تكتُبُ سوسن دهنيم، في عملها الشعري «في تأويل نفي ما»، سيرةَ هِجرة الحُبِّ إلى الحُب. تَكتُبُها من مكان «تأويل» شِعريٍّ تنتصِرُ فيه الكتابة لِتجربة الحُب ولِأفقها الإنساني، عبر إعادة تحبيكٍ مجازي لِشذراتٍ مُتفرِّقة ومكثفة من قِصَّته اللاهبة والمأساوية. كتابة تنتَصِرُ للشعري في هذه التجربة، فتجعلُ لِلبوح والِاعتراف والمُسارَّة مكانًا في نسيجِ الكتاب، الذي يجنحُ للتركيب من خلال توزُّعه إلى أربعة أبوابٍ وثلاثة مَحافِل: صوت، الغريب، سمراء. إنَّ انقسامَ الذات الشاعرة على هذه الشاكلة، يَتَّجِهُ إلى لَحْمِ سيرة هِجرة الحُب بصيغة مأساوية، تَنبثِقُ مِن أصوات ومَنظورات شعرية مُتعدِّدة، قادرة على لَملمة جِراح هذه الهجرة وكتابتها، وفق إيقاعات وصيغ مختلِفة أيضًا.
سيرَة الهِجْرَةِ إلى الحُب
تَكشِفُ الذاتُ الكاتِبة عنْ ذاتِها ومَشروعِها الشِّعري في «أوانِ الحكاية»، البابِ الأول لِلكِتاب. كَشفٌ يَستند إلى اكتمال «فُصول المَحبة» بِقلبِها. إنَّ فصولَ المَحبَّة هي ذاتُها فُصولُ الحكايَة «المُحِبَّة»، التي لا تتكفَّل الذاتُ بِكتابَتِها إلا بِوصفِها إحدى فيوضات القلب في فَصل اكتمالِه. فَصلُ يقع خارجَ الفصول لأنه يَرْهَنُ الوقتَ والعاشِقَ والشاعِرَ بِزَمَنية العِشق المُحوِّلة. ما تنفُثُه الذاتُ الشاعرةُ مِن لَهبِ المُخيِّلَة المُحِبَّة لِكتابة سيرةِ هجرة الحُب يُضيء «حُزنَ الملائكة المَهزومين» في مُحيّا العاشِقين. مُحيَّا الملاكِ المصعوقِ بالأنوار التي تَشدُّه إلى مُستحيلِه المُتعالي: «عتبات الرب».
لا تُقيمُ الذاتُ الكاتبةُ تمامًا في هذا المكان «المُتعالي» (الصوفي)، ولكنَّها تَستدرِجُ بَعضَ شُذورِه بِغنائية مَأساوية مُتوهِّجة، تَضيءُ حُزنَ العاشِق في هِجرتِه إلى الحُبِّ الإنساني هَرَبًا مِنْ تصلُّبِ القيم الجماعية القاهِرة: «جورُ القبيلة». إنها هِجْرَةٌ إلى الحُبِّ بِوَصفِه وَعدًا باللقاء المُتجدِّدِ، الذي يُخصب القلبَ ومُخيِّلَتَه المُحبَّة: «نَهَضَ المحارُ في يَديها/ وازرقَّ في كفَّيْكَ الماءُ بَحْرًا وسماءً/ يَخضَرُّ اللقاء/ تُزهِرُ أنوارُ المدينةِ التي خرِسَتْ منذُ افتَرَقْتُما». ولا يَنفصِلُ هذا الوَعدُ باللقاء عَنْ فيوضاتِه الشعرية، التي تجعل العِشقَ مضاعَفًا: فهو عشقُ للقاء بِجسَد الحبيب وبالقصيدةِ التي تنجُمُ عن تلك التجربة وَتُؤبِّدُها: «تَحتَضِنُها فَتُحيلُ جَسَدَها مِحبرة/ وقارورَة حنين/ تَترُكُ عِطرَها على ضلوعِكَ يُناغي قصائدَكَ في غيابِها». إن ما يَفرضُه الحُبُّ/ العِطرُ مِن تَجربةِ التَّلاشي، بالرغم من إيروسيتِها الواضحة (جَسَد/ مِحبرة/ قارورة)، تُثبِّتُه القصيدةُ في مكانِه الشعري الأثير، غير القابل لِلنِّسيان أو المَحو.
