المقالات الأخيرة

جائزة الملك فيصل تحجب جائزة «اللغة العربية والأدب» وموضوعها «الدراسات التي تناولت الهوية في الأدب العربي» لعدم الوفاء بالمتطلبات

جائزة الملك فيصل تحجب جائزة «اللغة العربية والأدب»

وموضوعها «الدراسات التي تناولت الهوية في الأدب العربي» لعدم الوفاء بالمتطلبات

قررت لجنة الاختيار لجائزة الملك فيصل للغة العربية والأدب حجب الجائزة هذا العام 2025م، وموضوعها: «الدراسات التي تناولت الهوية في الأدب العربي»؛ نظرًا لعدم وفاء الأعمال العلمية المرشحة بمتطلبات الجائزة. أما جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام، فسيُعلَن عن الفائز في نهاية...

المرأة والفلسفة… قضية منجز أم قضية ثقافة؟

المرأة والفلسفة… قضية منجز أم قضية ثقافة؟

يُعَدُّ حقل الفلسفة من الحقول المعرفية الجدلية بالغة التعقيد؛ ليس لأنه يفتح مجالًا واسعًا للمقارنة بين منجز الرجل ومنجز المرأة، وإنما لأنه من الحقول النخبوية الشاقة في عالم الفكر وصناعة المعرفة، نظرًا للنُّدرة التي نلحظها في نسب المتفردين والمؤثرين المشتغلين فيه،...

الفلسفة وإعادة التفكير في الممـارسات الثقافيـة

الفلسفة وإعادة التفكير في الممـارسات الثقافيـة

من الممكن القول في ضوء المشكلات التي تطرحها الدراسات الثقافية، بأن الفلسفة الآن، تنتسب للممارسات الثقافية، بل كأي نص آخر من النصوص الأخرى المتعددة التي تنشغل بها الدراسات الثقافية، وفق المفهوم الجديد للثقافة بوصفها «جملة من الصفقات والعمليات والتحولات والممارسات...

اللغة والقيم العابرة… مقاربة لفك الرموز

اللغة والقيم العابرة… مقاربة لفك الرموز

القيم تَعْبُرُ المجتمعات والثقافات (= عبور عَرَضي)، وهي أيضًا تعبر الأزمان والأوقات (= عبور طولي). هذا العبور مَحُوطٌ بالعديد من الأسرار والإشكاليات من جهات تأسيسية عديدة، ومن تلك الجهات دور اللغة. وفي هذا النص المختصر، نقدم مقاربة مكثفة للإجابة في قالب أولي عن هذا...

لا تحرر الحرية

لا تحرر الحرية

التحرر «هو حقي في أن يكون لي رأيي الخاص، ووعيي الخاص». يمكن لكثيرين العيش بشكل مثالي دون تحرر، كما يمكن أن يكون التحرر في تحمُّل المسؤوليات مُفزِعًا في بعض الأحيان. التحرر هو قيمتنا الأولى، ومع ذلك ليس الجميع في حاجة إليها». (ليودميلا أوليتسكايا، «مقابلة في سفوبودا»،...

الصورة: من المحاكاة إلى البناء الجمالي

بواسطة | يناير 1, 2025 | مقالات

يعد اللسان أرقى أنساقِ التواصل وأكثرَها قدرةً على وصف وتأويلِ ما يأتي من المنافذِ الحسية، فلا يُمكننا استخراج القواعدِ التي تحتكم إليها منتجاتُ هذه المنافذ، في اشتغالها وفي إنتاجِ دلالاتِها، إلا بالاستنادِ إلى ما تَقولُه الكلماتُ عنها. إن اللسان يُعين ويسمي ويَصف ويُفكرُ في نفسه ويُؤول أنساقًا أخرى في الوقتِ ذاته؛ لذلك كانت اللغةُ وحدها قادرةً على التجريد وتسميةِ مناطقَ في النفس والوجودِ والفصلِ بين حالاتِها، «فأنْ نَمنح الشيءَ اسمًا معناه أنْ نَنْتزعهُ من مآله ومن سياقه الزمني، ونُحولهُ إلى جوهر قابل للتعميم»(1). وهذا الاسمُ هو القاعدةُ الرئيسةُ التي تقوم عليها الوقائعُ الإبلاغيةُ، فهو ما تحتفظُ به الذاكرة وتحتفي به. فالعنقاءُ والقارنُ والغولُ كلها كائنات موجودةٌ في اللغةِ وحدها، وموقعُها هذا هو الذي يَمنحها إحالات مجازية داخل التجربةِ الإنسانيةِ.

