يخفت حضور أدب الرحلات -إبداعًا ونقدًا- في عصرنا الحديث على الرغم من أصالته في تراثنا العربي، وامتداد تجربته عبر عصور عدة. وقد يركز بعضهم على الجانب السردي في كتابته بينما تتحيز القلة للجانب الشعري فيه. لدينا رهان مبدئي على كون الأبعاد الشعرية في الرحلة لا تقل عن السردي فيها. اعتمدها الشاعر الجاهلي مثيرًا شعريًّا، وجزءًا أصيلًا من بناء القصيدة لديه، وصارت «غرضًا» مستقلًّا -كما في عينية يحيى الغزال- في بعض الأحيان. وفضلًا عن ذلك فهي سردية بالقوة تتحدث عن المكان وتنشغل بالزمان، وقد يحتل الإنسان فيها -إذا ازداد وعي الكاتب- صدارة الاهتمام، ويدعم كل ذلك -وغيره- قواها السردية، كما يرشحها انفتاحُها لقابلية التقاطع مع أنواع أخرى صغرى وكبرى، وتعد مدخلًا مناسبًا للجمع بين التوثيقي والتخييلي في إطار واحد، تمامًا كما أنها -كما كانت في ألف ليلة وليلة- تُعَدّ مؤسسًا لمظانّ إدهاش النص وغرائبيته.
بين الشعر والقص
الرحلة شعرية بالقوة، أما تحول ذلك فعليًّا فعمل يقدر عليه من جمع بين الشعر والقص. وهكذا كان رهان ياسين عدنان في إصداره الأخير «مدائن معلقة: تدوينات العابر»، الصادر مؤخرًا ضمن «سلسلة الإبداع العربي» عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، مؤكدًا خبراته السرديةَ المسبقة مع مطلع التدوينات، فيشير إلى توقيع مختاراته القصصية «فرح البنات بالمطر الخفيف»، راصدًا مفارقة توقيعها في اليوم العالمي للشعر، فيمهد لاحتشاد قدراته السردية، ويربط بين الشعر والقصة؛ ربما لأنّ في الأول اتكاءً على المجاز، وفي الثاني استثمارًا للتكثيف والاستثناء.
ولأن الرحلات كثيرة، وما تثيره كل رحلة من شجون كان أكبر، ولأنه كان مشغولًا بما يشبه القراءة الثقافية لكل بلد أو مطار يزوره، فإنه -ربما بسبب ذلك- لا ينسى قدراته السردية، ويمارس لعبة الضمائر والإحالة بسهولة كما في قوله: «بعد قليل، ستعود بيلين من السوق وسأسألها عن معنى ذلك». كما يوظف بمهارةٍ استرجاعَ ذكرى زيارته الأولى للجزائر، وركوب الطائرة لأول مرة، في فلاش باك يحمل ذكريات مبهجة. كما أنه أحيانًا يستَبِقُ بعضَ الحوادث التي تكمن في كل رحلة، حد توقعها بما يشبه الحادث الطبيعي.
يكتب الإعلامي والشاعر ياسين عدنان هذه المرة نثرًا، بعد أن كتب تدويناته الأولى شعرًا خرج في القصيدة الديوان. لا يؤوده تدوين الرحلة نثرًا، ربما لأن الرحلة معرفة، والسفر معاناة وجهاد، وفي سبيل تلك المعرفة تفتقد اليوميات «مركزية» التصور المطروح، وتناوش اتحاد السفر بمدلولاته. وقد يكون بلد ما سبيلًا لفهم آخر، وموقف عابر طريقًا لتأويل حياة بأكملها، فيكون معنى الترحال/ العبور ليس مجازيًّا بالكلية، وإنما يتشكل وفقًا لمجموع دواله التي قد يغلب عليها توظيف الرحلة لإغناء التأمل، فكانت سبيلًا لإتاحة كثير من فضائل الرصد والمقارنة، فضلًا عن اعتمادها على التلاقح والبحث في الجديد، مع اعتنائها بقدر من دقة الملاحظة، وبراعة التحليل، وهي أمور تلتقي فيها فضائل الشعر اللمح الذي تكفي إشارته مع أدب الرحلات.
