آثر الشاعر والكاتب المغربي رشيد المومني أن يسافر بنا عبر مصنفه الأخير «شعرية الكتابة باللامتناهي» (منشورات باب الحكمة، تطوان، المغرب) من دون الالتزام بخطية زمنية- إلى بطون النصوص التأسيسية، في الفلسفة والتصوف والرواية والشعر والتشكيل، قصد الاغتراف من مشاربها المتشعبة التي ما برحت تُولي مفهوم اللامتناهي المكانة الرفيعة. يراوح المومني المشي ذهابًا وإيابًا بين غابات سردية وشعرية وفكرية كثيفة تجمع بين أمبادوقليس وفيثاغورس والفيثاغورية وأفلاطون والأفلاطونية، وأرسطو، وابن طفيل، وشهاب الدين السهروردي، والحلّاج، وابن الفارض، وإخوان الصفا، والنفري، وابن رشيق، وغاليليو، وكوبر نيكوس، وهوسرل، وهايدغر، وهولدرلين، وإدوارد مونش، وكالردج، وبودلير، ورامبو، ومالارميه، ولوتريامون… إلخ.
ضمن المسار غير المحدود لتفاعل الشعري والفلسفي، ثمت منعطفٌ واسع يضع كل منهما وجهًا لوجه، منعطف مليء بالمرايا العاكسة لماهيتهما المسكونة بروح الغرابة، تلك التي تتقن فن التنكر لجميع التعريفات الصورية الطابع والتحديدات، وهذا بالذات ما دفع مارتن هايدغر إلى القول: «إن الخاصية الجوهرية للفكر، بوصفها عملًا فنيًّا للشاعر، لا تزال محتجبة». بيد أن هذا الأمر ليس بالمعطى الجديد في الكتابة الشعرية، لا سيما أنها تتأسس على إواليات اليقظة، والشغف بالمجهول، والانفتاح، والخلق، والإبداع…إلخ، وهي الإواليات نفسها التي لا تني تنظم كينونة الإنسان، ووجود الموجود. وتأسيسًا عليه، يمكننا أن نجازف بالقول: لا وجود لخطاب فلسفي أو شعري يقوى على الاستغناء عن إغراءات الدهشة المنبجسة عن التأمل في الإنسان والوجود.
يرى الشاعر والكاتب المغربي رشيد المومني أن مفهوم اللامتناهي مفهوم زئبقي قوامه الانفلات والتملص، ومن ثم تأتي تعددية دلالاته، مما يجعله مفهومًا مرتحلًا بين حقول معرفية شتى: «إن المفهوم الذي يثبت فاعليته الإجرائية في حقل ما، قد يكون مؤهلًا لإثبات الإجرائية ذاتها، في حقول محايثة فاعلية قد تكسبه دينامية إضافية بفعل تطعيمه وتفاعله بمفاهيم الحقول التي يحل ضيفًا عليها. قد يكون الأمر شبيهًا بانتهاك مبرر لحرمة الآخر، وشبيه بميل سرقة نبتة الخلود. كما هو شبيه بسرقة برومثيوس لنار آلهة الأولمب، كي يرقى إلى تطوير وجوده الإنساني».
ويؤدي اختراق المفهوم فضاءات غريبة عن إشكالاته إلى انبجاس ضرب من المتعة مأتاها الإقبال على المحظور والممنوع والمحرم، وهي متعة بإمكاننا أن ندرجها بحسب المومني «ضمن استماتة الذات كي تعدد حضورها الفعلي أو الرمزي، سواء في فضاءاتها الخاصة بها، أو في تلك المحايثة له. فالمفاهيم شبيهة بنيازك دلالية تجوب دلالات الفكر».
اللامتناهي بين الخطاب الفلسفي والخطاب الشعري
ليس بإمكاننا، بحسب المومني، أن ننكر جماع المؤشرات التي تدل على هيمنة ضروب الخطاب الفلسفي على المفهوم، مقارنة بخطابات أخرى؛ على أن الخطاب الفلسفي لا يني يوجه تمفصلاته صوب المفهوم توجيهًا مباشرًا ومن دون توسط: «إنه يلتف عليه بشراسة من أجل إنطاقه»، واستنطاقه وفحصه وإخضاعه لمحكي النقد والشك. ومن المرجح أن السبب في ذلك إنما يعود إلى العقل «الذي ربما أيضًا وفي سياق احتذائه بالعقل الأول، يعتبر أن مسؤوليته الأولى والأخيرة تتمثل في تكميله، في تحيينه، وفي تجليته».
في حين يراهن الإبداع على إدراج المفهوم ضمن دائرة التجربة؛ إذ إن المفهوم لا يتوقف عن إبداء حاجته إلى غير قليل من الشطط الشعري الذي من شأنه أن يفتحه على دلالات مغايرة: «إن الشعر خاصة، قد يتخذ من المفهوم أداة تعبيرية يتمكن خلالها من فتح مسالك لا متوقعة في أرض المفاهيم، وفي أراضي الكتابة ككل، مسكونًا بمتعة تقليبها على مختلف وجوهها، من أجل ملء ما يتخللها من بياضات، أو من أجل تحويل وجهاتها الدلالية؛ كي تفرح بمصائر جديدة لم تكن حاضرة من قبل في ذاكرتها».
