إن الطعام أحد أقانيم الحياة الكبرى، سواء اتصل بحده البيولوجي، منغرسًا في سيرورة معقدة لتغذية الجسد، تمكنه من القيام بوظائفه الحيوية، أم بأفقه الثقافي الذي يجعله خطابًا مركزيًّا في بناء التمثيلات الثقافية التي تصنع صورة الحضارات والأفراد. وهنا، فسيان بين أن يتأمل مهتم بالفن التشكيلي لوحة «العشاء الأخير» لليوناردو دافنشي، مستعيضًا عن الطعام نفسه، بانصرافه إلى تأويلات ثيولوجية تهم الدين المسيحي، أو نوعية الأدوات الموظفة في الرسم، التي كان الطعام تعلة لها ومدخلًا لتلبية «الحاجة الجمالية»، أو يذرف طفل صغير دموعًا غزيرة، وهو يشاهد عبر جهازه الإلكتروني اللوحي صورة طفلة تحتضر بسبب الجوع في إحدى مناطق السودان، وعلى مقربة منها نسر ضخم ينتظر موتها.
هاتان لحظتان يلتقي فيهما الجانب الثقافي بالجانب البيولوجي، فأن تخلد لوحة أو صورة «طعامية»، أو تتوج بأكبر الجوائز «الفنية»؛ لأنها تلبي حاجة جمالية، لا ينفصل عن جعل النقص في «الطعام» في حدوده الحيوية الدنيا، قضية للتأمل النقدي والفكري، فالاستهلاك الجمالي الصرف أو العابر، لا يمنحنا فرصة فهم تكويننا «الطعامي»، حين يصير جزءًا من اليومي الحياتي، الذي نجري خلفه، ونحاول الظفر بـ«خبزه» الذي به تستمر الحياة. ولعله من الضروري لكي تستقيم نظرتنا إلى علاقة الطعام بالحياة وخطاباتها أن تخضع للقراءة النقدية الفاحصة والمتأملة، لكن بقدر كبير من لذاذة الطعام، وبفائض من انسيابيته في الجسد والعقل.
وفي هذا السياق يأتي كتاب «الطعام والكلام: حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي» (إفريقيا الشرق – الدار البيضاء) للجامعي والباحث البلاغي سعيد العوادي، فهو يقدم تصورًا مختلفًا عن علاقة الطعام بالكلام، من حيث جعل الأول خطابًا مركزيًّا في صناعة أنظمة الخطاب الإبداعية والحياتية على السواء. والخطاب الذي نقصده، هنا، يقترن بمعنيين: الأول، هو مركزية الطعام في تشكيل بنيات خطاب الأجناس الأدبية، عبر استقراء مدونة أدبية تراثية واسعة تتضمن نصوصًا شعرية من توجهات ثقافية مختلفة، أو نثرية من أخبار وخطب ومقامات وغيرها، والثاني، هو دلالة مفهوم الخطاب على السجال الغائر الذي يستدعي أبنية حجاجية واقعية أو مغالطية، فالخطاب «في حالة حوار أو صدام دائم مع مواقف أخرى» (ميلز، 2016، (ميلز، سارة 2016، الخطاب، ترجمة: عبدالوهاب علوب، ط1، المركز القومي للترجمة، ص: 26).
تحول في مشروع الكتابة النقدية
خصّ سعيد العوادي مشروعه النقدي والأكاديمي للبلاغة العربية، الذي استهله بكتاب «أسئلة البديع: عودة إلى النصوص البلاغية الأولى (2009م)، ورسخه بكتاب «حركية البديع في الخطاب الشعري: من التحسين إلى التكوين» (2013م)، الذي وصل إلى اللائحة القصيرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب (2014م)، وهو منذ البداية لم يأنس للنمذجة الراسخة التي تجعل البديع عنصرًا منذورًا للترقيش أو حلية للتحسين، إلى الترافع على كونه جزءًا من بنية خطاب القصيدة العربية، ومعبرًا عن روح العصر الذي تنتمي إليه. وهذا التحرر من سلطة التناول المدرسي للبلاغة، أو التصنيف الراسخ لمؤسسة «البلاغة» منذ بواكير مشروعه، هو الذي مكنه من بناء تصور خاص، يركز بوساطته على عنصر «التكوين»، وهو نفسه الذي نصطلح عليه في هذه القراءة بأنظمة الخطاب، أي أن يخرج البلاغة من النمذجة القاتلة التي تؤذن «باحتراقها»؛ بسبب ادعاء «نضج» مكذوب. ولعل مقدمة أستاذ الأجيال «محمد زهير» لهذا الكتاب، وهو الباحث المجدد الذي لا يحفل بسلطة النظرية على النص، تنبئ أن هذا التحول قد بدأ عند العوادي منذ مرحلة الإشراف على الدكتوراه، إلى أن نضجت بقوة في كتابه الجديد، واتخذت تنسيجًا يجمع بين سلطة النص ومرونة المنهج.
