فقدت الفتاة الصغيرة نور بصرها، وهي طفلة، ومنحها الله موهبةَ عذوبة الصوت ورقة الإحساس وجمال النفس والنَّفَس وحلاوة الحديث ومرحه. ومن هناك، من بين تلك البيوت العابقة بنسائم عطر الورد الطائفي انبعث صوتها الطفولي في بدايات مشواره الغنائي ليمضي إلى آفاق رحبة في مدار الغناء والطرب السعودي والخليجي خاصة والعربي عامة.
خيرية اسمها في الولادة، وبسمة اسمها المحبب في شفتي أمها الطيبة راعية موهبتها الأولى والحانية عليها طيلة حياتها، وابتسام اسم الفن والشهرة الذي منحها إياه الفنان الكبير بفنه وإبداعه طلال مداح، ابن مدينتها الطائف، فكان الخير معها والبسمة على شفاهها والابتسام مشرق في محياها. عام 1951م كان ميلادها في مدينة الطائف مدينة الورود وعاصمة المصايف في بلاد النور والشمس والخزامى، التي أهدت لنا الموسيقار المؤسس طارق عبدالحكيم، ومنحتنا المبدع الكبير طلال مداح، صوت الأرض الشجي. تميزت ابتسام وهي في سن مبكرة بصوتها الجميل في ترتيل وتجويد الآيات القرآنية، وتعلمت في الكتاتيب، وأصيبت في طفولتها بمرض مزمن أدى إلى فقدانها البصر.
الصوت والمظهر
أطفأ المرض ضياء عينيها، لكنها لم تستسلم ولم يمنعها ذلك من أن تُقبل على الحياة بما قدر الله عليها، وبما وهبها من جمال في صوتها فجعلته حافزًا لها في الإقبال على الأيام من منافذ الخير والجمال والتفاؤل؛ فلا أثر للعمى في عقلها ونفسها ووجدانها ولم يعقها عن طموحها حيث أشرق نور بصيرتها، ولأن الصوت الموهوب الجميل هو الأساس الذي ينهض عليه المغنى ويمضي به المغني ومعه إلى عالم الغناء والطرب، وليس لجمال المظهر ووسامة الفنان وأناقته دور أو أثر في تكوين المطرب وصنع أغانيه وقبول المستمعين له. بمعنى أن الغناء يقوم على ثلاثة عناصر أساسية لا رابع لها، هي الصوت الجميل والكلمة المعبرة واللحن الشجي. وهكذا كان وأصبح غناء ابتسام لطفي صوتًا جميلًا وكلمة معبرة ولحنًا شجيًّا.
احتراف ونجاح
أعدت نفسها كي تكون حاملة رسالة الفرح والخير والحب والجمال، وأخلصت في أداء رسالتها وحملتها بصوتها الشجي نحو مدى بعيد في أفق فن الغناء والإبداع والطرب الأصيل. وربما انشغالها بأداء هذه الرسالة صرفها عن عقد الارتباط الاجتماعي في أن تكون زوجة صالحة وأمًّا بارة بأسرتها. تستحضر نبرات صوتها عطر الورد الطائفي وطعم فاكهة الجبل والوادي وترسله نغمًا شجيًّا عذبًا ترتاح له نفس المتلقي وتنتشي به روحه حتى كأنها نواسية الهوى والطرب.
استطاعت الفنانة ابتسام لطفي أن تحرر طاقة السمع لديها من مجال التلقي الحسي المباشر للصوت، بوساطة الأذن فقط، كعادة الأكفاء الموهوبين، ونقلتها إلى مستوى التفاعل الشعوري والوجداني من خلال مدركات التلقي الروحي والاستقبال الواعي للمسموعات من حولها. استقطبت ما ترتاح إليه نفسها ويأنس به وجدانها وما تلتذ بسمعه وشجنه فتعيد إنتاجه أو صياغته نغمًا جميلًا بأدائها العفوي، في بداياتها الأولى. ثم سعت بخطوات واثقة في دروب تثبيت موهبتها الغنائية وما زال ذلك سعيها حتى بدأت تتأثر بأصوات الغناء العربي النسائية خاصة، مثل أم كلثوم وأسمهان وشادية وفايزة أحمد وغيرها. وارتقت بعد ذلك ونمت موهبتها وأصبحت مؤهلة بفنها لتأخذ مكانتها بين الأصوات الجميلة في ساحة الغناء السعودي والخليجي ولتكون أول صوت نسائي سعودي محترف للغناء ومعترف به فنيًّا وجماهيريًّا، فضلًا عن وسائل الترفيه والإعلام الرسمي.