لِمُقاوَمَةِ هذا النِّسيان، يَتدخَّل الشِّعْرُ وتَكونُ حَيوية الكِتابة. تُنسَجُ خُيوطُ هذا التأويل داخل الكتابة نَفسِها، فالشاعِرةُ تجعلُ من العاشِق شاعِرًا، قادِرًا، بالرغم من هشاشتِه أو بِفضلِها، على تثبيت المُقاوَمة/ الصَّبر في «كِتاب الألف مُستقيمًا». وَرُبَّما ليس عَملُ الشاعرة سوسن دهنيم، في النهاية، إلا «تأويلًا» شعريًّا مُضاعَفًا لِما وَرَدَ في هذا الكِتاب: «هُنا رسائلُكَ لها/ هُنا كلماتُها إليكَ». إنَّ رجفة «الأحرف» المُحِبَّة في تجربة هذا الكتاب، تُحاوِل الصمودَ أمام رياح الجماعة القاهِرة، كما أن التأويلَ الشعريَّ، الذي تقترحُه الشاعرة يَجعلُها خالدة في أعين «الناظرين لِنور حُبِّكُما».
تَكتُبُ الذاتُ في «قُبيل الرحيل» (الباب الثاني) وَحدةَ العاشِقِ وَوحشَتَه، بعد أن «تثاقَلَتْ ضَحكاتُ الصباح عَن زِيارَةِ ذاكِرَتِه». تثاقُل يَكشِفُ عن ضَغط قُوَّة الجماعَة القاهرة، التي لَم تَعُد تُحيلُ بين لِقاء الأُلَّافِ فَحسب، بَل تَنصبُ حَواجِزَ بين العاشِق وذاكِرتِه. إنه امتهانٌ للجَسَدِ المُحِبِّ ولِمُخيِّلَتِه المُحِبَّة أيضًا. هذا ما يَكشِفُ عنه الـ»صوت» في هذا الباب، وهو في كتاب دهنيم أقرب إلى صَوتِ «الراوي» العليمِ، أو صوتِ الضميرِ الشعري الذي تختفي وراءَه الشاعِرة، دون أن تكشِفَ عن أناها مباشرة. صَوت يتناوَبُ، في هذا الباب، الإضاءة الشعرية مع صوت «الغريب»، الذي يكشِفُ في مُجمَل الكِتابِ عن ذاتِ العاشِق، بَطلِ سيرَة الهِجْرَةِ إلى الحُبِّ.
صوت الضمير
يَرْسُمُ «صوتُ» الضَّمير، في هذا الباب، صورَةً طافِحة بالحُزن والمَرارة، تَغرَقُ في حُلْكَتِها وُجوهُ: العاشِق والأم والنِّساء العاشقات، ومِن ضِمنهِن حبيبة «الغريب»، التي يُؤجَّل صَوتُها إلى البابين الشِّعريين القادمين. صوتُ الضميرِ هُنا، يَرصُدُ الغيابَ والاِنتظارَ اللذين يَتأجَّجُ لَهبُهُما، مُحوِّلًا ذاكرةَ العاشِق إلى «بُركان». إنَّ المُخيِّلة المُحِبة تحترِق تحت قُوَّة لَهبِها، إذا لَم تجدْ مُتنفَّسًا شعريًّا يتحقَّقُ عبرَه التَّصعيدُ ووعْدُ اللقاء، وهو ما مِن شأنِه أن يُنقِذ، في النهاية، هذه المُخيِّلَة ذاتِها؛ لأنه يَمنَحُها مدى في الهجرة وفي القصيدةِ التي تكتُبُها. في الشعر إذن ينكَتِبُ وَعدُ هذه الذاكِرة، وفاءً لِلَهَبِها الذي يَدفَعُ بِقصَّة الحُبِّ نحو تَحقُّقٍ جديدٍ، عبر فعل الهجرة: في الأرض والقصيدة.
