في ديسمبر 2024م، عاد مصطلح «الواقعية السحرية» إلى الأضواء مجددًا مع بداية عرض مسلسل «مئة عام من العزلة»، المقتبس عن أحداث الرواية الشهيرة التي تحمل العنوان نفسه للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، الذي جسدت أعماله المختلفة ببراعة استثنائية أدب الواقعية السحرية في أبهى حللها.
المسلسل أثار تساؤلات حول مستقبل الواقعية السحرية: هل ستتلاشى مع الزمن أم إنها خالدة وستظل تشكل جزءًا من الأدب الإنساني؟ ظهرت الواقعية السحرية في القرن العشرين حركة أدبية في أميركا اللاتينية؛ لتكون انعكاسًا لتاريخها المضطرب وهويتها المعقدة، حيث تتعايش الأساطير المحلية مع الحقائق اليومية. تتجاوز الواقعية السحرية كونها أسلوبًا سرديًّا لتمثل رؤية حياتية وأدبية تجمع بين العادي والعجيب، بين اليومي والأسطوري؛ لتخلق عوالم تمتدّ جذورها في الواقع لكنها تزهر بالخيال. وهي فلسفة سردية تزيل التخوم بين الخيال والواقع.
وضع ماركيز، برائعته «مئة عام من العزلة»، الواقعية السحرية في واجهة الأدب العالمي، حيث تحول السحر إلى أداة لفهم أعمق للواقع. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يمكن لهذا الأسلوب -الذي وُلد من رحم ثقافات وأزمنة معينة، والذي يحتفي بالخرافة والماورائيات- أن يظل حيًّا في عالم متغير تسوده الحداثة والتقنية، وتتحكم العولمة في كثير من مفاصله؟
عوامل بقاء الواقعية السحرية
على الرغم من أن الواقعية السحرية ارتبطت في المقام الأول بأدب أميركا اللاتينية، فإن جذورها تمتد إلى الفنون التشكيلية الأوربية في عشرينيات القرن الماضي، وتطورت الواقعية السحرية أدبيًّا في منتصف القرن العشرين. وأبرز الكتاب الذين ارتبطوا بهذا التيار هم (ماركيز) بروايته المشار إليها آنفا، و(إيزابيل الليندي) في «بيت الأرواح»، و(سلمان رشدي) في «أطفال منتصف الليل».
يراهن أنصار بقاء الواقعية السحرية وخلودها أدبيًّا، على امتلاكها مقومات الديمومة ومنها قوتها التعبيرية؛ فالواقعية السحرية قادرة على التعبير عن القضايا الإنسانية بطريقة رمزية وشاعرية، وهو ما يجعلها تتجاوز الحدود الثقافية، كما أن الحاجة إلى الأدب الذي يمزج بين الواقع والخيال ستظل قائمة؛ لأن الإنسان بطبيعته يسعى لفهم العالم عبر العجائب والأساطير، ناهيك عن أنَّ هويَّة الإنسان الأولى معجونة بالخرافة والسحر. وصحيح أن الواقعية السحرية وُلِدت وازدهرت في أميركا اللاتينية، لكنها لم تعد محصورة هناك، فكثير من الكتَّاب من ثقافات مختلفة باتوا يستلهمون هذا الأسلوب، وهو ما يمنحه فرصة جديدة للنمو والابتكار. إضافة إلى أن الواقعية السحرية لم تعد مقتصرة على الأدب، بل انتقلت إلى السينما، والتلفزيون، والفنون البصرية؛ وما ظهور مسلسل «مئة عام من العزلة» إلا دليل على أن الواقعية السحرية ما زالت قادرة على جذب الجماهير في أشكال جديدة.
في المقابل، يصرّ فريق من المهتمين على أنَّ الواقعية السحرية قاب قوسين أو أدنى من التلاشي لأسباب عدة؛ منها: التشبع الأسلوبي الناتج عن كثرة محاولات استنساخ الواقعية السحرية دون تجديد، وهو ما قد يؤدي إلى فقدان بريقها، وبخاصة إذا تحولت إلى مجرد صيغة متكررة من دون محتوى حقيقي. سبب آخر ماثل في التحولات الثقافية؛ ففي عالم تسوده التقنية والمعلومات الفورية، قد يجد القراء أنفسهم أكثر انجذابًا للأنماط الأدبية الواقعية أو الخيال العلمي الذي يتعامل مع المستقبل والتقنية بدلًا من الخرافة والسحر، ولا سيما مع بزوغ ثورة الذكاء الاصطناعي الحديثة. وسبب ثالث هو تغير الذائقة الأدبية لدى الأجيال الجديدة التي قد تجد أن الواقعية السحرية، برمزيتها العميقة وبطء إيقاعها في بعض الأحيان، لا تتماشى مع تفضيلاتها لقصص أسرع وأكثر مباشرة.
بين التلاشي والخلود: رؤية للمستقبل
الواقعية السحرية ليست مجرد تيار أدبي مرتبط بمدة زمنية معينة، بل هي طريقة لفهم العالم وإعادة تفسيره. وطالما ظل الإنسان يبحث عن معنى للحياة، ويتساءل عن الغريب والعجيب فيها، ستظل الواقعية السحرية من أصدق ملهميه. لكن لضمان بقائها، تحتاج إلى التجديد والتكيف مع العصر، فالواقعية السحرية التي عرفناها في أعمال ماركيز ورفقاء نهجه، قد تتغير ملامحها، لكنها لن تختفي. ستكون دائمًا مرآةً تعكس التوازن الدقيق بين الحلم والحقيقة، بين الماضي والمستقبل. واجهت الواقعية السحرية تحديات حقيقية في عصر التقنية المتسارعة، لكنها تملك قدرة فريدة على التكيف والتجدد، وطالما ظل الإنسان يبحث عن جمال الحياة وسط تعقيداتها، ستبقى الواقعية السحرية حاضرة.
ولا ننسى أيضًا أنَّ الواقعية السحرية تُعَدّ أداة قوية لتعزيز الهويات الفردية والجماعية، وبخاصة في المجتمعات التي تواجه خطر الذوبان تحت تأثير العولمة. ففي عالم يتجه نحو التجانس الثقافي، تُعيد الواقعية السحرية إحياء الأساطير والموروثات الشعبية، وهو ما يمنح المجتمعات فرصة للحفاظ على خصوصيتها الثقافية. فمن خلال دمج الواقع بالخيال، تُبرز رواياتُ الواقعية السحرية العلاقةَ العميقة بين الإنسان وبيئته، وتُعيد المكانة للعجائب والأساطير المحلية كجزء لا يتجزأ من الهوية. وفي مواجهة العولمة، تتيح الواقعية السحرية للأدب أن يكون صدى للقصص الفريدة التي تميّز كل ثقافة، وهو ما يساعد على مقاومة التلاشي الثقافي وتعزيز الانتماء.
الواقعية السحرية ليست مجرد أسلوب أدبي؛ إنها فلسفة وطريقة لفهم العالم. وعلى الرغم من أن الزمن قد يغير شكل الأدب وموضوعاته، فإن الحاجة إلى التعبير عن المشاعر والقصص الإنسانية بطرق رمزية وسحرية ستبقى. وقد تتراجع الواقعية السحرية في بعض الفترات، لكنها لن تختفي؛ لأنها متجذرة في طبيعة الإنسان الذي يحب أن يرى في العالم أكثر مما يظهر للعين. وربما تتغير الوسائط والطرق، لكن روح الواقعية السحرية ستظل تجد طريقها إلى القلوب والعقول.
0 تعليق