صوتها شجي يخفي بين نبراته حزنًا مؤجَّل البوح، صوت متمكن من أداء الموال بحرفية فنية وأداء متقن واجتهاد في إرسال العرَبِ الصوتية (موال يا حبيبي أما كفاك شوقي واحتراقي). تتجنب الجواب العالي في الغناء حيث لا يعينها مجراها الصوتي الوصول إليه وكي لا ترهق قدرتها الصوتية في هذا المدار. وتحاول الاجتهاد بتطريب أداء العرَب الصوتية (موال بلغوها إذا أتيتم حماها) وتنغيمها برقة فضلًا عن أنها تحرص على مخارج الحروف صحيحة وسليمة الإنتاج في العربية الفصيحة (القصائد المغناة مثل: وداع، لوعة، نالت على يدها، عبير، النجوى الهامسة، أتحبني، هواك…) وقد أدت من فنون الغناء -العاطفي والتراثي والشعبي والوطني- السعودي والخليجي والعربي (أغانٍ: لا لا يالخيزرانة، فارج الهم، يا طير ماذا الصياح، المولع، يا هلي، يا سارية خبريني…)، وهو ما جعل لها تميزًا بين الأصوات الغنائية المعاصرة لها.
وهي عازفة عود ماهرة في الضرب على أوتاره. لم تتخرج في معهد للموسيقا إنما اجتهادها ومثابرتها وموهبتها الأصيلة كانت وراء تحصيلها فنون الموسيقا والغناء وأساليب الطرب الشجي الجميل، كما أنها كانت طيبة الحديث حلوة المعشر خفيفة الروح كريمة الخلق. يقترب صوتها في بعض مناطق الأداء من صوت نجاة الصغيرة، ويبرز ذلك في الموال وهو أمكن في المدى النغمي من نجاة الصغيرة، ويقترب من صوت شادية في الأداء والتلوين الصوتي (أغنية ناس كتير) وتقترب شيرين عبدالوهاب من صوتها ببحتها الخفيفة في الغناء والموال.
مع شاعرية الكلمة وعبقرية اللحن
استطاعت ابتسام لطفي أن تثبت حضورها الواضح في مضمار الغناء والطرب السعودي والخليجي خاصة، والعربي عامة، وساهمت بشكل بارز ومؤثر في تكوين المزاج الوجداني الغنائي في بيئتها الخليجية، وكانت فاعلة في تشكيل الذائقة السمعية عند المتلقين، ليس في عصرها فقط، بل في ذائقة الأجيال اللاحقة التي لا تزال تتذوق أغانيها وتستقبلها برضا وقبول وارتياح.
لقد توافر لابتسام لطفي مجموعة من مبدعي الكلمة الجميلة -المعبرة عن تجارب إنسانية رومانسية وواقعية- من الشعراء وكتاب الأغنية، فضلًا عن كبار الملحنين السعوديين والخليجيين والعرب، وهو ما أثرى مسيرتها الغنائية بأرقى الألحان وأجمل القصائد الفصيحة والنبطية أو الشعبية. ومن أبرز الشعراء الذين غنت قصائدهم: الأمير بدر بن عبدالمحسن والأمير عبدالله الفيصل وطاهر زمخشري وأحمد قنديل وأحمد رامي الذي لقبها بـ(كوكب الجزيرة وشادية العرب) وإبراهيم ناجي وفاروق شوشة وغيرهم من الشعراء. وقد لحن لها كبار الملحنين، منهم: عمر كدرس وسراج عمر وطلال مداح وطارق عبدالحكيم وفوزي محسون. ومن الملحنين العرب: رياض السنباطي ومحمد الموجي وأحمد صدقي.
هذه أسماء لأعلام كبار في مجال الكلمة المعبرة واللحن الجميل، لها دلالاتها ومؤشراتها على القيمة الجمالية والفنية لصوت ابتسام لطفي، ولأدائها المعبر وتمكنها من فنون الغناء وطرائقه وأساليبه الطربية، فضلًا عن إحساسها العميق بالكلمة والجملة والعبارة المغناة، وحرصها على إبراز معانيها ودلالاتها بين نبرات صوتها أو في ثنايا نغماتها المرسلة، فليس من السهولة واليسر أن تجتمع أشعار رامي وألحان السنباطي، وبرغبتهما -وهما مَنْ هما في عالم الشعر والغناء العربي- بين طيات صوت ابتسام لطفي، الفتاة البصيرة القادمة من أرض النور والشمس والخزامى وتصدح بها شدوًا وغناءً وطربًا، وليكون هذا شهادة اعتراف بها مغنية وضمها إلى مدرسة الغناء والطرب الكلثومي بتوقيع علميها رامي والسنباطي.
وبعد أما حان وقت الاحتفاء بشادية العرب ابتسام لطفي وتكريمها بما يليق بها وبمسيرتها الفنية الرائعة؛ فقد احتفت هيئة الترفيه بالمملكة وكرمت فنانين من هنا وهناك. أليس أبناء مكة أدرى بشعابهم أم إن مغنية الحي لا تطرب!
0 تعليق