كرس الناقد الدكتور حاتم الصكر، الذي اختار الحداثة منهجًا في شعره ونقده، جانبًا كبيرًا من جهوده النقدية في التنظير والإجراء لقصيدة النثر، التي يعدها الشكل المناسب للعصر؛ لتخلصها من القيود وقدرتها الكبيرة في استيعاب الموضوعات المختلفة والتعبير عنها بطريقة مؤثرة. وقد أثمرت هذه الجهود ثلاثة كتب: كتاب «حلم الفراشة» الذي تناول فيه الإيقاع والخصائص النصية في قصيدة النثر، ثم كتاب «قصيدة النثر في اليمن» وتناول فيه المفهوم والخصائص والجوهر، ومختارات لشعراء من اليمن، ثم كتاب «الثمرة المحرمة» وتناول فيه القضايا الفنية والجمالية والبنائية لقصيدة النثر التي ترتبط بقراءتها وتلقيها، فضلًا عن دراسة أكثر من أربعين شاعرًا مثل سركون بولص، وأمجد ناصر، وعباس بيضون، وسيف الرحبي، وطالب عبدالعزيز، وعبده وازن، وخزعل الماجدي، وشوقي شفيق، وعبدالرزاق الربيعي، وعبد الزهرة زكي وغيرهم.
وفي هذا السياق يأتي الكتاب الجديد للصكر، «إيكاروس محدقًا في شمس القصيدة: الميتا شعري في نماذج من قصيدة النثر العراقية» (الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق) ويقع في 245 صفحة.
حديث القصيدة عن نفسها
في هذا الكتاب -الذي تابعته منذ أن كان فكرة ثم مشروعًا كبيرًا- يقدم الصكر موضوعًا جديدًا وهو «الميتا شعري في قصيدة النثر العراقية» نزولًا عند رغبة اتحاد الأدباء والقائمين على مهرجان المربد في دورته الـ(35) قبل ثلاثة أشهر، على أن يتبعه فيما بعد قسم ثانٍ عن قصيدة النثر العربية، ويكشف الكتاب عن تقصي وعي القصيدة بذاتها، عندما يقترب الشاعر من كنه القصيدة ويلج عالمها بدءًا من ولادتها فكرة في ذهنه مرورًا ببنائها وانتهاء بما تهدف إليه. وهذا تطلب استقراء وتتبع قصيدة النثر العراقية التي تتناول في موضوعاتها موضوع قصيدة النثر كفكرة أو بناء أو هاجس. القصائد التي وقفت عندها بلغت أكثر من خمسين قصيدة لثلاثة وأربعين شاعرًا وشاعرة من بينهم سركون بولص، وصلاح فايق، وفاضل العزازي، وعبدالقادر الجنابي، وخزعل الماجدي، وعدنان الصائغ، وجواد الحطاب، وعبدالرزاق الربيعي، وإيهاب شغيدل، وفليحة حسن، ودنيا ميخائيل وغيرهم.

حاتم الصكَر
يرى الصكر «أن استخدام القصيدة للحديث عن نفسها يحفز الشاعر على معاينة المشكلات والقناعات في أثناء الكتابة ذاتها، وهذا هو جوهر الميتا في القصيدة، أي البناء على بنيتها والتوغل في كنهها، وصلة الشاعر بها في حال الخلق والتكون، فيغدو الاقتراب منها أكثر صدقًا وحميمية؛ لأنه يتم في أثناء معاناة كتابتها» (الكتاب: ص13). ويختلف هذا الموضوع عن الدراسات السابقة التي كانت تقف عند مفهوم الشعر في القصيدة، لكن الصكر تناول موضوع القصيدة في القصيدة (ميتا قصيدة)؛ لذلك فهو يفرق بين «الشعر» الذي تعرضت له القصائد التقليدية والمعاصرة بما يشتمل عليه مفهومه من ضوابط واشتراطات كالوزن والقافية، وبين «القصيدة» التي تتبنى النص بلوازمه المتحررة من القيود المسبقة، وتخوض في راهنها وما تشتمل عليه من اقتراحات ورؤى تتماهى في الحداثة الشعرية، وتتوزع في موضوعات لم تتطرق إليها الشعرية العربية التقليدية، وبأشكال متنوعة لا تخضع للقوالب الجامدة.
