قررت لجنة الاختيار لجائزة الملك فيصل للغة العربية والأدب حجب الجائزة هذا العام 2025م، وموضوعها: «الدراسات التي تناولت الهوية في الأدب العربي»؛ نظرًا لعدم وفاء الأعمال العلمية المرشحة بمتطلبات الجائزة. أما جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام، فسيُعلَن عن الفائز في نهاية...
المقالات الأخيرة
الفلسفة وإعادة التفكير في الممـارسات الثقافيـة
من الممكن القول في ضوء المشكلات التي تطرحها الدراسات الثقافية، بأن الفلسفة الآن، تنتسب للممارسات الثقافية، بل كأي نص آخر من النصوص الأخرى المتعددة التي تنشغل بها الدراسات الثقافية، وفق المفهوم الجديد للثقافة بوصفها «جملة من الصفقات والعمليات والتحولات والممارسات والتقنيات والمؤسسات التي تنتج أشياء وأحداثًا -مثل الأفلام والقصائد أو مباريات المصارعة العالمية- يجري اكتشافها ومعايشتها وإعطاؤها معنى وقيمة بطرق مختلفة ضمن شبكة الاختلافات والتحولات غير المنتظمة التي برزت منها»(1).
الفيلسوف في تجربة التفلسف
هذا لا يعني قط أن الفلسفة، وهي التي كانت أمًّا للعلوم والفنون، قد غدت فرعًا من الدراسات الثقافية، بل يعني فقط أن تجربة الفكر في الفلسفة، بوصفها شأنًا يوميًّا كانشغال يقتضيه التفلسف، هي تجربة تنتمي للثقافة بمفهومها العريض؛ إذ إن التفلسف من خلال هذا المنظور يندرج ضمن الممارسة الثقافية التي يزاولها الفيلسوف ضمن المهمات الثقافية في عالم اليوم، من حيث هو معني بكل شيء يحدث في مجرى الحياة الروحية التي تستوطنها المفاهيم وتصورات العالم وتحولات الفكر في قلب صيرورة الوجود من جهة أولى، ومن جهة أخرى فهو معني كذلك بكل ما يحدث في قلب الحياة اليومية بدءًا من أبسط الأشياء، وأتفهها أحيانًا، إلى أعقد الأمور وصرامتها، كون الفيلسوف كائنًا يوميًّا كأي كائن بشري، يعيش حدثه اليومي بكل عنفوانه وحيويته الذائبة، في صحبة الفلسفة بصفتها فنًّا للعيش، وتفكيرًا في اليومي، وفي الإمكانيات التي تحفل بها الحياة اليومية، ليس بوصفها معطيات يجود بها الزمان والوجود فقط، بل بوصفها أفقًا لتشكل الخطابات السردية التي تنتج التصورات الثقافية بكل تنوعاتها.
وهذا معناه أن ممارسة التفلسف بهذه الكيفية، بمنزلة نمط ثقافي يعيش في ضوئه الفيلسوف تجربته الخاصة، كأسلوب للحياة ومن أجل الحياة؛ لذلك لا ينفصل الفيلسوف عن أفكاره في تجربة التفلسف؛ لكونه يعيش أفكاره، وذلك لأن الكيفية التي يتخذها أفقًا للتفكير في الذات والآخر والأشياء والعالم، والتي لا تنفصل بوصفها تعبيرًا ثقافيًّا، عن الحياة اليومية، هي في آنٍ واحدٍ منتوج ثقافي، منظورًا إليه من وجهة نظر الدراسات الثقافية على أنه ممارسة ثقافية داخل الحياة اليومية، وهي أيضًا، إبداع مفهومي، منظورًا إليه من وجهة نظر فلسفية محضة.