صَوتُ الضمير يَحتَضِن حُزنَ العاشِق وأشواقَ العاشِقات المُتوحِّدات، اللواتي لَم يتبقَّ لَهُن سوى رَتْق أحلام التحرُّر: «نساء يَخِطن دمعاتِهِنَّ قلائدَ لا تَنفَرِطُ/ يَرسُمْنَ على أذرُعِهِنَّ أجنحة.. ويَتبخَّرْنَ». إن التَّحلِّي بالذاتي، المالِح الشفاف، المُستقطَر من الأعماق الجَريحة (الدَّمع)، يَحدثُ عبر المُخيِّلة المُحِبَّة لِنسوةٍ عاشقات، يَنسُجْنَ مِن ذلك «قلائد» مُتماسِكة، مثلما يَرسُمن «أجنحة» تُسعِف أذرعُهن على الهجرة والتلاشي. إنَّ الحُلمَ بالهجرة إلى الحُب هو ما يَنسُجُ الحُلم الشعري الكبير في هذا الباب. بيد أن هذا الحُلم يتبأَّرُ أكثر في ذات العاشِق/ الغريب، ومن خلال ملفوظِه الشعري، الذي يَتوجَّهُ بِخِطابٍ حارٍّ إلى الوطن، وكأنه يَرْتَجِلُ ترتيلةَ وداعٍ حارقة إليه؛ لأنه لَم يَستطِع الوفاءَ لِمقام الحُلم والتبجيل الذي يُكنُّه له العاشِق: «تمنيتُكَ إلهًا وجنة ووطنًا… يا بلدي».
يَستحضِرُ مَلفوظُ العاشِق أيضًا «البيتَ»، مكانَ ولادةِ الرُّوح والجَسد، الذي يَستعدُّ لِاحتضان غيابَه. العاشِقُ لم يَعُدْ له فيه مكانًا، منذ أنِ افتُقِدَ ذلك الجَدَلُ السَّعيدُ القائمُ بين الوطن والبيت. إنَّ التوتُّر المأساويَّ الحزينَ هو ما يَطبعُ الآن العلاقة بَينهُما؛ لذلك، فإنَّ المكانَ الأمومِيَّ المفجوعَ في ابنِه العاشِق، لا يَملكُ له إلا «دعاءً لا يَذوي». إن الهجرة إلى الحُب تتمرأى الآنَ بِوصفِها قدَرًا شِعريًّا مُخَلِّصًا، تتأهَّب الذاتُ لِوَضْع نَفسِها في تيارِه إنقاذًا للحُبِّ ولِمخيِّلَتِه المُحِبَّة، التي تَتجسَّدُ جُزئيًّا في «كتاب» العاشِق. كتابٌ امتدَّتْ إليه أيدي الجماعَة المُتصلِّبة ومُؤسَّسة الموت: «أرحلُ وفي البيت غِربانٌ يتفقَّدون سريري/ يُمَزِّقون كِتابًا خبَّأتُه طَويلًا تحت وِسادَتي/ ونَسيتُ عَيْني اليُسرى في صَفْحَتِه الأخيرَة/ وفي غِلافِه أودعتُ قَبْرَ أبي». الهجرةُ إلى الحُبِّ هي أيضًا، بالمعنى القوي، إنقاذٌ للمخيِّلة المُحِبَّة، التي تَختزِنُ بأعماقِها، بِأسطر مِن لهب لا يَنطفئ، إرثَ الدَّم (الأم والأب) وكِتابَ الحُبِّ والحياة.