وكعادته في اختيار العنوان والمنهج في طرح موضوعاته وأفكاره وأسلوبه في التحليل الذي يتصف بالأدبي، يستعير الصكر أسطورة إيكاروس الذي لم يسمع نصيحة ديدالوس وتحذيره من الاقتراب من الشمس، عندما حلق بجناحين من ريش وشمع فقادته رغبته بالحرية المطلقة والمعرفة نحو الشمس ليذوب الشمع ويسقط في البحر ويموت. ويتخذ الصكر من الرحلة الإيكاروسية صورة لمواجهة الشاعر جوهر القصيدة المكتفية بذاتها وكنهها وكيانها المشع التي ينتج عنها ابتعاد ذات الشاعر من القصيدة، وكأن الشاعر قد هوى وسقط لشدة اقترابه من القصيدة التي تقابل الشمس في الأسطورة؛ لتحضر ذات القصيدة التي تنوب عنه بقوة وفاعلية، وتقدم رؤيته بطريقتها الخاصة. الصكر يصور تناول الشاعر لموضوع القصيدة بأسطورة إيكاروس بوصفها مغامرة تتمثل في كتابة القصيدة لنفسها، وتثير حوارًا داخليًّا يطرح أسئلة في تشكلها وبنائها رغبة في التواصل مع متلقيها، والهدف من وراء ذلك المعرفة بكنه القصيدة وعالمها.
قصدية القصيدة
ويفرق الصكر بين توظيف الشعر بمفهومه العام في القصيدة وبين توظيف القصيدة في قصيدة النثر، فالأول يمثل هوية جنس أدبي يعرف بخصائصه بشكل عام والثاني نص له خصائصه، وهو يمتلك حرية كبيرة جعلته يتمرد على الشعر في مفهومه التقليدي؛ فقصيدة النثر اختارت تحديثًا جذريًّا لا يقتصر على الشكل، أو اللغة، بل تختار ما يناسب تقنياتها وقصديتها، وهي مشروع يقوم على التجريب؛ لذلك فهي منفتحة على مقترحات متعددة وتختلف من نص إلى آخر. وبحسب ما يطرحه الصكر في موضوع الميتا قصيدة النثر، فإنه يبوب تحليله لهذه الظاهرة في أربعة محاور: تناول في الأول تعريف القصيدة وماهيتها متوقفًا عند قصائد لشعراء عدة توزعت معالجتهم بين الإشارة والتأمل العميق في عالم القصيدة، كما هي الحال في قصيدة الشاعر صلاح فائق التي اختار مقطعًا منها في مستهل الكتاب يقول فيه:
«أريد الوصول إلى قصيدة داخل القصيدة/ التي أكتبها الآن/ سأنتظر مثل صياد قديم…/ لأستدرجها إلى أرضي/ أكتشف الطريق إليها».
فالشاعر يستحضر القصيدة شكلًا ومضمونًا ويتأملها مما يعكس وعيه بما يكتبه، ثم ينتظر ولادتها ليراها في محيطه. ولما كانت الأسئلة تدور في الذهن: لمن يكتب الشاعر، أو قصديته في قصيدته أو علاقة القصيدة به، فإن الصكر في المحور الثاني، مقام التلقي، يحلل قصائد لشعراء عدة منهم سركون بولص الذي يعده من أكثر الشعراء العراقيين تعويلًا على استيعاب قصيدة النثر لحركية اللحظة الشعرية وحرية الاسترسال الصوري والسردي. أما في المحور الثالث فيقف عند فضاء الكتابة ويوضح كيف تتسع القصيدة الميتاشعرية لموقف الكتابة والإجابة عن أسئلتها المقلقة: ما نكتب؟ ولمن نكتب؟ وكيف نكتب؟ إنها أسئلة تعترض الوعي بالكتابة، وتدفع الشاعر للتأمل، ثم التساؤل عن جدوى الكتابة وكيفية فهمها؟ لتأتي إجابات متعددة تعكس رؤى وقناعات متعددة، لتبقى الكتابة لغزًا لمقاربتها ما هو وجودي ومصيري في موقف الإنسان من العالم. أما في المحور الرابع فيستعرض الصكر التعاليم والوصايا؛ إذ يرى أن الشاعر يتخذ من الموقف الإيكاروسي أسلوبًا ليقدم شروطًا لكتابة القصيدة دون تواضع، فحضور القصيدة أقرب إلى المقدس ليتخذ الشاعر صوت المعلم والناصح للآخرين.
وأخيرًا، فإن ما يقدمه الصكر في هذا الكتاب لم يكن مختارات شعرية، برهن من خلالها على التصور النظري للميتاشعري في قصيدة النثر، بل دراسة إجرائية لموضوع جديد تطلب الاستقراء والتحليل، وأن هذه الدراسة ستفتح الباب لمزيد من الدراسات في الموضوع، وتقدم مقترحات لتشخيص ما في الشعرية العربية ذاتها من تجدد وزوايا نظر حديثة.
0 تعليق