اللامتناهي ومآلات الحظر والمنع والتحريم
لا ريب في أن خوض غمار إعمال النظر في سيرورات اللامتناهي إنما تحيل في المقام الأول على جماع «الأصوات الخفيضة التي تندرج ضمن الإيقاعات المركزية للكينونة»، غير أن هذه الأصوات ما انفكت تعاني ضمن سياقنا العربي الإسلامي، من تهويل اللفظ، من قبل سائر الخطابات السائدة، مما أسفر عن الزج بها في غياهب المسكوت عنه واللامفكر فيه، إن الأمر شبيه إلى حد ما «بقصة حي بن يقظان، حيث تعيش العامة حياتها منفصلة تمامًا عن المعقولات، وأسيرة كلية للمحسوسات. وهي الوضعية ذاتها المعيشة حاليًّا بالنسبة لإشكالية اللامتناهي، في مرجعيته الإبداعية والفكرية، عربيًّا، بفعل خضوعه لسلطة الحظر، التي تطال الجسد والروح».
ليس من شأن سيرورات الحظر التي تحيط بأصوات الكينونة الخفيضة سوى الإسهام في توسيع مسالك الوثوقية العقدية من جهة، وتكوثر الخطابات الظلامية الْمُسَيجة بالأسلاك الدوغمائية الشائكة من جهة أخرى؛ ونقصد جماع الخطابات المتخفية في حجاب متناهٍ يبيح الثابت ويحرم المتحول، مما يسفر عن تبديد خيوط اللامتناهي وتشتيت مداميكه. ومن هنا، مأتى الحاجة إلى الانفتاح على مساعي الإبداع؛ ذلك أن «الإبداع المختلف والمغاير، هو الترجمة الفعلية للأصوات الخفيضة التي تتخلص من الوثوقية العمياء، في تعاملها مع اللامتناهي، بحثًا عن تواصل حر ومنفتحٍ على شعرية متوجة بقراءة ذاتيتها. إن الأمر هنا يتعلق بكتمان يشبه الجهر، كتمان يتمتع بجمالية تلكُّئِهِ التي لا تني تجدد رؤيتها لهوية الطريق، للوسائل كما للغايات، عبر مراوحة فرحة ومكابدة، بين نزوة الشك وحتمية اليقين».
الحداثة وأطياف اللامتناهي
أبانت الحداثة وما بعدها عن عجز ووهن صارخين في أثناء محاولتها درء اللامتناهي، على الرغم من سعيها الحثيث إلى «توظيف الكائن في عملية بنينتها لذاتها وبلورتها لإوالياتها، عبر إغراقه في حمأة الاستهلاك العنيف للعابر والمتناهي»، ذلك أن أطياف اللامتناهي المتعددة تحيط بها من كل حدب وصوب؛ لذا أكبت الحداثة وما بعدها على مباشرة مناوراتها القاضية «بتحجيب اللامتناهي، على حساب تكريس سلطة العابر فقط، وتكريس جمالية المؤقت والمتلاشي، وإشاعة ثقافة المحو بالمعنى المبتذل والمجاني للكلمة». مناورات تستند إلى منهجية «تستمد قوتها الإجرائية، من تفجير الأسئلة المغلوطة، التي تستفيد منها الحداثة الهمجية، في تعميم الروح الإلكترونية التي تفتح المجال للامتناه تقنوي، يقع الآن خارج اهتمام هذه المقاربة، بفعل ما يطرحه من إشكالات ليس هنا مجالها».
لا تخلو خطابات الإنسان المبكرة من ضروب التهجس بمسالك اللامتناهي، فسؤال «اللامتناهي قديم، قدم دهشة الكائن أمام الظواهر الطبيعية بتعدد مستوياتها وإيقاعاتها». وهو الأمر الذي تفصح عنه سائر النصوص التأسيسية التي ظلت عالقة في ذاكرة الثقافات الكونية والإنسانية. ولا سيما أن اللامتناهي، على حد تعبير رشيد المومني، «يخص تلك الخطابات المنفتحة على محتملها. كما يخص الخطابات المنذورة باستمرار لفهم حقائق الوجود، التي ينسخ بعضها البعض الآخر دونما انقطاع».
لا تتوقف تلك الجاذبية التي تمارسها قضايا اللامتناهي (القضاء والقدر، الأسماء والصفات، البعث والعدم…إلخ) عن ضخ روح جديدة في الإشكالات المترتبة عنها، ونقصد «استمرارية البحث فيها بكل اللغات، وبكل المنهجيات وفي كل العقائد دونما استثناء». ومرد ذلك إلى «كون تقمص صوت اللامتناهي هو أقصى ما يطمح الإبداع إلى تجسيده قديمًا وحديثًا، بغاية ملء الفراغات والتقاطعات التي تطل إرادة الفهم والتمثل البشري. ومن المؤكد أن تفاقم الاتجاهات الداخلية لدى الكائن، هي ردود أفعال طبيعية على تراكم الفراغات والبياضات التي يستشعرها جراء تمنع اللامتناهي على الفهم والتأويل».
(كل الاقتباسات من كتاب رشيد المومني)
0 تعليق