ولذلك نلمس ذلك التحول الهادئ في مشروعه البلاغي، من خلال الكتب الفردية أو الجماعية التي كتبها أو نسقها، وبخاصة الكتاب الجماعي «البلاغة الثائرة: خطاب الربيع العربي: عناصر التشكل ووظائف التأثير» (2017م)، الذي شارك فيه باحثون من تخصصات متنوعة، لكنها تنفتح على البلاغة الجديدة التي تتنوع منظوراتها النقدية، وتشتبك مع خطابات الحياة اليومية والسياسية والثقافية المتنوعة، وهذا يعني خروجًا عن «معتمد» المؤسسة البلاغية التي تتصل في جوهرها بتحليل النصوص الأدبية «المعترف بها». وهذا التحول في تصور البلاغة ووظائفها، هو مدخل ضروري لتجديد أدواتها، عبر الانفتاح على منظورات نقدية أخرى. فالخروج من المعتمد ومن التصورات «النظامية» على نحو محسوب وعالم وهادئ قمين بأن يجدد الخطاب البلاغي، ويعلن عن عودة مظفرة له.
إن كتاب «الطعام والكلام»، يجسد تحولًا أبلغ في مشروع العوادي النقدي، وامتدادًا لجهوده السابقة، فهو يسترفد المقاربة البلاغية بتصورها الجديد، في تناغم مع حيوية المقاربة الثقافية، قصد تقديم قراءة مشدودة إلى «الأكاديميا» اعتبارًا للمرجعية المنهجية المذكورة، مع اتسام بحيوية وليونة «منهجية وأسلوبية» تستهدف القارئ العام. وهذا معناه أننا أمام مشروع بغاية مزدوجة: علمية يتدثر فيها المنهج أو يظهر للقارئ المتخصص، وتواصلية تجعل من مدونة تراثية هائلة حول «الطعام» في متناول القارئ بغض النظر عن تخصصه، تعده بالمتعة وبالفائدة، وترسخ، بهدوء، استغوارًا لقضايا ثقافية وحضارية وإنسانية تتصل بالتعامل مع «الطعام» من حيث هو قضية وجودية.
وسنحاول إظهار جوانب من هذا التحول في الكتابة النقدية، الذي يتناغم وإبستيمي جديد يقول إن الكتابة النقدية ينبغي أن تخرج من جبّة «الأكاديميا» المفرطة، إلى رحابة مقاربة متنوعة المنظورات، تقربها من الحياة العامة.
الأكاديميا والمنهج الخفي
إن قارئ كتاب «الطعام والكلام» سيثيره من البداية ذلك التحرش المضمر بالبناء الأكاديمي المعروف و«الأساس» للكتب اللوغوسية، التي تتناول قضايا فكرية أو نقدية أو ثقافية، أي المقدمة والعناوين الدقيقة للأبواب والفصول والمباحث والمحاور، التي ينبغي، ضرورة، أن تستجيب للوظيفة المرجعية للعنوان لا وظيفتيه الشعرية أو الإشهارية، بالقياس إلى الكتب ذات الطبيعة الإبداعية. فالأمر، هنا، يتعلق بباحث أكاديمي بمشروع علمي معروف، ومشهود له بالدقة العلمية، لكنه يفارق هذا النسق الأكاديمي المؤسسي الذي يعرفه جيدًا وينتمي إليه، إلى منهجية مختلفة، تسترفد عناوين الفصول من «الحقل الطعامي» ذاته، فيخرج بها من معانيها المعجمية إلى جهاز «مصطلحي» خاص بالكتاب، بمعنى أن الأمر لا يتعلق بتوظيف مفاهيم بلاغية موجودة وإسقاطها على النصوص، بل خلق ضرب من «التحاقل» المنتج بين «المعجم الطعامي» وبين «الجهاز المصطلحي» المستوجب في أية دراسة أكاديمية.
