمة الأدب الشعبي حول الموضوع نفسه، وتتبعت تغير نظرة المسلمين ومشاعرهم تجاه الصليبيين عبر الزمن. وفي الفصل السادس (421-533) درست عددًا من الموضوعات منها: نظرة المسلمين للأراضي التي يحتلها الفرنجة، واللغة بوصفها حاجزًا بين المسلمين والصليبيين، وهل أثَّر المسلمون في طرائق عيش الفرنجة وقيم الفروسية المشتركة بين الفريقين، ومصير المسلمين تحت حكم الفرنجة. وفي الفصل السابع (533-632) بحثت المؤلفة في موضوع الجيوش والأسلحة والدروع والتحصينات العسكرية، كما درست كل جوانب التاريخ العسكري معتمدة على الكتب الخاصة بتنظيم الجيوش والحصار ووسائله والمخلفات المادية الفنية.
أما الفصل الثامن (632-715) فخصصته لإدارة الحرب، ومن موضوعات هذا الفصل: الإستراتيجية العسكرية الإسلامية، والجيش الإسلامي تركيبه ووحداته، والمعارك، وحرب الحصار، وجوانب من إدارة الحروب. وقد استعانت الباحثة بالمصادر التاريخية والمصادر المادية سواء كانت فنية أو بقايا أسلحة أو آلات أو منشآت عسكرية. وفي الخاتمة درست المؤلفة تراث الحروب الصليبية وتطور اهتمام المسلمين بظاهرة الحروب الصليبية، ونمو أسطورة صلاح الدين، وموضوعات أخرى.
خلاصة التقييم:
هذا الكتاب أول دراسة تقدم تاريخًا للحروب الصليبية من وجهة نظر المؤرخين المسلمين اعتمادًا على كتاباتهم المتنوعة التاريخية والأدبية والدينية والجغرافية وكتب الرحلات وكتب الأساطير الشعبية. لم تكتفِ المؤلفة بالمصادر المكتوبة بل اعتمدت كذلك على التاريخ المادي المتمثل في المخلفات الفنية والمادية بكل أنواعها ووظفتها توظيفًا بارعًا، بل إن الكتاب مثلما هو بحث في التاريخ هو كتاب في تاريخ الفن الإسلامي وبخاصة العسكري منه؛ إذْ قلما تخلو صفحة منه من صورة أو رسم واحد على الأقل لأحد الموروثات الفنية ذات العلاقة بموضوع الكتاب. لا يعني هذا أن الباحثة اقتصرت على المصادر الإسلامية دون غيرها، بل جعلتها مرتكز الدراسة، ووظفت الدراسات عن الحروب الصليبية باللغات الأوربية على سبيل المقارنة وسد الثغرات في معلومات المصادر الإسلامية.
هذا الكتاب يختلف عما اطلعتُ عليه مما أُلِّفَ عن الحروب الصليبية باللغتين العربية والإنجليزية من حيث بناؤه ووحدات موضوعاته؛ فالجدة والاستقلال واضحان في الكتاب، ومنهجه العلمي دقيق ويقوم على النقد والتحليل والمقارنة، وللمؤلفة نظرات ثاقبة وآراء صائبة، وملحوظات واستدراكات ذكية، وكانت أحكامها منصفة وموضوعية وتقوم على مسوغات صحيحة، وتوصلت إلى نتائج قيمة غير مسبوقة في العديد من القضايا موضوع البحث.
أما مادة الكتاب العلمية فهي غنية جدًّا لأن الباحثة استقصت المصادر الإسلامية الأولية بأنواعها، ولم تكتفِ بالمصادر الجادة، بل وجدت منفعة في قراءة واستنطاق الأساطير الشعبية مثلما كُتب عن صلاح الدين الأيوبي وسيرة الظاهر بيبرس. كما وظفت الدراسات الحديثة اقتباسًا أو مقارنة أو نقدًا، ولم تحصر توظيفها على الأبحاث الأكاديمية، بل رأت أن بعض الموضوعات لها امتدادات في الأعمال الإبداعية مثل شعر الشاعر الفلسطيني محمود درويش، أو أعمال الناقد جبرا إبراهيم جبرا، أو الروائي أمين معلوف.
هوامش:
(1) عنوان الكتاب الأصلي: The Crusade – Islamic Perspective by Carole Hillenbrand.
(2) Routledge and kegan, London, 1962.Islam Studies on the civilization of
تُرجِمَ الكتاب للعربية بعنوان: «دراسات في حضارة الإسلام»، بيروت، دار العلم للملايين، 1974م. وترجم الأبحاث الخاصة بصلاح الدين يوسف أيبش بعنوان: «صلاح الدين الأيوبي- دراسات في التاريخ الإسلامي»، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات، 1973م.
(3) الحملات الصليبية – منظور إسلامي، ص24.
(4) الحملات الصليبية – منظور إسلامي، ص52.
(5) الحملات الصليبية، ص53.
(6) الحملات الصليبية، ص53.
(7) محمد بن أحمد الكناني قام بثلاث رحلات من بلده بلنسية بالأندلس للحج والسياحة في الديار الإسلامية وتجول في ممتلكات الصليبيين، وذكر ما كان عليه الأهالي مسلمون ومسيحيون من علاقات حسنة في خلال تلك الحروب. استقر أخيرًا في الإسكندرية، وتوفي بها عام 614هـ/1217م. عَنوْن ابن جبير كتابه بـ «تذكرة الأخبار عن اتفاقات الأسفار» لكنه اشتهر بـ «رحلة ابن جبير».
(8) هو الأمير أسامة بن مرشد بن منقذ من بني منقذ أمراء مدينة شيزر الشامية، تَجَوَّلَ في ممتلكات الصليبيين بوصفه سفيرًا دَوَّنَ خبراته وانطباعاته وتعاملاته مع الصليبيين وعنهم في كتابه «كتاب الاعتبار» طبع أكثر من مرة. توفي سنة 584هـ/1188م.
0 تعليق