الذهن وما يوجد خارجه

وهذا مصدرُ التمييز بين وجودِ الأشياءِ حقيقةً وبين إدراكِها في الذهن، يتعلق الأمرُ بما يُقابل بين البُعد المادي في حقيقةِ الوجودِ وبين البُعد المفهومي في الذهن. فالثابتُ أن العيْنَ لا تُسجل سلبيًّا ما يأتيها من خارجِها، إنها لا تلتَقط معطياتٍ صامتةً من عدم لا يُسنده أي شيء، إنها تَتحكم في أشيائِها وتُعمم وتُهذب التجربَة الإدراكية لكي تكون قادرةً على الاحتفاظ بأقسام عامة، لا بأشياء أو كائنات معزولةٍ، فالعام هو أساس القاعدة وهو أساسُ الاستِذكار أيضًا. فنحن نُصنفُ ونميزُ ونفصلُ ونُقارنُ، إننا في المجملِ نفهمُ ما نُدركُه استنادًا إلى قدرتِنا على تنظيمِ الأشياءِ والكائناتِ في أقسام وفصائل. وهذا الفهمُ هو الذي يجعلُ التجريدَ «أعلى مرتبةً» من التشخيصِ، إنه يَصُب البُعدَ الحسي في مفاهيم تُعيد تسميتَه. وخارج هذا التفاعلِ ليس هناك سوى العماءِ.

وهذا معناه أن «الذهنَ، محروم مما يجري في الزمان وفي الفضاء، عاجزٌ على القيام بأي شيء»(2)، ففي حالتِه هاته سيكونُ وعاءً فارغًا، ولكنْ لا قيمة أيضًا لما يَتسربُ إليه دون مفاهيم تُعيد تَرتيبَ مُدركاتهِ، «فالحدوسُ الحسيةُ بلا مفاهيمَ عمياءُ، والمفاهيمُ بدون حدوسٍ حسيةٍ جوفاء»، كما يقول كانط. فلا وُجودَ إذن لشيءٍ في الذهن لا معادلَ له في العالم الخارجي، بالحقيقةِ المادية أو بالاستيهام الاستعاري فقط، فحتى في الحالة التي نَتصور فيها كائناتٍ آتية من مجراتٍ أخرى، فإننا نَفعل ذلك استنادًا إلى ما تُوفره بنيةٌ مألوفةٌ لدينا، هي بنيةُ الإنسانِ نفسهِ كما استقرت في كل الأذهان. إن الذات «تصطدمُ» بما يُوجدُ خارجَها، وذاك مصدرُ إحساسِها بوجودِها، ما يُشبهُ الفعلَ ورد الفعلِ، إنه الضرب على البابِ من أجل فتْحه، أو هو الإمساكُ بغُصنِ الشجرةِ حذَر السقوطِ. يتعلق الأمرُ بإحالةٍ متبادلةٍ بين ذهنٍ موجهٍ إلى ما يُوجدُ خارجَه، وبين أشياءَ لا يُمكن أنْ يَستقيم وجودُها في الذاكرةِ خارج وعيٍ يَسْتهدفُها.