وهكذا استعاض العوادي عن تسمية المقتبسة ببيضة البقيلة، كناية عن جودة دلالة المقتبسات على مرامي الكتاب ورهاناته، واستعاض عن «المقدمة» بالمُفتِّحة ترغيبًا للقارئ وضيافة له، وعن الفصول الأربعة، بالأطباق الأربعة، دلالة على كثرة التفصيل والاستقراء وتنوع المدونة، وعن الخاتمة «بالتحلية»، بما فيها من اختتام لذة القراءة وحسن التذوق، وعن «لائحة المصادر والمراجع» «بمطبخ الكتاب»، رجاء في تقديم أدوات الإنتاج التي يمكن أن تفيد طاهيًا/ كاتبًا متخصصًا في التأكد من الجودة أو إنتاج كتابه/ طعامه الخاص. ولا نَعُدّ هذا التصنيف الجديد مجرد رغبة في الاختلاف عن السائد شكليًّا، ولكنه صادر عن وعي منهجي «نسقيّ» يضاهي تراتبية تقديم المأكولات في الطعام، وهو هنا يصدر عن «المبدع البليغ» الكامن فيه، لا المتخصص في «القول البليغ».
إن هذا التحرش الظاهر بالمنهجية الأكاديمية المؤسسة يتناغم نسقيًّا مع مرونة منهجية تخترق فصول الكتاب (أو أطباقه بتعبير الكاتب)، تُراوِحُ بين عرض النصوص الطعامية المسترفدة من مدونة تراثية، أعمل فيها العوادي كثيرًا من التنقيب والحفر الواعي، بتؤدة الباحث غير المتعجل، وبين استقراء نصي ممتد، ينطلق من مركزية النص الشعري أو النثري المقارب، لكنه مشدود إلى وعي منهجي. يقول: «أعتقد أن التحولات المهمة التي مسّت علم البلاغة اليوم، من شأنها أن تفتح أمامنا أفقًا جديدًا لقراءة هذا النمط من الخطابات؛ وهو أفق يتجاوز القراءة التعليمية الضيقة التي عمّرت ردحًا من الزمن، وحصرت اهتمام البلاغة العربية في تسمية الظواهر. ويتطلع إلى قراءة ثقافية حضارية، يتحاور فيها التعبير مع التفكير والأنساق مع السياقات، وتفتح فيها أبواب النصوص ونوافذها على مسرح الحياة الاجتماعية والثقافية» (ص15). فالوعي المنهجي للكتاب يقوم على تقديم قراءة بلاغية جديدة ومنفتحة على المقاربة الثقافية، بما يعني ذلك من توسيع رؤية الكتاب ومرونة مفهومية ومنهجية.

الطعام وبنيات خطاب الكلام
تتحدد أطروحة الكتاب في عدّ الطعام خطابًا مركزيًّا يشكل أنظمة الخطاب، سواء على مستوى بنيات خطاب الجنس الأدبي الأبرز ومدونتنا الثقافية الكبرى «الشعر»، أم الأجناس النثرية من مقامة وخطبة وغيرها، أو حال الحوار والصراع بسبب نقص الطعام أو وفرته. ولقد وقف العوادي عند ظاهرة «المعايرة بالطعام» في التراث الشعري العربي، بوصفها «آلية هجومية أو دفاعية تعتمد عليها القبائل حتى بعد العصر الجاهلي، خصوصًا في مرحلة بناء التحالفات الجديدة» (نفسه، ص:42). وهذا معناه أنه يقرن المعايرة بالطعام بأحد أغراض «الفحول» في الشعرية العربية التقليدية، وهو «الهجاء»، بما يعنيه من تعييب للآخر المختلف، وتنقيص من قدره وقيمته، حتى وهو يشترك معك في «الملح» و«الدم الرمزي». ولذلك كانت المعايرة بأنواع الطعام، ذات أثر بالغ أفضى إلى صناعة الفروق الاجتماعية وتوسيعها، حتى صارت تتنضد أنساق تمييزية في المجتمع (المعايرة بين البدو والحضر)، أو طبقية (التمييز بين الرقيق والسيد).
