تتعدد الشخصيات، وتمتد المساحات بقدر ما في الحياة من غرابة يواجهها كتّاب كبار، غربيون في الأساس، غالبًا لم نكن نعبأ كثيرًا بالسياقات التي دفعتهم لاتخاذ هذا الموقف أو ذاك، أو مواجهة حياة قاسية بالطريقة التي واجهوها بها.
ورد هذا على لسان عزمي عبدالوهاب في كتابه «كل النهايات حزينة…!» الصادر حديثًا عن الهيئة العامة للكتاب، وفيه يقول: إنه ظل مشغولًا بالنهايات لسنوات طويلة، لكنّ بداية، أو مستهل، كتاب «مذاهب غريبة» للكاتب الكبير كامل زهيري كان لها شأن آخر معه؛ إذ حين قرأ الفقرة الأولى من هذا الكتاب تركه جانبًا، ولم يجرؤ أن يقترب منه مرة أخرى، وكأن تلك الفقرة كانت كفيلة بإشباع رغبته في القراءة آنذاك، أو كأنها تمتلك مفاتيح السحر للدرجة التي جعلته يتمنى أن يكتب كتابًا شبيهًا به.
عزمي عبدالوهاب الذي ظلت تطارده فكرة كتابة كتاب عن النهايات، إلى أن تراكم لديه من أثر القراءة كثير من مواقف النهايات التي تتوافر فيها شروط درامية ما، وكلها تخص كتّابًا غربيين؛ لأن حياة الأغلبية العظمى من كتابنا ومثقفينا تدفع إلى حياة السأم والتكرار والملل، واصفًا إياها بحياة تخلو من المغامرة التي تصل حد الشطط، مرجعًا هذا إلى طبيعة الثقافة العربية التي تميل إلى التحفظ أو أن هذه الثقافة لم تكشف له غرائب النهايات، يرى أنه ربما توجد نماذج كثيرة في الثقافة العربية، لكن تظل الأسماء الغربية الكبيرة قادرة على إثارة الدهشة كما يقال، ونحن دائمًا مشغولون بالحكاية أكثر من المنجز، وكأن هذا من سمات ثقافتنا العربية، فالاسم الكبير تصنعه الحياة الغريبة لا الإنتاج الأدبي.
جيل بلا رابط

عزمي عبدالوهاب
عن فولفجانج بورشرت يقول عزمي عبدالوهاب: إنه قال «نحن جيل بلا وداع» ملخصًا مأساة جيله الذي سِيقَ إلى الحرب دون أن يودعه أحد، جيل فقد الوطن، وخاض الحروب، ثم حُمِلَ إلى القبر دون أن يهتم بموته أحد: نحن جيل بلا رابط ولا عمق، عمقنا الهاوية، نحن جيل بلا حظ، بلا وطن، بلا وداع. وحين يكتب عن نهاية بوب كوفمان، واصفًا إياه برامبو أميركا الأسود، يتساءل كيف لك أن تترجم شاعرًا يمزج بين لغة الشارع الفجة، وتاريخ الهنود الحمر المنسي، وميراث الكاريبي وعذابات الزنوج وعوالم الأساطير؟ وهو الذي كتب قصائده أصلًا دون أية نية لنشرها أو حتى جمعها ولم يشرف بنفسه على أي من دواوينه الثلاثة التي صدرت؟ كيف يتسنى لك أن تترجم شاعرًا سياسيًّا وسيرياليًّا في الوقت نفسه، شاعر السجون والمعتقلات، والحانات والبحار، بما يعني: الحرية والاضطهاد معًا، والذي التزم نذرًا بالصمت لأكثر من عشر سنوات، منذ اغتيال كيندي حتى نهاية الحرب في فيتنام؟
في كتابته عن جورج أورويل يقول عزمي عبدالوهاب: إن أورويل كتب ذات يوم أن كتابة سيرة حياة صادقة وأمينة أمر مستحيل؛ لأن كل حياة ينظر إليها من الداخل ستكون سلسلة من الهزائم المهنية والمخزية إلى حد يصعب تأملها. وحين يتحدث عن دانتي يقول: إن هناك ثلاثة من عظماء العالم يتشابهون في قوة الروح، وسعة الأفق، والثورة على القديم، والتطلع إلى بناء مجتمع إنساني مثالي، وإن اختلفت أداة التعبير لدى كل منهم؛ الأول دانتي أليجيري الذي أراد في كتابه الشهير «الكوميديا الإلهية» أن يقيم عالمًا جديدًا أساسه العدالة والحرية والنظام والوحدة والتطهر والصفاء والحب والأمل، والثاني هو مايكل أنجلو الذي عبّر في تماثيله الشاهقة عن بناء عصر جديد، تسوده القوة والحرية والصدق والذوق الرفيع، والثالث هو بيتهوفن الذي هدف في ألحانه إلى إقامة عالم مثالي قوامه الحق والفن والحرية والسلام.
