– 1 –
اكتشفتُها كما اكتشف كريستوفر كولمبوس أميركا. هكذا يحلو لي أن أتحدث عنها، وإن شئتم أن أصِفَها، بعد أن انتهيت من أمرها، انتهت مني، ولي أن أزيدَ للتحلية في مطلع الكلام عن هذه الوجيدة، بأننا لا نلقَى دائمًا ما نحب أن نراه أو نصادفه؛ إذ المرئياتُ هي ما يَعرِض لنا أو يعترضُنا لتتواشج بيننا علاقةٌ كانت كامنةً من قبل، وتأتي الصدفةُ لنُبرم الاتفاق. مجردُ رأيٍ أو انطباعٍ، هو، لكن في حالتي لا أجد تفسيرًا لما رأيت، وما سأحكي إلا هذا، لا غيره.
– 2 –
مع ذلك ليس هذا هو المهم، ذلك أن الزمنَ هو السبب، وفي حالتي فقد كان الخريفُ هو السبب المباشر الذي جعلني أربط العلاقة بالمكان وصاحبه، وتتبلور هذه القصةُ الملتبسة التي يمكن لقارئها أن يتدخل فيها، من مبتداها إلى منتهاها، شريطةَ ألا يُضيعَ لعبتَها، وأن يستخلص المعنى الذي من أجله أُنشئت. كما له أن يجرّب ما يستطيع من مهارةٍ تُسمّى الحذقَ الفنيّ، وهو أكثر من الملَكة، ليُجيد حَبْكها، ويُحسنَ لبوسَها، وعلى الفنّ بعد الله قصدُ السبيل.
– 3 –
لم أكن أتوقع أي مفاجأة عندما واجهني الاسم عددتُه عنوانًا مثيرًا، أنا الذي أزعُم صانعَ حكاياتٍ وعناوين. ففي صبيحة السبت الذي تواجهنا فيه أكون رائقًا تمامًا، وكلُّ ما يحدثُ لي مُدبّرٌ وخاضعٌ لنظام، ولا تنجُمُ عنه أي مفاجأة تُذكر. بعد ممارسة الرياضة، والفطور، أتوجه إلى فندق هيلتون في نهاية شارع سوفرين بالدائرة السابعة، يعتبره بعض الناس، منهم أنا، من الأماكن اللائقة في باريس لتشرب قهوة مزّةً وتلتقي أصدقاءَ ودودين، في جو هادئ.
– 4 –
لا يحتاج الوصول إلى الفندق الفخم سوى دقائق. أمشي إليه من بيتي بخطوٍ متّزن. ألِجه من الباب الخلفي، متلهِّفًا للقاء واحتساء أول فنجان قهوة صباحي. أسترخي على إحدى أرائكه الوثيرة. ينساب الوقت بدَعَةٍ في أطرافنا ونحن حديثٌ يصعد وينزل. تحضر معه الدنيا كلّها. تكبر وتصغُر. ودائمًا، بما لا يُفسد للودّ قضية. الحاصل، ليس ثمّة ما يعكّر المزاج، وقلّ أن يحضُر ضيفٌ ثقيل، أما المفاجآت فنحن قوم كهولٌ نحبّذ تجنُّبها، اللهم إن جاء منها السعيد.
– 5 –
منها المفاجأة التي حدثت لي صباح سبتي هذا في منتصف فصل الخريف. في هذا الوقت يصبح شارع Suffren مُعشوشِبًا بالأوراق المتساقطة. أجملُ منه ألوانُها تتلألأ فوق الأغصان مصابيحَ في نهار وضاء، بلا سُحب بعد، تتأرجح بين الأصفر والحِنائي والعكْري، ما أبهجها! تسُرُّ الناظرين. جئت أخطبُها لأدنو منها أكثر، تتجلّى فاتنةً من الرصيف الأيمن للشارع، فأمشي تحتها، وعنقي إلى بهاء الأغصان مشرئبّ، لا يعنيني إلا الخريف، ولا أكاد أرى سواها.