وهذا معناه أن التفلسف يتوزعه جانبان مهمان، الجانب الأول وهو الذي يتعلق بكل ما يجري من أحداث وتفاصيل يومية، والذي يسهم فيه بدرجة ما بانخراطه في المجال العمومي، كمجال للتعددية الثقافية؛ أي كمثقف منحاز لمواقف المدينة، كفضاء ثقافي لإنتاج الرؤى والممارسات الخطابية وفنون العيش والتعبير عن المواقف ووجهات النظر إزاء مشكلات الحياة؛ أما الجانب الثاني فهو المتعلق بمهمة فيلسوف، معني بابتكار المفاهيم التي تحتفظ دومًا بأشياء تقولها للمستقبل، للتاريخ، للحياة عامة، والتي لا تنبع من لقاء ذاتها، ككيانات قائمة بذاتها في عالم مفارق من فرط المثالية، وإنما انطلاقًا من مشكلات الحياة البشرية، وانطلاقًا من ممارسات ثقافية تعبر عن وجهات نظر حول العالم.
كتب سارتر في ختام حديثه عن القصدية بصفتها فكرة أساسية لفينومينولوجيا هوسرل ما يلي: «لن نكتشف ذواتنا في عزلة موحشة، بل في تلمس الطريق، في المدينة، في وسط الحشود، بين شيء ما من بين الأشياء، بين أناس من البشر»(2). بهذا المعنى يمكن التعبير عن القصدية بصفتها توجهًا للأشياء ذاتها، ووعيًا بشيء ما، في وضعية مثاقفة تحتك بالعالم، لا انطلاقًا من وعي يحتوي شيئًا ما في ذاته، ولا انطلاقًا من شيء ما يحتوي الوعي في جوفه، بل من حركة تتوجه نحو الشيء عينه، بحيث يكون الوعي على مسافة وعلى مقربة من محيط الأشياء التي يعيها؛ لكونه وعيًا يوجد في العالم «ملقى على الطريق العريض، محفوفًا بالمخاطر، وتحت ضوء مبهر»(3).
الفلسفة بوصفها ممارسة ثقافية
ليس ثمة شيء داخل الوعي سوى هذه الحركة التي تنكشف فيها ذواتنا باحتكاكنا مع المحيط الخارجي، مع الآخرين، في الطريق وفي الفضاءات المشتركة. وبذلك تنتج المعرفة التي هي مجرد صيغة ممكنة للوعي بأشياء العالم عن الثقافة بمعناها العريض، كتوجه نحو الأشياء عينها؛ أي كتثاقف أو كممارسة ثقافية، أي كتفاعل حيوي مع العالم. بهذا المعنى يمكن النظر إلى الثقافة بالمعنى الواسع كوحدة حياة وعي العالم التي يتحقق فيها التثاقف؛ ذلك لأن حياة الوعي النسابة والمتغيرة بأشكال متعددة، لا تجري حسب هوسرل، في الذوات المختلفة بكيفية فردية، بل في اجتماع متبادل وفي اشتراك بين الذوات. إننا نوجد جميعًا، سواء مباشرة أو بكيفية غير مباشرة، في اجتماع فعلي أو ممكن، وفي هذه الحياة المشتركة، بما هي حياة للوعي يتخذ وجود العالم بالنسبة لنا جميعًا معنى مشتركًا، بصفته «العالم»، (…) معنى وجود العالم الذي يتجلى فقط بكيفية خاصة للأشخاص والجماعات الخاصة؛ كونها كيفيات فردية لتجلي العالم الواحد بالنسبة للجميع»(4).
وفق هذا المنظور ليس للعالم الذي نتعايش فيه بكيفية انفعالية وفعالة، من معنى معطى سلفًا أو يعطى باستمرار «إلا انطلاقًا من هذه الحياة»(5)؛ أي من الحياة الشخصية التي تعني الحياة كأنا وكنحن بكيفية جماعية، وفي أفق جماعي، وذلك في جماعات من أشكال مختلفة، بسيطة أو مركبة من درجات، مثل العائلة، والأمة وما فوق الأمة. كلمة الحياة ليس لها هنا معنى فسيولوجي، إنها تعني حياة تعمل من أجل غايات وتنجز تشكيلات روحية: إنها حياة مبدعة للثقافة بالمعنى الأوسع في إطار وحدة تاريخية ما. كل ذلك هو ثيمة علوم متنوعة للروح»(6).