يَتَّسِعُ البابُ الثالث «بين مَوجَتَيْنِ» لِصَوْتِ العاشقة أيضًا بِوَسْمِها «سمراء» المنامة. منذُ الآن، تتواتَر في الكِتاب ثلاثة ملفوظات/ أصوات شعرية: صوت، الغريب، سمراء، لِتَرْسُمَ مِن زوايا مُتقاطِعة مَشهَدَ الهجرةِ إلى الحُب، بِمُختلَف هواجِسِه ورُؤاه وأحلامِه ووساوسِه المُقلِقة. رَسْمٌ يَعتمِدُ تراسُلَ المُخيِّلةِ المُحِبَّة، التي تتعدَّدُ أصداؤها بِفعلِ تَشابُك عناصرِها وأصواتِها، فتَتجِهُ مُتضافِرَةً إلى نَسجِ مُتخيَّل الحُبِّ في كِتاب الشاعرة. مُتخيَّلٌ لا تَنفَصِلُ تَداعياتُه عن مكابدة الهجرة إليه، عبر «سفينة» العشاق، أمَلًا في أن «تدنو البداية» الجديدة، و»تنتشي الوحدَةُ السافِرة».
يَرسُمُ «صوتُ» الضميرِ/ الرَّاوي، في هذا الباب، تَعرجاتِ هذا الأمل، عبر اكتناه ما يَخترقُه من طاقة وهواجس مختلفة تذهَب حدَّ نَثرِ اللعنات: «يلعنون صلصالًا وتفاحة ويهذون». إنهم جماعةُ الغرباء/ التائهين، اللذين يُهيّئ لهم قَدَرُ النفي صيغتَه الجمعية، فلا تَقِفُ حالة «الغريب» مَعزولةً، بل تحظى بِصوغ شعري يَضعُها في مَوقِع البُؤرة والفرادة الشعرية. ثمة إذن هِجرةٌ تتسعُ لِذواتٍ أخرى مضطهدة مِن الجنسين، تُقِلُّ، على نحو فردي، «سفينة» العشق، فيعرضُ الواحدُ منها جُروحَه على ماء البحر. إن هجرةَ «الغريبِ» إلى الحُب، يُترجِمُ، في هذا الباب، رغبةً مأساوية في تَجاوُز «الدَّم» الذي يَشخُبُ أيضًا في رؤية العرّافة الشابة، التي ارتعبتْ من هَوْل الرؤيا).
صوت الغريب
على أرضية قارَب الحُبِّ، يَحدُثُ لقاءُ العاشقين: الغريبُ وسمراء المنامة. يُوحِّد بينهما الحُبُّ وجِراحُ النفي وأحلامُ الحرية. «تكون له في القارب شِراعًا/ فَيغدو لها سارِية أمان». يَجْمَعُ بَين العاشقين أيضًا، عالمُ مِن الأشياء البَحرية الصغيرة (قواقع، أصداف، بياض هَمْس وسَمر) تُضفي شاعِرية حزينةً على وُجودِهما، محفزة بذلك أفعالَ الشِّعر المُنقِذة والمُحوِّلة: «تتكوَّرُ بينَهُما المسافَة فتغدو قَمَرًا/ تبسِطُ له الكفَّ أرضًا ووطنًا/ فَيُعلِّقُ قصائدَه على أنامِلِها بعد أن كتَبها بالدمع». ثمة شيءٌ مديدٌ ومُرهَفٌ مِنْ رومانسية الوجدان والبَوح، يُرخي ظِلالَه على العاشِقَين، فيُضفي على لقائهما عذوبَة داخلية، تَنتصرُ على أهوال النفي وجِراحِه.
