نادرون جدًّا الكتاب الذين يشبهون المبدع الكبير عبدالباري طاهر، فهو من ذلك النوع الذي تتسق أفعالهم ومواقفهم المبدئية مع ما يقولون ويكتبون، يحمل في «قميصه المنتف» على حد تعبير شاعرنا الكبير عبدالله البردوني كل تعقيدات الذات اليمنية وبساطتها، تتناهشه حراب حساده وأصدقائه وأعدائه وهو صامد مثل جبل النبي شعيب، وإن به صفة توارثها من طباع القبائل العربية تلك التي لا تترك مظلومًا حتى تنتصر لمظلوميته، وهو كذلك لمن يتابع مشروعه في الصحافة اليمنية والعربية، فقد أخذ على عاتقه الانتصار لقضايا البسطاء أينما كانوا، مدافعًا عنهم حتى يصلون إلى ما يريدون، إنه لا يترك مشكلة أو قضية إلا وقال رأيه فيها بكل صدق وأمانة، وبكل التزام أخلاقي وفلسفي ووطني، متخذًا من منهجه الجدلي طريقًا ودربًا لمعالجة القضايا المتعلقة بحرية الإنسان وكرامته.
ولد عبدالباري طاهر في سهول تهامة عام 1941م، وبدأ الكتابة في صحيفة الجمهورية عام 1967م، انتُخب لرئاسة نقابة الصحفيين عند تأسيسها في سبعينيات القرن المنصرم، وفي عام 1979م انتُخب نائبًا للأمين العام لاتحاد الصحفيين العرب، ترأس تحرير صحيفة الثورة الرسمية في 1973م، وترأس مجلة الحكمة الصادرة عن اتحاد الكتاب اليمنيين وصحيفة الثوري الناطقة بلسان الحزب الاشتراكي اليمني، كما ترأس الهيئة العامة للكتاب؛ وهذا سيبدو جليًّا في كتابه «الحصاد في الإعلام والسياسة والواقع اليومي» (صدر عام 2025م عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر) جاء الكتاب الضخم، أكثر من 400 صفحة، تعبيرًا عما يؤمن به صاحبه. يحكي بما فيه، أنه صورة لآرائه الصارمة وتصوراته العميقة وشغفه العلمي بالمعرفة والمحبة السخية لمن يكتب من أجلهم ويدافع عنهم. ينقسم كتاب الحصاد إلى ثلاثة فصول: الأول بعنوان صحافة، والثاني بعنوان قضايا وطنية، والثالث بعنوان: قراءات.
جاءت المقدمة في هيئة مقال استهلالي يتحدث عن يوم الصحافة اليمني 9 يونيو، وهو يوم يرتبط بالذهنية الوطنية لدى الصحفيين، وعبدالباري الذي أسس في شمال الوطن مع رفاقه أول مؤتمر لنقابة الصحفيين اليمنيين منتصف السبعينيات، وفي 1990م دُمجت النقابتان الشمالية والجنوبية بعد الوحدة اليمنية ببضعة أسابيع ليرأسها هو أيضًا.
دستور صحفي

عبدالباري طاهر
هذا الكتاب المعجون بعرقه ودمه وتراب الوطن يصح أن نقول فيه، إنه يصلح لأن يكون دستورًا صحفيًّا ومادة علمية مدرسية، يتعلم منها الأجيال في الوطن العربي، كيفية الإخلاص والالتزام. في المقال الاستهلالي بدا شديد اللهجة، مدافعًا عن مواطنيه حتى ليبدو كما لو أنه يقدم نصائح للصحفيين، وفي المقابل يدين القامعين ويوبخهم، يقول: «كل الأطراف المتقاتلة تتنافس وتتسابق على قمع الصحفيين ومصادرة الحريات العامة والديمقراطية، وبالأخص حرية الرأي والتعبير. لدى كل الأطراف بما في ذلك الجنوب «المحرر» وتعز المحاصرة، قمع شائن للحريات الصحفية. ويقينًا فإن الصحفيين الشهود على جرائم الحرب والمحتربين، هم أكثر ضحايا هذه الحرب الإجرامية. ويجدر بنا أن نشير إلى أن الفرضية التي بُني عليها الكتاب تتحدث عن السياسة القمعية وحرية الصحافة في الإعلام والمسكوت عنه، في الوقائع اليومية لحياة الناس وأحلامهم وآمالهم. وأهم ما ركز عليه الكتاب نهج الحرب والاقتتال الداخلي منذ عام 1994م وانعكاسات ذلك على التنمية، يقول: «حروب قبلية ومناطقية هنا وهناك – تغطي مسار اليمن الحديث لأكثر من نصف قرن، هذه الحروب سبب رئيس في تغييب التنمية والبناء والتحديث والاستقرار». وقد دعم ذلك بتساؤلات ضمنية عن كيفية الحد من التنكيل بالصحفيين؟ وأهمية الحرية لإرساء قيم وتقاليد صحفية قوية، إضافة إلى فهم وإدراك أهمية الهامش الديمقراطي، وعدم استغلاله للتضييق على حرياتهم في الحصول على المعلومة.