وبناءً على ذلك تغدو الفلسفة المعنية بعلوم الروح ممارسة ثقافية؛ لأنها تعبر عن شخصيات متفردة كطاليس وغيره، ابتكرت ما يسميه هوسرل بالحياة الفلسفية؛ أي من قبل متفلسفين أبدعوا تشكيلًا ثقافيًّا جديدًا له طابع المهنة… وهكذا تنتشر الفلسفة بكيفية مزدوجة، تتوسع كجماعة مهنية للفلاسفة وكحركة اجتماعية للتكوين الثقافي تتوسع معها… وهذا الاتجاه نحو التوسع لا يتوقف عند حدود الأمة الأصلية، إنه على عكس كل المنتجات الثقافية الأخرى، ليس حركة للاهتمام مقيدة بأرضية التقليد داخل الأمة. حتى أفراد الأمم الأجنبية يتعلمون تفهمها ويشاركون عمومًا في التحول الثقافي الهائل الذي ينبعث من الفلسفة. وهذه هي النقطة التي لا تزال تحتاج إلى تحديد(7).
يجب أن نركز هنا على التحول الثقافي الناتج عن انتشار الفلسفة في أشكال البحث والتكوين الثقافي الذي ينتج عنه مفعول روحي مزدوج؛ أي أن الأمر يتعلق من جهة شمولية الموقف النظري للإنسان الفلسفي النقدي الذي يضع أي رأي وكل تقليد موضع سؤال، ومن أجل السؤال أيضًا عن الحقيقي في ذاته، أي عن مثالية، عن المعطى مسبقًا في التقليد. وهذا ليس مجرد موقف معرفي جديد؛ لأن الأمر يتعلق أيضًا بإخضاع التجربة بكاملها لمعايير مثالية، لمعايير الحقيقة اللامشروطة. غير أن الأهم هو ما ينتج عن ذلك من تحول بعيد الأثر في ممارسة الوجود بأكمله؛ أي في ممارسة الحياة الثقافية بأكملها، وهي ممارسة بقدر ما تتحرر من معايير التجربة اليومية والتقليد الساذجين، تلتزم بمعايير الحقيقة الموضوعية.
هذا، وإن الفكرة العامة للحقيقة في ذاتها عندما تصبح معيارًا شموليًّا لكل الحقائق النسبية والظرفية للحياة البشرية، سينعكس ذلك على كل المعايير التقليدية، معايير الحق والجمال والغائية، والقيم الشخصية السائدة… إلخ. وعلى هذا النحو تنشأ بشرية خاصة ومهنة حياتية خاصة في تعالق مع إنجاز ثقافة جديدة؛ أي بين بشر يمارسون تفلسفًا ينتجون موقفًا بشريًّا يتدخل في الحياة العملية بمجملها، وينتجون أفكارًا مفيدة للجميع، وملكًا للجميع، وفي عملية التكوين الثقافي يُدمَج أيضًا بشر غير فلاسفة في جماعة المتفلسفين، وذلك لأن حركة التكوين الثقافي تمتد بعيدًا خارج الدائرة المهنية(8).
إذن ماذا يعني هذا التوجه الذي يصبح فيه التفلسف تأسيسًا للحياة الثقافية برمتها، بمجالها الواسع والممتد؟ إنه يعني أن الفلسفة هي الشكل الثقافي لعالم الروح الذي يكافح من أجل معنى للإنسان، وأن التفلسف هو ممارسة ثقافية تنكشف كحركة ثقافية تعيد التفكير في عالم العيش من حيث هو هذا العالم الذي تجري فيه حياتنا اليومية كما تجري في كل الممارسات الثقافية، بما في ذلك ممارسات النزعة الموضوعية التي تقوم على نسيان عالم العيش. وبناء على ذلك يرتبط التفلسف كممارسة ثقافية تنشأ عن موقف نقدي شامل بالتغيير الثقافي الذي لا تعوقه الحدود. فعن حركة المتفلسفة اليونان نشأ تغير في الوجود البشري وحياته الثقافية بأسرها في أمتهم والأمم المجاورة القريبة، وانطلاقًا من ذلك انبثقت كلية فوق وطنية من نوع جديد تمامًا. لم نعد أمام أمم مختلفة متجاورة تتصارع على التجارة والسلطة، بل نحن أمام حركة ثقافية وروح جديدة منحدرة من الفلسفة، قائمة على النقد الحر واحترام معايير تتجه نحو مهام لا متناهية(9).