ويورد العوادي في هذا الباب نصوصًا شعرية ونثرية متنوعة يستقرئ بوساطتها سمات هذه الأنساق التمييزية، ومنها نص دال يرويه الأصمعي عن ذي الرمة يكون فيه الجواب عن السؤال: ما أطيب اللبن؟ مدعاة للتمييز بين ابن الرقيق وابن السيد، وقِسْ على ذلك التراتبية الطبقية بين «الأسياد» أنفسهم من خلال نوع الطعام. وما نعتقده هو أن النصوص التي يوردها الكاتب بكثير من الاكتناز تارة، أو التوسع حين تكون الحاجة إليه قائمة، هي مدخل لتأمل انتظام هذه التراتبية الطعامية ضمن نظام للخطاب، يصنف وينمذج ويرتب ويضع القواعد الصارمة، لكنها في الوقت نفسه منغرسة في الشخصية العربية وتوجه سلوكها؛ إذ يتجاوز الكاتب التصنيفات المدرسية التي تصنف أخبار الطفيليين أو البخلاء ضمن «أدب الهزل»، فلا يزال الطعام إلى أيامنا هذه، وسيلة «للتعيير» و«الهجاء» تمامًا كما تؤكده النصوص التراثية الهائلة التي يورد الكتاب كثيرًا منها، ويستقرئ منها امتداد هذا التعيير في عصر وسائط الثقافة؛ بل إن هذا التعيير بالجوع مثلًا، أو بنقيضه أي الوفرة الشديدة، صارتا طرائق للتنمر والتعيير بين الأفراد. والكتاب ينتبه إلى نقطة مهمة في هذا الصدد، هو أن العرب كانت تُعيّر الجماعة بسلوك الفرد، وينسحب تعيير «طعامي» لفرد واحد على قبيلة بأكملها، وهذا العقل «التعميمي» لا نزال نرصده، بقوة، في وسائط تواصلنا.
ولأن العوادي «باحث بلاغي»، فلم يفته، هنا، أن يستغور المفردة المعجمية والمصطلح البلاغي؛ ليستخلص منهما، تلك العلاقة الظاهرة أو الخفية بالطعام، ما دام أقنومًا موجهًا، في نظره، لكثير من علوم العرب وخطاباتها، ولا غرو أن نتأمل ذلك السفر الماتع الذي يقدمه الكتاب في مادتي «أكل» و«شرب»، ليقف عند اشتقاق الأكلات العربية على وزن «فعيلة»، كالسخينة واللويقة والصحيرة.. وغيرها، أو يخوض في تلك السُّلمية الدقيقة لأنواع «الأكل» و«الأكلة»، أو «الشرب» و«الشاربين»، مع سياحة لطيفة في التوظيفات المجازية لمفردات «الأكل» و«الشرب»، في سياقات لا تتصل عضويًّا بالتغذية البيولوجية، بل بالفهم أو الاعتداء على مال الغير ونحوهما.
ولعل هذا الخوض اللطيف والهادئ في جينيالوجيا المصطلح، هو نفسه الذي انتحاه الكاتب في رصد علاقة الطعام بالمصطلح «البلاغي»؛ لذلك يقرن، مستندًا إلى ابن فارس، البلاغة «بما يتبلغ به من طعام أو شراب» (نفسه، ص:86)، مع ربط هذا «التبلغ» بالتؤدة والدقة والإيجاز، أي بما يلبي الحاجة دون زيادة تفيض عنها، وهو في ذلك يخرج إلى التعريف الدارج الذي يورده ابن رشيق منسوبًا إلى شخص غير معروف مؤداه «أن البلاغة إجاعة اللفظ وإشباع المعنى» (نفسه، ص:86)، وقس على ذلك ما يرتضيه الكاتب من حفر في النسب الطعامي للمصطلحات البلاغية، من دون أن يخرجها من مفاهيمها الراسخة كليّةً، وعلى الدرجة نفسها يؤصل العوادي لمصطلح «الفصاحة» في إطار تأصيل نسب «شرابي»، مع الانطلاق من استقراء المعاجم والنصوص التراثية المؤسسة، ودون إخلال بالمفهوم الأكبر الذي ارتضته المؤسسة البلاغية. والكاتب في النهاية هو ابن هذه المؤسسة، التي يروم التنبيه على رحابتها المفهومية بدرجة أولى من داخلها.