قدم الكاتب الكثير مما يتعلق بتاريخ الصحافة اليمنية في الخارج، مستندًا إلى صحيفة السلام التي أصدرها في كارديف الشهيد الكبير عبدالله علي الحكيمي، والتي ذكر أنها أول صحيفة عربية تصدر في بريطانيا، «اهتمت الصحيفة منذ الأعداد الأولى بالدعوة للحرية والحوار والدفاع عن ضحايا 1948م وفلسطين والجامعة اليمنية، واستقلال البلاد العربية». ويتنقل كتاب عبدالباري طاهر من التنظير إلى التطبيق، متبنيًا لائحة بالمطالب الصحفية، مشيرًا إلى أنها وضعت لبنات استحقاقها بنضالات رموزها: أنور الركن، وأمجد محمد عبدالرحمن، وأحمد عبدالرحمن وغيرهم.
قضايا
ويناقش الكتاب عددًا من المواضيع والقضايا التي تنوعت: «بين قضايا تخص اليمن، وقضايا تتعلق بالوطن العربي». تناولت قضايا اليمن ما يخص الهموم الكبيرة التي تشغل بال الكثيرين، ومنها الحرب في اليمن وخطابها موضحًا أن تلك الحرب التي انتشرت بسرعة البرق -في سبتمبر 2014م لتجتاح صنعاء وتعز وعدن وحضرموت- بأنها غرائبية لانعدام العمل السياسي فيها واعتمادها على ميليشيات مسلحة تتقاتل مع بعضها في ظل غياب أو ضعف التوجه السياسي. فالحرب اليمنية كما وصفها المؤلف «لعبة مقيتة» وخطابها هو الأكثر زيفًا ومراوغة والتباسًا خاصة أنها جاءت في وقت لم يعد فيه «المجتمع الدولي مهتمًّا بالحرب كما كان، فالعالم مشغول بالقضايا الأكثر سخونة وخطورة على مصالحه وقضاياه الكبرى، لم يعد الاهتمام باليمن إلا في الجوانب الإنسانية». وخلص المؤلف إلى أن اليمن شهدت ثلاثة مسارات: مسار اقتسام الحكم، ومسار تشكيل لجنة الحوار الوطني، ومسار استمرار الحرب بين
جيش وميليشيات.
أما القضايا التي تتعلق بالأمة العربية فقد تطرق عبدالباري طاهر إلى فلسطين وكيف أن الاستعمار الذي توارى كوجود عسكري ظل حاضرا سياسيًّا واقتصاديًّا، وهو ما أدى إلى التفكك العربي الذي أشار له بـ«سردية أندرسون»، وهو عبارة عن تحقيق بعنوان: «كيف تفكك العالم العربي؟».
قراءات لعشرات الكتب
ولمن تابع مسيرة عبدالباري طاهر منذ أكثر من ستين عامًا، سيجد أن هذا الكتاب الذي يعده الحصاد، هو في جانب منه مقدمة لعشرات الكتب التي صدرت خلال سنوات طويلة، ولعله أقام الفصل الأخير من هذا العمل على مخزونه الأخير وحنكته الدؤوبة في تلمس المشهد الثقافي اليمني، ومن الواضح أن قراءاته تنقلت بين تناول الروايات والقصص إلى المذكرات والكتب السياسية والفكرية والمعجمية، وهو على قلة الكتب التي تصله شغوف بالتواصل ومجد في معرفة الجديد، فقد ذكر أن اليمن في تسع السنوات الأخيرة أصدرت كُتبًا كثيرة جدًّا، وهي على كثرتها تمتاز بالجودة والثراء الأدبي والمعرفي الهائل، وكأنها على حد تعبيره رسالة للحرب الكارثية بأن إرادة الحياة أقوى.
0 تعليق