ولعل المقصود بالمهام اللامتناهية هو المتعلق بكل الممارسات الثقافية التي ينشأ عنها تغير جذري للوجود الناتج عن موقف نقدي شامل، بحيث ينشأ صراع بين المحافظين الراضين بالتقليد ودائرة البشرية الفلسفية، في مجال السلطة السياسية. سيتعرض الناس الذين يتطلعون في حياتهم إلى الاضطهاد الذي ظهر منذ بداية الفلسفة. ومع ذلك يؤكد هوسرل أن «الأفكار هي أقوى من كل القوى المادية… هكذا يمكن أن تنتشر ثورة الثقافة الوطنية، وذلك عندما يصبح العلم الشامل المتطور ملكًا مشتركًا للأمم التي كانت في البداية غريبة عن بعضها البعض، وعندما تخترق جماعة العلم والتكوين الثقافي أغلبية الأمم»(10).
الفلسفة والدراسات الثقافية
إن الأمر يتعلق بمنظور فينومينولوجي فلسفي، ظهر في غمرة أزمة ثقافة أوربية ساد فيها نوع من التصحر الناتج عن نزعة موضوعية وعلموية ضيقة، قائمة على نسيان الحياة اليومية؛ أي عالم العيش كمنبع للمعنى الذي تكتسبه كل التجارب والابتكارات والفنون وغيرها من المنتوجات المختلفة بوصفها ممارسات ثقافية لا تجري في عالم آخر، سوى عالم العيش، عالم الحياة اليومية الذي نصوغ فيه أنماط وجودنا المختلفة. وهذه الفكرة التي تتقاطع فيها الفلسفة مع الدراسات الثقافية، يمكن استعادتها كأساس من بين الأسس الفلسفية الأخرى التي تستند إليها الدراسات الثقافية والتي تتمثل في فلاسفة ومفكرين معظمهم من فرنسا أمثال: فوكو، بارت، دولوز، دريدا، ليوتار، بورديو، ينضاف إليهم غرامشي من إيطاليا، وهردر من ألمانيا.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى يمكن من خلال هذا المنظور الفلسفي فهم الثورة الثقافية، ليس فقط بوصفها صراعًا من أجل أفكار ومفاهيم تطالب بالحق في والوجود وبالاعتراف الكوني، ومن أجل توسيع دائرة الثقافة البشرية، بل بوصفها أيضًا ثورة رقمية ناتجة عن اكتساح ما سماه هوسرل بالعلم الشامل المتطور المشترك بين الأوطان والشعوب؛ أي أنها ناتجة عن التقنية. وعند الوقوف على ذلك سنكتشف أن ثمة أرضية مشتركة تجمع بين الفلسفة وبين الدراسات الثقافية، تتمثل في حقل الثقافة بالمفهوم العريض الموسع، الذي يعني الحياة المعيشة، كحياة ثقافية للجميع ومن أجل الجميع.
والعجيب في الأمر، فحتى إلى حدود اليوم لا يزال معنى الثقافة يقتصر عند كثيرين، وكذلك عند الجهات الرسمية لكثير من الدول، على الممارسة المنتجة لصنوف محددة من المعارف العالمة في العلوم الإنسانية والآداب والفنون، في إقصاء تام للممارسات الأخرى التي من دونها لا يمكننا أن نتحدث أساسًا عن عالم للعيش، أو عن حياة ثقافية بالمعنى الشامل. في حين أن الثقافة بما هي ثقافة حياة، تتعين في كل أساليب العيش الممكنة، كممارسات ثقافية لا تقبل التناهي ولا الحصر ولا الاختزال في معنى محصور، ولا الاحتكار من قبل جهة ما.