– 6 –
عدا اللحظة التي انخطف فيها بصري على عَجل، لكن ليرتدّ سريعًا إلى مثوى انخطافه. كأنه إليه جاء، وعنه ما ينبغي أن يُوَلِّي. هكذا شُذَّ إليه، بقيَ مأخوذًا، ما بالك أجَمَالًا صاعقًا به فتنتَ أم أمرًا عجبًا رأيتَ، أم شُبّه لك؟! لا هذا ولا ذاك، فما هي إلا كلماتٌ، لن تعرف إلا فيما بعد أنهما خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان. قرأتَهما لمْحَ البصر وكدتَ تتابع الخطى غيرَ آبه، فما أكثر العناوين والأشكال في باريس المغناج، جُعِلتْ فتنةً للناظرين؛ كدتَ تتركها وتمضي، لولا…
– 7 –
أخذك العنوان فتسمرتْ قدماك عند المحل. أعلاه لافتةٌ خشبيةٌ سواء خُط عليها بحرف عريض أبيض عبارة: «Teinturerie littéraire»، (المصبنة الأدبية) وتحتها عنوان فرعي كُتب بالأزرق: «Au sens propre» (بالمعنى العينيّ). التصقتَ بواجهة المحل الزجاجية وعيناك تجوسان عمقَه وجوانبَه المختلفة، قصدُك أن تتأكد أنها حقيقةٌ لا مزحة، وبخاصة أن العبارة الفرعية تنفي وجود معنى مجازي، وتريد أن ينصرف الذهن مباشرة إلى التصبين، تصبين الثياب، طبعًا، بتأويل أنك بسوء نية تجعله مقترنًا بصفة الأدب، وهذه من فِعالك.
– 8 –
أمرٌ ورأي محيِّران بلا شك، فما الخبر؟ جاءك جزءٌ من الجواب وأنت تتبين على اليمين وراء الواجهة رفوفًا تصل إلى السقف ممتلئةً بالكتب، وهنا عدتَ تتحيّر بين الشك واليقين، ما هذا، مصبنة أم مكتبة؟ أم هما معًا؟ لم تعرف موقعًا كهذا في السابق، جُبتَ باريسَ طولًا وعرضًا من غير أن تطأ قدماك مكانًا مماثلًا. ثم ها أنت تستنكر نفسك: لا أحد بمقدوره أن يدّعيَ الإحاطةَ بما في هذه المدينة المذهلة؛ وما العجب أن يوجد هذا في مدينة هي العجب؟!
– 9 –
وبينا أنت كذلك خرج من المحل رجلٌ أنيقُ اللباس، رصينُ الملامح، سبقتْ سلامَه ابتسامةٌ حييّةٌ وعبارةُ تحيةٍ مهذّبة. نفذ رأسًا إلى تعجّبك، إما لأنه اعتاد عليه؛ لكون حيرتك تظهر مفضوحةً على وجهك إلى حدٍّ اضطرته للخروج إليك. ها هو أمامك يشرح: «أهلا سيدي، طبعا ثمّة ما يبلبل، هي فكرة، ما رأيك أليست طريفة؟ بلى جديدةٌ وأصيلة، قلتَ معلقًا: أوه، تقاعدتُ منذ عام، قلت: إنني سأسأم بلا عمل يومي، ففكرتُ في هذا المشروع، ما رأيك؟»
– 10 –
لعله انتبه إلى أن جوابه لم يُشفِ غليلي، فاستأنف وكان صمَتَ: «في الأصل، أنا من عائلة بورجوازية، تربّينا على القراءة، وفي كل بيت لنا خزانةٌ عامرة، وهكذا ترى أنني لا أستطيع فراق الكتب، بالله عليك قل لي: هل يستطيع الإنسان العيشَ بدون الكتاب؟ أشك، اللهم أن ينحدر إلى مرتبة الحيوان، أشك!»، والحقيقة أنني وقفت مشدوهًا أمامه وهو يتلفظ العبارة الأخيرة، أفكر بفزع، أجزع أن تصبح ثلاثةَ أرباع الأمة التي أنتسب إليها بهذا المقياس.
– 11 –
بعد تعليقه هذا شُددت إلى رفوفه المزدحمة بالكتب، أظن أنه انتعش لوضعي وهو يحوم بنظراته متأملًا باغتباط لون الخريف يضيء من شجرة تلاعبُها ريحٌ خفيفة فتميسُ أغصانُها على متجره. قلتُ ممازحًا: هل ترى أن هذه الشجرة تتطلع مثلي بفضول إلى الداخل، نحو الرفوف، لتعرف ما هناك؟ أحسَب أن حديثي أعجبَه فأخذني من يدي مُرحِّبًا، تفضل: «انظر، المسألة جدٌّ تمامًا لا استهواء؛ هل تعلم أن لي زبائن استعاروا منذ شهرين 240 كتابًا، ومنهم من يحضر كتبًا لمكتبتنا بأريحية منقطعة النظير؟!».