إن العوادي يميل واسعًا إلى عدّ الطعام خطابًا مركزيًّا في تشكيل «علم البلاغة»، وبناء قوة المرافعة في النصوص الشعرية أو تدمير الخصم بتعييره، فضلًا عن الأجناس النثرية المتنوعة، وبخاصة كتب «الطبيخ» التي جعلها الطعام تصنع منهجيتها وأسلوبها الخاص، وبالمجمل قواعدها التي تميزها عن الأسلوب السائد الذي تعرِفه وتعرّفه المؤسسة الأدبية.
خطاب الطعام والصراع الثقافي
يقف كتاب «الطعام والكلام» عند العلائق الممكنة بين الطعام والوجود، فإذا كانت البلاغة قد نشأت في جو «الضيافة» كما يؤكد الكاتب، فإنه في الوقت نفسه قد كان مدخلًا للصراع بوساطة صناعة خطابات المواجهة بين قيم الكرم والبخل والتطفيل، التي اصطلح عليها العوادي على التوالي بالطعام الموهوب والمرهوب والمنهوب. وهذا الصراع الذي يستدعي بناء الحجاج الواقعي أو المغالطي لم يخل من رسم تمثيلات ثقافية عن الذات والآخر، في سياق مشروع عام لأسطرة الذات أو الجماعة، ولذلك يقف الكاتب مطولًا عند أسطرة التراث العربي، سواء في نصوصه الشعرية أم النثرية، لشخصية حاتم الطائي، الذي اتخذ رمزًا للكرم العربي.
لا ينخرط الكتاب في حمأة التمجيد المطلق لخطاب الكرم؛ وإنما يضعه في سياق صراع التمثيلات الثقافية القائمة، ولذلك ينتحي نظام النموذج العاملي المعتمد في التحليل السيميائي، ليقف عند علاقة الذات الكريمة بالعوامل المساعدة أو المعوقة، وهنا ينبه الكتاب إلى الفكر الناسخ الذي يلحق سلوك «الكرم» الذي يفترض أنه يمثل قيمة القيم في الثقافة العربية، وهو أن العوامل المعوقة يجتمع فيها: البرد الشديد، والليل، والزوجة العاذلة. ومن الدال، هنا، الوقوف عند العدد الكبير من النصوص الشعرية، وعند حاتم الطائي نفسه، التي تبني قوتها الحجاجية على جعل الزوجة/ المرأة عنصرًا مانعًا لقيمة الكرم، وتصويرها بوصفها معادلة للبخل/ الشر. فالصراع يصير جنوسيًّا، بأن يكون البخل والتقتير أنثويًّا، والكرم والجود ذكوريًّا. فيحضر «الصوت الأنثوي في نمطين: أحدهما صامت تفهم رؤيته في النقد الذي يقدمه الشاعر الكريم، والآخر مصوّت يعبر عن رؤيته التي لا يخرجها الشاعر في الحالين معًا عن معنى البخل والتقتير» (نفسه، ص:164).
إن الرجل هو الذي يرسم الصورة الثقافية للمرأة، فهي تندر أن تكون ضيفة في أشعاره، وهي من تواجه بطولة «الكرم» عبر العذل المتكرر، أو الحجاج المغالطي المكذوب في تصور «البطل الثقافي». وهو، هنا، صانع المرأة والمتصرف فيه «بالاجتزاء والقلب والإضمار والتهويل» (نفسه، ص:168). فالكرم، هنا، لم يعد بذلًا للمال والطعام بوصفه فعلًا طوعيًّا ودرجة من صميم الثقافة العربية كما يفخر بها أصحابها، ولكن ضربًا من الثقافة الناسخة التي تصنع تمثيلات ثقافية ذكورية عن المرأة. ولذلك نحمد للكاتب أنْ نبه إلى أن المرأة العاذلة تمثل القيم العربية والدينية في بعدها الوسطي، لا كما يقدمها «البطل الثقافي» المنطلق من الرأي الدارج «الشرف في السرف». وهذا يعني أن الطعام جزء مكين من صناعة خطاب «الذات الناسخة»، ولو اتخذت من قيمة القيم مدخلًا للفخر بنفسها.