الجَسارةُ والعذوبة يتقاطعان إذن في ذات العاشِق، فتَجعلُ الواحِدَ منهما سَنَدًا لِلآخَر: «تُرمِّمُ سمراء اليمامة روحَه»، فيما هو «يسألُ الأفقَ عن مَهدٍ سُرِقَ مِن الغصَّة الأولى». إن الهجرة إلى الحُب مُحفَّزة هُنا بِرغبة محمومة في استعادة صرخة الولادة النقية، بعيدًا عمّا تغُصُّ به أفعال الجماعة ومَلفوظاتُها من صِيغ الحرمان والِانتهاك؛ لذلك، فمع «كل هبَّة ريحٍ تَهُبُّ تَلِدُ أرواحًا جديدة في أجسادٍ مَزَّقَتْها البِحَارُ»، هكذا، يرى «صوت» الضمير. إنَّ الولاداتِ الجديدةَ المأمولة، مُستعِدّة لكل أشكال التَّمزُّق، أمَلًا في تَرميم الرُّوح وَوِلادتِها في كَنفِ الحُرية من جديد. الشِّعرُ والبَحرُ وثراءُ المُخيِّلة المُحِبَّة لِلعُشاق، تُشكِّل مُجتمِعة زادَ الذات في طريق هذه الولادة العسيرة.
يَتبأّرُ صوتُ «الغريب» في «بين مَوجتين» (الباب الثالث) حَولَ تجربَة الحُب محمولَة على بَحْر القصيدة. إن الشِّعر هو البحرُ الآخَر الذي يَحضن مَرْكَبَ العاشِق، فيجعلُ ملفوظَاته الحُرَّة، تتلوَّن بوجدان العاشِق وبِمُخيِّلَتِه المُحِبة، وهو في حضرة «سمراء اليمامة»، التي تُسلِّمُ روحه «لِجنَّة الأمل» فيما هي «تفردُ قَلبَها للريح». وإذْ تمتزجُ أنفاسُ العاشقين وأحلامُهما، فإن ذلك يَحدُثُ على «مَرْكَب» الشِّعْرِ المَحمولِ على تياراتِ المُخيِّلة المُحبة، المُخترَقةِ، في هذا الباب أيضًا، بصوتِ الأم وذاكرة البيت والعناصِر (الماء والنار والهواء والنبات).
إن الغريبَ لا يبني هِجرته إلى الحُب، إلا مُحتضِنًا لِكُلِّ ما يَصْنعُ ثراءَ تجربةِ الحُب ومُعجِزتَه المُحوِّلة، فتتقاطعُ تداعياتُ الطفولة بكل وشائجها واستدعاءاتها الرمزية الثمينة: «أخبِّئكِ في القلب غيمةً/ نوارِسَ تَجمَّعَتْ في حوش بيتِنا الخَلفِيِّ في انتظار خُبز أمّي/ أصيص نعناعٍ يُسكِرُ الحواسَّ كُلَّما هَبَّ نَسيمٌ/ ابتسامَة أمٍّ تُطفِئُ النور بِحذر كي لا يَستَيْقِظَ سريرُ طفلِها الخالي». إن الغريبَ، العاشِق/ الشاعِرَ لا يَتوانى، في ملفوظات عديدة، في سردِ أفعال الحبِّ غيرِ المُتعدِّية، التي تَحْدُثُ على مستوى اللغة المجازية، فتبقى مُتفجِّرَةً ضِمن مُخيِّلةٍ مُحِبةٍ، شديدةِ الحَفر والاتِّقادِ فيما هي تُعلِنُ الحبيبةَ «لَهفَةً ولَهبًا».
إنه اتقادٌ لا يَعدَمُ، مع ذلك، لحظاتِ سَلْبٍ، يُحوِّمُ فيها «الفقدُ» مَهدِّدًا بإغراق مركبِ العِشق في كوابيسِه المُخرِّبة. تتمرأى العاشِقة «سمراء اليمامة» لِلعاشِق/ الشاعر، في مثل هذه اللحظات، وهي تزرع «عينيْها» الرائيتين في قلبِه مُتذرِّعةً بالرحيل، مُتسائلة: من أنتَ تَحمِلُ البينَ فوقَ أيامِك/ والمساءاتُ تذرِفُك؟». إن السلبَ، مُخترَقًا بالهواجِس؛ إذ «يَهدِرُ دَم القصيدة»، فإنما يُصعِّدُ من تجربة الهول، التي تجعل الحبَّ والهجرةَ إليه، تجربة حُدودية، لا تعدُ بتجديد الولادة إلا مِن داخل تجربة التيه والتمزقات.