– 12 –
«ثم هناك شيء آخر أهمّ، إنه التواصل، العِشرة، اذهب إلى أيّ مَصبنة وستجد الزبون يرمي بغسيله متأفّفًا وينصرف كأنه يتخلص من وباء، أمّا عندي فالزبائن يلتقون، يتحدثون، ومن ثم يتزاورون، ومن يدري قد يتحابّون، وهذا كله جميل، إنساني، ما رأيك سيدي، إنني لا أزيّن لك بضاعتي، هي قناعتي وهذا كلّ ما في الأمر، قلت لك: إنني متقاعد، ومعاشي يكفيني، الباقي تسلية، فضلٌ، قطعةٌ أخرى من الحياة، هذه الحياة التي ترى كيف أصبحت تعيسة».
– 13 –
هممتُ بالانصراف بعد سماع عبارته الحكيمة، شعرتُ بأني أطلت الوقوف، وربما شغَلت الرجل عن شأن تجارته، ثم إني تأخرت عن موعدي الصباحي في الهيلتون. مؤكدٌ أن صديقيّ الصحفيين القيدومين عبدالكريم أبو النصر وبلال الحسن، يخوضان في حديث شائقٍ مؤرِّقٍ عن فلسطين ولبنان ووو لن يتركا همًّا لأمتنا التعيسة إلا وطرقاه، ولا أحب أن أصل متأخِّرًا فلا أعرف من أين ألتقط الخيط ليكون لي رأيٌ لو طُلب مني… زد حاجتي إلى قهوة.
– 14 –
لكنه، خلافًا لتخميني، سارع يستبقيني، وكمن يستدرك شيئًا هامًّا فاته، خاطبني، وهو يطيل النظر إلى كتفي الأيمن، كنت أضع تحت إبطي مذ وقفت أمام المحل إدبارةً تكوّمت على كمية أوراق كتبت فيها أمورًا تخصني: «لا شك أن هناك ما يبرر تعلقك بهذه الرفوف، أقصد مكتبتي المتواضعة، أرى أنك، يشير إلى إبطي، تحمل أوراقًا، هذا يدلُّ على أنك من عالم الإنسان الحقيقي، عالم الكتابة، اعذُر فضولي، ألست كاتبًا، ستكون سعادتي حقًّا هذا الصباح؟
– 15 –
كأنه نبهني إلى إدبارتي، فحركت رأسي بعلامة ملتبسة أردفتها قائلًا: «أوه، الأوراق، أوه، لا تعني، جائز، أنت تعلم، هي الحاجة إلى التلهّي، أقصد أحيانًا لا يجد المرء طريقةً غير الكتابة، أو شيئًا من هذا القبيل، أنت تفهمني جيّدًا لأنك من هذا العالم، وفي النهاية هي مجّرد أوراق».
«أوه، لكم تبدو متواضعًا يا سيدي -عقّب على كلامي- من حقك أن تكتب، وما تشاء، ولك أن تعتز بهذا، وبخاصة في هذا الزمن الذي لم يعد البشر يعيشون فيه إلا في الإنترنت والبورصة».
– 16 –
كلّا، ليس تواضعًا، هو احتراز. سأبوح لك: «أنا أولًا أكتب باللغة العربية وهي لغة فضفاضة وغنية يصعُب التحكم فيها؛ ثانيًا، إنني ما زلت متوهِّمًا أن الكتابة مسؤوليةٌ من كّل النواحي؛ لذا ما أنفكُّ أصحِّحُ وأحذف، أُعدّل وأبدّل، وكلما قدّرت أني أنهيت نصًّا وجدتُني أعود إلى نقطة الصفر تقريبًا مثل أيّ مبتدئ؛ لذلك أرى أنك تبالغ إذ تعتبرني كاتبًا لمجرد هذه الأوراق، لو كنتَ تعرف لغتي لاطّلعت على مخاوفي ووجدتها مشروعةً أيها الرجل الكريم».
