أظن أن أي قارئ للمجموعة القصصية «أعراف البهجة» للكاتب عاطف سليمان سيفاجأ، أول ما يفاجأ، باللغة التي منحها الكاتب للنصوص؛ لغة قوية تفرض بلاغتها على النصوص وتكشف طموحها تدريجيًّا. وبالتالي فلا أظن أنها نصوص قابلة للقراءة السريعة، فهذه نصوص لا تقرأ على عجل ولا يمكن قراءتها إلا بتمهل وروية؛ لأنها منسوجة من نسيج بلاغة لغوية لا تقصد التجميل والزخرفة بل تنسج إطارًا لغويًّا يناسب موضوعها الذي يمتح من الأمثولة وروح الأساطير. من مزج الواقع بالخيال، والكائنات الحية بالبشر، ومن مزج الأعراق البشرية بعضها ببعض.
قصص بطابع عولمي
في مجموعة أعراف البهجة الصادرة عن منشورات تكوين في الكويت، ثمة لغة سردية «مفكرة»، إذا جاز التعبير، تؤدي دورًا موازيًا في مضمون السرد؛ بسبب الحمولات الدلالية والرمزية، وبسبب مضمون القصص أيضًا.
تتكون المجموعة من ست قصص فقط، وبينها قصتان هما: «قوس قزح منتصف الليل» و«الحيز الذي يُشغل»، يمنحان الإحساس بأن ثمة تواليًا بينهما؛ أي أنهما يمثلان متوالية قصصية من نصين. ومع ذلك فإن النصوص كاملة تمنح الإحساس بأنها تتوالى بشكل أو بآخر حول أسئلة تطرحها عن الصيرورة والوجود والكينونة، وعن الرباط الروحي والوجداني الذي يربط عالم الكائنات البشرية بعضه ببعض، مهما بدا متنوع الثقافات والمسالك أو حتى مهما بدا متنافرًا.

عاطف سليمان
يقدم الكاتب عاطف سليمان في المجموعة مغامرة فنية تتمثل في استخدام لغة بليغة معجمية؛ ليتناول أجواء تبدو في ظاهرها من الزمن المعاصر، لكنها في جوهرها تحمل روح الأساطير. وقد أمكن له بهذه اللغة أن يختزل في كلمات قليلة معاني ومشاهد ولوحات مطولة قد تستفيض فيها النصوص الأسطورية. كما أنه يقدم عوالم متباينة لكن من دون أن يفصح عن مكانها بشكل واضح في غالبية النصوص، لكن أسماء مثل كيم في القصة الأولى «صيحة يعول عليها»، أو «ديميترا» في «مأدبة عشاء معادة»، أو «جانجيرا» في قصة «سوسن» تكشف لونًا من طابع عولمي أسبغه الكاتب على نصوصه التي تهتم بالإنسان في بقاع جغرافية متنافرة، وبالتخاطر الروحي بين البشر، وبلغات اتصال إنساني غير تقليدية تنتمي لعالم الماورائيات والأطياف أكثر من انتمائها للواقع كما تدركه الحواس البشرية العادية. وبحيث يتلاشى الخط الفاصل بين الواقع والخيال، فيبدو الخيال واقعًا والعكس.
تتأمل القصص، على تباين ثيماتها وعوالمها، جوانب من الذوات الإنسانية، في مراوغتها لنفسها فيما تتصور أنها تراوغ الآخر. وتكشف ألوانًا من تناقضات المعاني والمشاعر بين ما قد يتجلى منها وحقيقة ما يختلج في النفس. الجندي الذي يغتصب فتاة من دون إرادتها، قد يرديه الحب ضعيفًا حتى يذوي بشكل ما، بينما الصبية الضعيفة التي تُؤخذ على غير إرادتها، قد تغدو كائنًا يملك القوة للسيطرة على حيوان ضخم مثل الفيل في بلدة بعيدة نائية حيث تعمل في السيرك؛ لأن الفيل وقع في غرامها.