هذا الهم بالمعرفة يوازيه عزوف الراوي/ المؤلف عن التعامل -خلال الرحلة- بسلوك السائح الممثل للمجتمع الاستهلاكي؛ فابتعدت صدارة تدوينات الرحلة من الأماكن المبهرة، وسجل ما أزعجه من محاولات الاستغلال، واعتمد -مثلًا- استعارة «السردِين» -وهو السمك الأقل ثمنًا، والأكثر إمتاعًا لديه- دليلًا على قراءة بعض الأماكن، والركون إليها. إن مبدعنا لا يقدم نفسه بوصفه رحالة يمارس الاستعلاء على مشاهداته، ولكنه صحافي وشاعر يقدم التساؤل على سواه، يستمع أكثر مما يتحدث، ويراجع أفكاره أكثر مما يمجدها. وعليه، تنزع اليوميات صوب الاستخفاف بالغرائبي والعجائبي من مشاهدات. ثمة تصميم على مناهضة صورة السندباد المغامر الخارج عن المألوف. هل يقترب الأمر في ذلك مع توجهه الأثير نحو قصيدة النثر التي بدأت في رحاب اليومي والعادي والمهمل؟
تجربة مختلفة لأدب الرحلة
إنه لا يخاصم الغريب فحسب، ولكنه -أحيانًا- يُقلّبُ الواقعَ، ويُسائله ويحاول التفاهم معه ومراجعته إلى حد استجواب التاريخ ومساءلته، فيترك الآثار تُملي تاريخها الخاص، عوض المطالعات المحفوظة والتعليقات المرتبطة بالمبذول والمتواتر، تمامًا كما يؤرخ لحياته هو من خلال حضوره الأدبي ومشاركاته الثقافية، بينما يخفت فعل الإعلام ويتوارى، وكأن تحققه الذاتي يتكون من الأدب، منه يبدأ وإليه ينتهي. ومن ثم تفهم تقديم الأدبي والتاريخي في رحلاته، وإن تراجعت مكانته الظاهرة وتقدم سواه، كما هي الحال في كتابته البديعة عن تواري ابن بطوطة، وتسمية المنطقة بعلم أقل أهمية وشهرة.
ولعله يريد إبعاد صورة رحلات تعتمد إبهار المُتَلَقِّينَ بما وراء الخيال، والانتقال في الزمان والمكان، فدحضت -في سبيل ذلك- إنسانية الرحلة وخصوصيتها، وازدرت حق صاحبها الأصيل في كونه يكتب للتعبير الخاص، وليس للخيال المحض، في سبيل إرضاء الشريك القارئ، وما يتوقعه من أدب الرحلات من خوارق أقلها إخراج الأرنب من غلاف المغامرة المكتوبة، ولكن تدوينات العابر تختلف؛ إذ تُخلّص مفهوم الرحلة من المغامرة والخيال لتخلص للبحث والمراجعة وإعادة النظر.
يوميات العابر المقيم
هي تدوينات عابر يظل مجذوبًا إلى المغرب دومًا. إنها دائمًا في المنتصف بينه وبين الأماكن، وبينه وبين الناس. المغرب مركز الدائرة ومنها البدء والمنتهى، ومن ثم تشغل مدنها نسبة لا بأس بها من مجموع الكتاب. وفي المغرب لا تعنيه ضخامة الأحداث ولا يبدو مهتمًّا بتبرير أسباب رحلاته الداخلية؛ إذ الوطن سبب كافٍ في حد ذاته. وكان من الطبيعي أن يجرفه حنينه إلى مراكش لبعض الحماسة؛ كجزمه بأنها عاصمة الفن السابع في العالم العربي بلا منازع حسب قوله، ولكنه يتصالح مع دهشته حين يرى العراق في المغرب، والمغرب في العراق والجنيد في بغداد. يكتب عن الوطن/ المغرب كأنه عابر وهو المقيم؛ ذلك أن الترحال لديه حالة أكثر من كونها انتقالًا، وبشر أكثر من اعتبارها مكانًا وذكريات، ومن ثم قد تختلف اليوميات المكتوبة عن المدينة ذاتها، إذا تكرر العبور واختلف الزمان أو السياق، حتى كأنها مدينة جديدة. يبدو السياق أكبر من أي شيء، وساعتها تراجع نفسك إذا كنت من المؤمنين بحتمية الجدلية بين الزمان والمكان.
ولأن الرحلة نوع من البحث عن الفهم المتبادل، كما تعكس رغبة في إنشاء عالم واحد، فإن المقارنة مع الغرب تفرض نفسها. وقد تورط كثيرون ممن سبق إلى كتابة أدب الرحلات في الإغارة على الغرب دومًا، أو تمجيده مطلقًا. وعند ياسين فعلاقة الشرق والغرب ليس صراع حضارات متباينة، وإنما تكامل شعراء مختلفي المشارب والتوجهات في الظاهر، تتنافر طرقهم في البداية لكن -حتمًا- تتقاطع، فيسيران نحو نقطة مفترضة واحدة، يبدو الأمر في تكامل لوركا مع ابن زمرك وجدانيًّا. وكما يلمز العولمة وطاغوتها الجبار من طرف واضح، وبعض مفردات النظام العالمي الذي لم يعد جديدًا حسب تعبيره؛ فإنه يحمل بعنف أشد على تبعية غير مبررة، ولكنها حاضرة بشدة.
0 تعليق