– 17 –
«أقدّر تمامًا ما تقول، وهذا ما يقوّي حدسي فيك، ثقتي فيما تكتب، على الأقل هذا أفضل من كلام المفوّهين، ألا ترى وتسمع كيف يتحدثون في التلفزيون، وتصريحاتهِم الرّعناءَ للصحف، إنني لا أفهم، البتة، وهو شيء يبعث فعلًا على الذهول. ثم انظر معي حين يُعلن هنا عن صدور خمس مئة رواية أو أزيَد، ثلاثةُ أرباعها هُراء واستعراضٌ واستعراءٌ وهمومُ بَطِرين ومخنثات، قل لي بربك هل هذه هي الكتابة، هل هذه هي الحياة يا سيدي الفاضل؟!».
– 18 –
لم يكن بوُسعي أن أجيب بنعم، أو بلا، فالرجل أطراني، وحرك شجوني، في آنٍ؛ لذا، وأنا أسعى لحُسن تخلّص، سلمت أمري معلنًا أن الأمور هكذا، ونحن في النهاية لا نملك شيئًا أمام آلة استهلاكٍ ودعايةٍ طاحنتين، وهذا كلُّ ما في الأمر يا سيدي. وأنا أخطو نحو الرصيف المقابل أعتبر لقاءَ صدفتنا انتهى أعادني صوتُه بنداءٍ رفيق، لكن حازم: «سيدي، نسيتُ أن أخبرك ربما بالأهم، قد لا تشاطرني الرأي لكنها فكرة، أقصد المصبنة الأدبية، أصل الفكرة».
– 19 –
«صحيح، أنت محقّ، عدا الكتب التي تعير ويتبادلها الزبناء، ثمة لا شك سِرٌّ في العنوان؟ بكل تأكيد، فكرت أن البشر يغسلون ثيابهم، ولا يساومون في الدفع، فلماذا الكُتّابُ مثلًا لا يغسلون كتبهم بعد الطبع، أو مخطوطاتهم، قبل ذلك، سيعود عليهم هذا الغسيل بالنفع العميم، سيُعفيهم من أيّ نقد صحيح، أو جارح، أو لغو زائد. هناك، أيضًا، مبتدئون، ناشئون يتنطعون أحيانًا بأنهم وُلدوا كاملين. كذلك أفراد يتهيّبون من النشر قد تُسعفهم العملية، معذرة، أنا لا أقصدك، هو خاطر مرّ بي، فقط، إنما لا مانع عندي، وعينُه على الأوراق، لا مانع…».
– 20 –
راقتني الفكرة جدًّا بالرغم من تهيُّبي منها، فسلّمته إدبارتي لم أسأل ما هي الطريقةُ المعتمدة لغسيل الكتابة، ولا تكلفتُها، أدبيًّا وماديًّا، قال عُد لتسلُّمها السبتَ القادم ستجدُها على ما يرام. وككلّ سبت قصدت مجلسي في فندق الهيلتون، وفي الطريق تذكرت موعدي فقلت: أعرّج لاستلام مخطوطتي لا شك هي جاهزة، ووجدتني أمام المصبنة لكن كأنما قدماي شُلّتا، فبقيت في الخارج لا أجرؤ تنهبني الوساوس، لا أعرف ما سأسترد من مخطوطتي، وكم سيكلفني.
– 21 –
تقدم إليّ صاحب المصبنة البورجوازي، قال: حسنًا جئت في الموعد. اطمئن، بضاعتك جاهزة، لقد رفقتْ بها الآلة في النهاية، هاهي ذي، وكل شيء بالداخل حيث ستجد المطلوب. والآن انصرف إلى أصدقائك، واعتبر عملي هديةً مني شريطة أن تجلُب لي زبائنَ غدًا، أو تدعوني حين تشتهِر، وانكببتُ رأسًا على الإدبارة فوجدت ديباجة تتقدمها تقول: «عنون كتابك «خريف»، احتفظنا فيه بقصص وتخلصنا من غيرها بعد الغربلة» فرضيت بهذا الغسيل. عساك أنت، أيضًا، أيها القارئ ترضى وتبتهج معي بقصتي، فالحياة كذلك غربال.
0 تعليق