والزوجة التي يثكلها فقدانها لزوج وأب وابن، غرقًا في يوم عاصف، تتعلق بعد غيابهم بالابن، وتتوسل للأنبياء أن يعيدوه إليها ولو في صور أخرى فتقع في غرام صياد كان قد مر على ذهنه خاطر في صباح يوم العاصفة أن تلك المرأة ستعود من رحلة الصيد وحيدة، من دون أن يربطه بها أو بمن يصحبونها معرفة وثيقة. وبعد عدد من المفارقات والمخاطر والنبوءات. تقع في غرام راهب سيكون وصيًّا على ابن تلدُه من دون أن تفهم كيف حملت به بتلك السرعة.
عوالم موازية تُرى بأعين البصيرة
الموتى يمتلكون طاقة الحياة، والأحياء قد تبدو حياتهم مجرد وقائع موت غير معلن، والأمهات يتعلقن بأبنائهن، أو الجدود بحفيداتهم في الغياب بالأحلام، وفي القرب بالتخاطر.
وقد يكون لقوة المشاعر دور في استدعاء أرواح بعيدة ما كان لها أن تلتقي مرة أخرى لولا صدف قدرية لن تخلو من بعض التدبير والقصدية من أطراف بعيدة. كأن ترى امرأة أنيقة في الإسكندرية رجلًا مهلهل الثياب ممن نسيهم الزمن وافترشوا الأرض مثوى لهم بلا مصدر للرزق أو الطعام، فتقرر أن تمنحه الثياب والنظافة والطعام والعمل، فتتسبب في حضور مباغت لمغرمة بذلك الشخص كادت أن تنتحر حزنًا عليه في الماضي، فيعاد إحياء قصة حب كادت أن تكون مستحيلة لتغدو واقعًا، غائمًا، حلميًّا، في الزمن الراهن. على مأدبة عشاء يحضر إليها طيف والدي الفتاة حيث تتجلى رغبة السيدة السكندرية في النهاية كأن أشواقها للرجل الكبير هي مصدر القوة لاستحضار كل تلك العوالم.
تتوالى عبر النصوص مشاهد مما يدرك بالحواس القاصرة مثل البصر، ولا تراها الأعين المبصرة. كأن الروح في تجلياتها لها قدرات على رؤية المخاتل البعيد. كما لو أن النصوص تطرح عوالم موازية تعيشها الأرواح، تراها بأعين البصيرة، وتدركها بطاقة الشوق إلى أرواح نائية بعيدة بالمنطق الواقعي المحسوس، لكنها قريبة وأقرب من حبل الوريد بمنطق المشاعر الباطنية العميقة.
وقد تمكن الكاتب من الحفاظ على مستوى اللغة البليغة، في كامل النصوص، وعلى الدقة في اختيار المرادفات والكلمات مصداقًا لما كان قد مهد به الكتاب مقتطفًا من أبي العلاء، صاعد بن الحسن الأندلسي قوله: «وإن الكلمة لترقأ دمًا».
على سبيل المثال أقتطف مدخل قصة «سوسن»: «يهفُّ نسيمٌ في عتمة الصبح، ينكت حصاة هنا ويطيّر ريشة هناك. يهز غصنًا، ويشلح ذيل ثوب. يُؤنس رجلًا بامرأة ويؤنسها به، يؤنسهما ويستوصي. (…) وعلى سُنن عتمة الصبح يتبدى دياب ويكون هو، وتتبدى جانجيرا وتكون هي، والهوى طليقٌ يتغشّاه ويتغشّاها، في صباحات معمورة بالأنسام».
استخدام هذا المستوى اللغوي تمكن من منح السرد شكلًا يتماثل مع مضمون القصص، فالاختزال على قدرته الكبيرة على التكثيف، يمنح الكلمات المقتصدة، والجمل الوصفية الدقيقة طاقةً على أن تقول الكثير، وتصف الخارجي والباطني استنادًا على الحمولات الدلالية للكلمات المنتقاة بعناية. تمامًا كما هي معظم القصص التي تقدم التناقضات البشرية في بيئات متباينة، وتناقضات الواقع والخيال، فتختزل الكثير من معاني الوجود.
عاطف سليمان كاتب وطبيب مصري وُلد عام 1959م، وصدرت له مجموعتان قصصيتان «صحراء على حدة»، «على هيأة اللوتس»، ورواية «استعراض البابلية»، إضافة إلى كتب عدة تضم مقالات.
0 تعليق