وهذا معناه أن الثقافة ملك للجميع، وأن الحق في الثقافة مشترك بين الجميع، وأن مفهوم المثقف الموسع يسع كل فرد من أفراد البشرية التي تتشارك الثقافة كملك مشترك للجميع. وكإنتاج يشارك فيه الجميع إما بكيفية فردية مباشرة مما يحمل توقيعات خاصة تنتسب لأفراد بعينهم، أو بكيفية غير مباشرة مما هو مبني على العمومية التي تتمثل في كثير من صناعات الإنتاج التي تظهر بشكل جماعي في الفضاء العام للمدينة، وفي أفق المجتمع، وذلك على شكل موجات ثقافية، تنبعث غالبًا من الهوامش، كفنون الشارع، أو كحركات احتجاجية مقاومة للاستغلال ومناصرة للمضطهدين، وضد كل هيمنة ثقافية، أو معبرة عن مطالب ثقافية معينة. كل ذلك لا يخرج عن نطاق الممارسة اليومية كحياة ثقافية، وهو ما يجعل من الفلسفة انشغالًا بفن العيش، بحيث يصير اشتغال المتفلسفين عينه مندرجًا ضمن الممارسات الثقافية الأخرى المتعددة، كحقل ثقافي بامتياز.
الفلسفة بوصفها فنًّا للعيش
وإذا كانت الفلسفة فنًّا للعيش، فهذا يعني بكل بساطة، أنها ابتكار للذات وللوجود ثانية، من حيث إن الذات تكتشف إمكانيتها الخاصة، كوجود في قلب العالم وبالقرب من الأشياء، ومن حيث إن الوجود الذي تنتسب إليه، هو المجال الذي تنكشف فيه كينونتها المخصوصة في عالم ثقافي محيط لا تملك أن تنفصل عنه، بقدر ما تنفعل به سلبًا، أو تتفاعل معه إيجابًا. وما دام الأمر على هذا النحو، فإن الفلسفة لا تسعى إلى شيء بقدر ما تسعى، بمقتضى كونها فنًّا للعيش إلى تغيير الذات التي تنشد بحكم تجربة الفكر بلوغ كمال أعظم، من حيث إن هذا السعي هو تغير يحدث في الذات بمقتضى تجربة الفكر، كما تسعى إلى تغيير العالم أيضًا، لا لأنها تملك إرادة فائقة من أجل تغييره، وإنما لأنها تنتمي إلى مجموع الرغبات المشتركة التي تشكل أنماط الوجود الثقافية في العالم، كتغير دائم لا ببراءة صيرورة الوجود فقط كمعطى أصلي للطبيعة، وإنما بمجموع الرغبات كمعطى ثقافي للذوات.
وهيغل كان على حق حينما تصور العالم على أنه انكشاف لصراع الرغبات، من أجل نيل الاعتراف؛ أي من أجل تغييره ليغدو أفقًا غائيًّا للتغيير. بعبارة أخرى، فإن فلسفة تكتفي بالانطواء على ذاتها من خلال مجرد الفهم، ولا تسعى، في صلب حركة تقويم نمط الوجود في العالم إلى تغيير العالم، ليست فلسفة جديرة بالتسمية. من الأجدر أن نسميها شيئًا آخر، يمكن أن نسميها انشغالًا يتلاعب بالمفهوم، عوضًا عن أن نسميها فلسفة بحق كابتكار لممارسة ثقافية من نوع خاص، تسهم إلى جانب فروع الثقافة الأخرى، في تشكيل فضاء ثقافي يجعل من الوجود ممكنًا للعيش على نحو أفضل، أي بمقتضى العيش على نحو ثقافي، إن لم نقل بمقتضى الفضيلة، إذا كانت الفضيلة تعني التجلي الأسمى للحق في الحياة، أي كتعبير عن جوهر التغير الخلاق الجدير بمفهوم العالم. وإلا فما جدوى التفلسف، وما جدوى أن نمتهن الفلسفة، إذا كانت مجرد وسيلة للفهم، وليست كذلك، تعبيرًا عن ممارسة ثقافية معنية تمامًا بإبداع تصورات العالم الثقافية، كأساس لنمط الوجود الأصيل؛ أي كتَجَلٍّ للحقوق الثقافية في الوجود؟
خلاصة القول فيما يتعلق بالتداخل ما بين الفلسفة والممارسات الثقافية، بإمكاننا القول: إن كل المعارف البشرية والتجارب الفكرية والروحية المتنوعة، تنطوي بوصفها ممارسات ثقافية على الفلسفة في حدها الأدنى على الأقل، كون كل هذه المعارف والتجارب الروحية هي تعبير عن وجهات نظر حول الوجود والكينونة؛ أي أنها تنطلق من مبادئ فلسفية بدرجة أشد أو بدرجة أقل، بكيفية صريحة أو بكيفية مضمرة.