وهنا فلا فرق عند العوادي بين «الطعام الموهوب» الذي يمثله الكريم، أو الطعام المنهوب الذي يجسده «البخيل»، فهما معًا يبنيان خطابًا لا يسعى إلى المحاورة المنتجة؛ بل إلى تحصين اختيارات الذات في التصرف بالطعام بوساطة التعيير أو الحجاج المغالطي، الذي يسقط على الآخر كل علل الذات، ولا يني عن ادعاء العلم بفوائد الطعام «والتطبُّب» ناصحًا الضيف أو ملهيه، أو محرجه، حتى يتحقق مقصد «الجمع والمنع»، ومع ذلك فإنه يوجه نقده لخطاب الكرم في الشعر والنثر.
غير أن خطاب «التطفيل» الذي يوليه الكتاب اهتمامًا خاصًّا، يعبر عن صراع «مؤسسي» أشد، فخطابا الكرم أو البخل لم تكن لهما مؤسسة واضحة، بالقياس إلى خطاب «التطفيل»، الذي بنى مؤسسته الخاصة، وكأننا أمام حرفة معترف بها، ولعل من حسنات الكتاب أنه يورد نصوصًا على درجة كبيرة من الطرافة، التي تنبئ عن «الهزل»، لكنها في جوهرها تظهر ذلك الصراع الخفي بين الطبقات الاجتماعية، ليكون «التطفيل» على ما يقترن به من وصوم الثقافة، خطابًا ممانعًا ومضادًّا للتوزيع غير العادل للثروات، وإعادة اقتسام مدروس، يتخذ شكل الكدية أو الحيلة أو حتى المواجهة المباشرة. ومن غريب ما يقع عليه الكتاب من نصوص هو سدّان «التطفيل» وحكماؤه، الذين أبدعوا نصوصًا وقواعد داخلية في التطفيل، ولذلك يخلص العوادي إلى حكم طريف لكنه دال حول التطفيل باعتباره «رؤية طعامية للعالم، ترى الوجود طعامًا وتقيسه بعقل طعامي» (نفسه، ص: 244)، ويستقرئ لهذا الحكم نصوصًا متنوعة ترصد إجاباتهم عن الأسئلة الوجودية الحارقة في حضرة الطعام.
ولعل الجديد الذي يقدمه الكاتب في رصد خطاب البخلاء والطفيليين والكرماء، أنه أخرج إنتاجاتهم وكتاباتهم من تصنيفات تقليدية تميز بين خطاب «الجد» وخطاب «الهزل»، فهو يخضع ما يعدُّه البلاغيون خطاب هزل لقراءة فاحصة وناقدة، تقف عند رؤيتهم للعالم وللوجود، التي جعلتها المؤسسة البلاغية التقليدية ضربًا من النصوص الهزلية التي تستهلك في لحظاتها، دون أن تحوز في نظرها ما يمكن أن نَعُدّه خطابًا مقاومًا للمؤسسة السياسية والاجتماعية القائمة.
خاتمة
إن كتاب «الطعام والكلام: حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي» يقدم قراءة جديدة عن حضور «الطعام» في المدونة التراثية العربية، بمنهجية مرنة مشدودة إلى مرجعية أكاديمية دقيقة ورصينة، لكنها متنضدة في بنية الكتاب، من دون أن تثقل بحضورها الظاهر على القارئ المتصيد المتعة والفائدة. لقد تحاورتُ مع الكاتب في أكثر من مناسبة وهو ينجز هذا الكتاب لمدة ثلاث سنوات، وقد حمدتُ فيه توسعه في استشارة باحثين وقراء من تخصصات مختلفة، ووقفت عند حرصه الدقيق على تحصين هذا الكتاب من المآزق المنهجية، كما جَلده الظاهر في محاورة عدد كبير من المصادر والمراجع، وبعضها نادر أو غير مطروق في كتب شبيهة، تظهر في «مطبخ الكتاب».
إن كتاب «الطعام والكلام» يرسم طريقًا أخرى للبحث في «الخطاب الطعامي» وعلاقته بخطاباتنا التخييلية واللوغوسية، ويشكل أيضًا مسارًا مختلفًا في المشروع البحثي للبلاغي سعيد العوادي، الذي لا شك يقارب خطابات إبداعية معاصرة وفكرية عبر هذه المنهجية الهجينة في الكتابة، التي تتخذ لبوس البلاغي المبدع والناقد الفاحص والبحاثة الذي يحفر في النصوص والنفوس.
0 تعليق