ألف ميتة
يكتب عن رفائيل ألبيرتي فيقول: إنه أُعدت له ألف ميتة، كانوا يبحثون عنه لطعنه بالخناجر، لشنقه، لقتل الشعر فيه مرة أخرى، لكن الشعر لم يمت، فللشعر أرواح القطة السبع، قد يزعجونه، يسحلونه في الشارع، يبصقون عليه، ويسخرون منه، قد يحاصرونه لإغراقه، قد ينفونه، يحبسونه، وقد يطلقون عليه أربع رصاصات، لكن الشعر يخرج من كل هذه الحوادث العارضة بوجه نظيف وابتسامة من أرز. ويقول عن فيلهلم رايش: إنه تعرض لحملة هجوم وتشويه لم يتعرض لها غيره، وقد وقع عليه ظلم كبير، وشوهت أعماله واتهم بالجنون، وعُدَّ من الخوارج الذين حاربهم ستالين ورفضهم فرويد وحركته، ونالوا قسطهم من ملاحقة النازية وحقد البرجوازية والرأسمالية الذي لا يلين. ويقول عن الشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد: إنها صدمت المجتمع الإيراني بقصائدها وما تضمنته من أفكار جريئة، وقد حاولت أن تكون صريحة في كل ما تقوله وتعبر عنه، فهي تشرح أحاسيس المرأة ومشاعرها تجاه الرجل في وقت كانت المرأة فيه في إيران وفي الشرق عمومًا، لا تجرؤ على بيان ما في صدرها من مشاعر، وقد كانت تنتقد المجتمع الذي عاشت فيه من جمود وتخلف يرجع بالدرجة الأولى إلى العادات والتقاليد البالية التي تسود مجتمعها.
في صفحات «كل النهايات حزينة»، نعرف أن ألدوس هكسلي رحل بعد أن فقدَ النقاد اهتمامهم به، وأن هيمنغواي انتحر مُطلِقًا على نفسه الرصاص بعد أن فقد الثقة في نفسه، وخانته أعصابه، واختلط عليه الوهم بالحقيقة، وأن أوغست ستريندبرغ مات وحيدًا مريضًا بالسرطان، وأن إيتالو كالفينو تُوفي عقب نزيف مفاجئ في الدماغ، وأن إدغار آلان بو مات وحيدًا في المستشفى وهو في أشد حالات اضطرابه النفسي ومرضه العقلي، ولم يعلم أقاربه بموته إلا من خلال الصحف، وأن بول بولز رحل نتيجة لإصابته بسكتة قلبية في المستشفى الإيطالي في طنجة بالمغرب، أما هرمان ميلفل فقد لازمه سوء الحظ في إنجلترا، وتعرض لأزمات اقتصادية طاحنة، ومات بعد أن كتب سبع روايات دون أن يرى لها أي مردود مادي أو أدبي.
كامل وفريد
من خلال عزمي عبدالوهاب نعرف أن غوته كان يعيد قراءة إنتاج موليير كل عام قائلًا: إنه من العظمة بحيث يشعر الإنسان كلما أعاد قراءته بدهشة جديدة، إنه رجل كامل وفريد. وإن القدماء كانوا يعتقدون أن الفلسفة هي فن الحياة، وإنها تعلمنا أن نوجد في الكون أن نتعرف إلى الأسباب الطبيعية وعناصر الوجود، حيث يكون في الإمكان تغيير حياتنا وفقًا للحقيقة، وأن فولتير بلغ في عصره من الشهرة الواسعة والمكانة المرموقة ما لم يبلغه كاتب قبله أو بعده، حتى أصبح علمًا على عصره ورمزًا له، وليس في مقدور إنسان أن يتصور القرن الثامن عشر دون فولتير وتأثيره، وأن جيمس بولدوين قد دشن خطواته الأولى في عالم الكتابة بقوله: أريد أن أكون إنسانًا شريفًا وكاتبًا مجيدًا.
وبعد.. هذا كتاب إن قرأه قارئ عادي عرف من خلال صفحاته تفاصيل الحيوات التي عاشها المبدعون، والنهايات الحزينة، وربما المأساوية، التي لحقت بعدد كبير منهم، على الرغم من كونه قد يراهم وهم في مجد شهرتهم وفي أسعد حال نتيجة لهذه الشهرة، بينما إن قرأه كاتب أو مبدع فقد تنقلب حياته رأسًا على عقب، خشية أن تلحق به واحدة من هذه النهايات الحزينة التي لحقت بكثيرين قبله، وبخاصة أن كل الظروف المحيطة في الآونة الأخيرة قد تؤدي إلى ذلك، وربما تساءل بعد انتهائه من هذا الكتاب: هل يستحق الكاتب، أو المبدع، أن تكون نهايته مأساوية إلى هذه الدرجة المحزنة والمؤلمة؟!
0 تعليق