صوت سمراء
لِـ «سمراء» صَوتُها الشِّعري في: بين مَوجَتين. هي طرفٌ في قصة الهجرة إلى الحُب وفي صَوغِها الشِّعري. تطفحُ أناها الغنائية العالية بهواجس رؤيوية، تخترقُ سُمكَ الخطابات والأزمنة للقبض على المعنى. إنها لا تفعل ذلك، من زاوية الرائي المؤوِّل من مكان حصينِ وناءٍ، بل من داخل تجربة الهول: «شدّنا منفى إذا لَم نستطع/ مَنحَ المنامة مَرجَها وسماءَها». مَنفى تَشهدُ معه الذاتُ أنّ كُلَّ عذابها «سَفَرٌ إلى المعنى»، الذي يجعل أهوالَ الهجرة إلى الحُب، لا تَنفَصلِ عَن أهوال البحث عن المَعنى: «مِن شائع التأويل جئنا/ غُصَّة لِتلاعُبِ المعنى بنا». إنَّ الانفصالَ عَن الشائع في المعاني (التأويل)، هو قدرُ الذوات التي تهاجر إلى معناها الشخصي، الذي يَجعل كيانَها يتوهَّج بعلامات الحياة والحرية.
تَتكِئُ «سمراء» على ذاكرتها الرؤيوية (زرقاء اليمامة)، لقراءة الماضي وتبديد عتمات المستقبل. الشِّعْرُ حيوي في هذه الذاكرة التي تصلُها بنشيد المعلقات: «لي في الجاهليين اعتذارُ ذهابهم في الريح/ لي فيهم معلَّقةٌ وأسرارٌ وذَبْحٌ فاره/ وأنا الفراشة، زُرقةُ التأويل…/ أدافِعُ عن مجالٍ فَرَّ مِن شَبحي ومِنّي». إن تموُّجًا درويشيًّا (محمود درويش) يَمهُر صَوتَ «سمراء» في هذا الملفوظ، بِسَبكِه وغنائيته العالية، التي تَجعل الذات تجمح لِلسيطرة على مَوضوعها وخِطابِها، حتى في مَواطن الهشاشة: «باتجاه العتمة ستهاجِرُ الروح/… ترتوي بِغُربتِك فتُنجِبُ قَصيدتين…». تَموُّجٌ سرعان ما يَلينُ، لِيجعلَ صوتَ سمراء يَنبثِق أكثر من هواجس التجربة الشعرية وخُصوصيتها في الهجرة إلى الحب.
ثمة خشيةٌ في صوتِ «سمراء». إن تَوتُّرًا رُؤيويًّا مَوصولًا بِأهوال التجربة، يَتكلَّم أحيانًا في صوتِها: «كل شيء ينأى، وليس لنا إلا شِراعٌ تَقاسَمْنا بياضَه/ ودنَّسناه». هذا الصوت المُرتاب، الذي يجهد لترويض الدياجير، لا يبرحُ هشاشته الإنسانية. إنه صوت «عاشقة» جريج، وهو بالرغم مِن كُل مَزاياه الشِّعرية، لا يتكلَّم بِاسم مَلاك يَطوي الأرض ناشِرًا نورَه في الأرجاء. لذلك، ترين هذه الخشية، باسِطة ظلالها الشفافة على الملفوظ الشعري: «أخشى الوصول/… أقرأ لك فنجان الصباح بعينين مفتوحتين على جمر التأويل:/ كُلما البردُ انتدبَ أحصنتَه/ أضع عينيَّ في صوتِك/ أتذرَّعُ بِدِفْئكَ وأقْرَؤك». إن صوت «سمراء» المنامة لا يجمحُ غِنائيًّا ورؤيويًّا، إلا مُحتضِنًا هشاشته الشعرية الإنسانية.