لهذا لا تخلو التجربة البشرية برمتها من فلسفة حتى لو كانت مجافية ومعادية للفلسفة، كونها جميعها لا تستطيع أن تتخلص من الفلسفة، كعنصر كامن في الأساس الذي تعبر من خلاله عن موقف ما إزاء المبدأ والوسيلة والغاية، أي إزاء مجمل ما ترسمه في أفق عالم خاص تتشكل فيه، كشكل مستقل، كعلم من العلوم الدقيقة، أو كعلم للطبيعة والحياة، أو كعلوم إنسانية، أو حتى كعلم وضعي يجافي الميتافيزيقا برمتها.
في كل الأحوال ترجع كل تلك الحالات إلى وجهة نظر إزاء العالم، لا يمكن أن ننسبها إلى موقف ما، لا يخلو من سند فلسفي. وهذا معناه أن كل شيء يحدث هو فلسفي؛ كونه لا يخلو من موقف هو فلسفي بالضرورة وليس بالغاية، حتى لو كان، كما قلنا آنفًا: معاديًا للفلسفة. أو بعبارة أخرى: لا يمكن للشيء الفلسفي إلا أن يكون في أساس كل تجربة بشرية. أما الفلسفة عينها كغاية في حد ذاتها، فهي تعبير عن الكينونة، ما دام العالم يمكن أن ينكشف من خلالها كشكل ثقافي وكتجربة فكر مخصوصة؛ أي كفَنٍّ لابتكار نمط وجود جدير بالعيش في حضن حياة فلسفية، مفعمة بالحيوية وغبطة الوجود، في أفق الزمان.
(1) سايمونغ ديورنغ، «الدراسات الثقافية: مقدمة نقدية»، ترجمة ممدوح يوسف عمران، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ع 425، الكويت، يونيو 2015م، ص 23.
(2) Sartre, Situations philosophiques, tel Gallimard, 1990, P 12.
(4) إدموند هوسرل، «أزمة العلوم الأوربية والفنومينولوجيا الترنسندنتالية، مدخل إلى الفلسفة الفنومينولوجية»، ترجمة إسماعيل المصدق، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2008م، ص 455.
(10) المرجع نفسه ص 543.
المنشورات ذات الصلة
المرأة والفلسفة… قضية منجز أم قضية ثقافة؟
يُعَدُّ حقل الفلسفة من الحقول المعرفية الجدلية بالغة التعقيد؛ ليس لأنه يفتح مجالًا واسعًا للمقارنة بين منجز الرجل...
اللغة والقيم العابرة… مقاربة لفك الرموز
القيم تَعْبُرُ المجتمعات والثقافات (= عبور عَرَضي)، وهي أيضًا تعبر الأزمان والأوقات (= عبور طولي). هذا العبور مَحُوطٌ...
الصورة: من المحاكاة إلى البناء الجمالي
يعد اللسان أرقى أنساقِ التواصل وأكثرَها قدرةً على وصف وتأويلِ ما يأتي من المنافذِ الحسية، فلا يُمكننا استخراج القواعدِ...
0 تعليق