يَستأنِفُ الباب الأخير «بلاد جديدة»، بأصواته الثلاثة، لملمة هواجس حارقة في تجربة الهجرة إلى الحُب. تتقد أكثر شعلة تأويل التجربة وهي تقترب من النهاية. ثمة فرحٌ بِصوت الحُبِّ، يَأتي على لِسان الذوات الثلاثة المُتكلمة في تجربة الشاعرة (سوسن دهنيم)، مثلما ثمَّة حُزنٌ يَرين مُستقرِئًا لحظات الصمت والانطفاء. فالعاشِقة، في تأويل «صوت» الضمير/ الراوي، «تقف على حافة الجليد» في روح العاشِق، ومَرَّة «يمنحُ الطريقُ لخطواتِها كمنجات/ كلما حان اللقاء/ وحين الفراق تجهش الأزقة بالنشيج». العاشقان، على لسان هذا الصوت، المُبشِّر والمُنذِر في آن، «كلَّما تَماديا في الأمل/ يَأخُذان حِصَّتهُما مِن الخَسارات». وإذا كان الله، قد خلَق الندى من رحيق العاشقة، فإن صوت البطش «جفَّف الرحيقَ/ وخنق الندى».
في كلام العاشق «الغَريب»، استئنافٌ لِلحُلمِ، لن يَتمكَّن، في النِّهاية، مِن إضفاء مآلٍ انتصاري على الهجرة إلى الحُب. إن التشبث بالعاشِقة «سمراء» هو تشبتٌ باللغة، مَسكنِ الروح وثروة اللغة الشعرية المُحِبة: «تهبينني لُغتي»، «أنتِ معي أهاجر لعينيكِ/…أنتبِهُ من حلمي/ أسمع الله يُهدهِدُني/ ويُزيِّنُ في قلبي الأبجدية». إن اللغة المحِبة، الشفافة، المُنقِذة، هي الجُزء المنتصِرُ في خِطاب العاشق؛ لذلك تَستأنِفُ بَريقَها في كلامِه، وفيما يَصوغُه مِن رؤى واستيهامات فردوسية لِذاتِ العشق وللمعشوقة: «أجمعُ من الشاطئ بقايا خطواتِكِ/ أعبئها في قنينة/ فأشرَبُها ماءً عند الحنين». إن هذه الاستيهامات تبقى متأجِّجة في خِطاب العاشِق، بالرغم مِن مآل النهاية والانطفاء الذي يُفصح عنه «صوت» الضمير/ الراوي: «تضعُ النهايةُ نُقطَتَها/ ترويها بِدم سمراء المنامَةِ ودمعة الغريب»/ مغمورة بالغياب».
تتكشَّف التجربةُ المُحِبة بذلك عن مأساة «النهاية»، التي تُبيِّنُ أنَّ ما يَحدُث على أرضية الذات والخطاب، يَشحُبُ أثرُه في أرضية هذه البلاد الجديدة. إن البحث عن معنى الحب والِارتواء من ثراء كيانِه المُحوِّل، يَصطدِم بِسطوة التقليد والهواجس المُحبِطة. ثمة حيِّز واسِعٌ للتلذذ بِهَمس الحُب وأصواتِه الحانية وخطواتِ المُقتحمة، واستيهاماتِه الشعرية المُحلِّقة، لكن ثمة أيضًا الوساوسُ الذكورية وسلطتها الجماعية (القبيلة)، التي تحوِّل تجربة الحُب إلى لُعبة «ورقية» مُفرَغة من أثرِها الكياني المُحوِّل. وقد تكشّف هذا التأويل، في النهاية، على لسان «سمراء»: «حين كسرتُ القيدَ الذي لففتَه حول خصري/ خشية مراقصة غيركَ عند كتابة قصيدةٍ جديدة/ اكتشفتُ بأنَّك كائنٌ ورقي». إن الهجرة إلى الحُب، بالرغم من شُعلة لُغتِها الفردوسية، التي تُضيءُ كثيرًا من ملفوظات العمل الشعري، تبقى مُخترَقة أيضًا بِهذا الصَّوت المُحبِط، الذي يَتسرَّب من منافذ التقليد والذكورية، لِيحكم على تجربة الحُب بالانطفاء.
0 تعليق