وتلك هي الوظيفةُ المركزيةُ للذهن، «إنه يَقوم بنحتِ المفاهيمِ ومراكمةِ المعارفِ وخلقِ الترابطات الممكنةِ والقيام باستنتاجات»(3)، إنه نشاطٌ لساني محض تَتسربُ عبره الأشياءُ إلى عوالم أخرى تُولدُ وتنمو في التجريدِ المفهومي. فالأشياءُ في اللغة ليست معادلةً لنظيرتِها في حقيقةِ الواقع؛ ذلك أن الكلمات ليست تسميةً فحسب، إنها تُعد أيضًا غطاءً استعاريًّا يُعيدُ تنظيمَ الكونِ في عوالمِ التجريدِ، وذاك ما يُسْهم في تَوسيع ذاكرتِه، إن العالمَ في اللغةِ أرحبُ وأوسعُ مما هو عليه في حالتِه الخام.

إن الذات تَصب، من خلال هذا التفاعل بين المشخص والمفهومي، ما يُرى عيانًا فيما يُمكن أنْ تَأتيَ به تمثيلاتٌ أخرى تُبنى في القصد الرمزي وحده. يتعلق الأمرُ بمنحِ الذات المتكلمَةِ قدرةً على إيداع جزء من انفعالاتها وقناعاتها في محيطها. فالصورة لا تُمثل فقط، إنها تقول لنا أشياءَ أخرى غير ما تقوم بتمثيله، إنها تَكشف عن شرط وجود الأشياء ضمن شرطِها الأيقوني، «فهي لا تُحاكي وجودَ الأشياءِ في العالم وإنما تُحاكي غيابَها»(4). وهذا معناه «أن الرابط بين الدال والمدلول في حالةِ الإبصارِ يَتحقق عبر انصهارِ عينٍ تَرى في نظرة تستوطنُ المفاهيم»(5)؛ لذلك «عُد الكلام، إلى جانب الإيماءات والنظرة، إحدى الوسائلِ التي يستعملها الإنسانُ للخروجِ من نفسهِ واحتضان العالِم الخارجي»(6). فنحن نذهبُ إلى الأشياءِ بالمفاهيمِ لا بالانفعالِ البصري وحدَه.

اللفظ والصورة

ووفق ذلك يُمَيَّزُ بين اللفظ والصورة. إن للفظ وقعًا دلاليًّا مباشرًا، وذاك ما تُحيل عليه التسميةُ والوصفُ وكل الإحالاتِ القاموسية، أما الصورةُ فتُخاطبُ العيْن بالأشكال والألوان والوِضعات(7) وتصميمِ اللقطات وغيرها؛ إنها بذلك تَستثير الانفعالات وحدها. وقد يكون ذاك هو مصدر المتعةِ فيها، إنها تمثيلٌ للحس وأسْرٌ لقواه وتوجيهٌ للهوى في الذات. ومع ذلك ستظل اللغةُ وحدها، في الحالتين معًا، قادرةً على شرح طبيعة ما يُحس به المشاهد، ما يستثيرهُ وما يَشتهيه وما يود تجنبَه أو امتلاكَه. يتم هذا استنادًا إلى طبيعةِ الممثلِ في الصورة واستنادًا إلى قصدِ المتلفظ البصري في الوقتِ ذاته. فالمعنَى ليس في الـمُمَثلِ وحده، بل مصدرُه العيْن التي تراهُ أيضًا. إنه التلفظ البصري، مخلفاتُ العين فيما رأت، أو موقفُها مما مَثَّلَتْه.

وتبعًا لذلك لا تَستهدفُ الصورة شيئًا، إنها تلتقطُ معناه. إنها تُصبحُ عملًا فنيًّا حين تَتخلص من «المستَهدَف» الحقيقي وتُحولهُ إلى نظرةٍ في العين، أي خبرة تنمو وتُزهر في الرمز في المقام الأول، إنها لا تقوم بانتزاعنا من التربةِ المألوفةِ لدينا بطابعِها الاستِنساخي، إنها تفعل ذلك لأنها بناءٌ فني. وبذلك تُصبحُ ناطقةً من خلال النظرةِ فيها. وهذا معناه أن الأشياء لا تَتسرب إلى الذهن باعتبارها واقعًا محسوسًا، إنها تحضرُ فيه دائمًا باعتبارها تمثيلاتٍ رمزيةٍ. فالعالم موضوعي في ذاته، أما في العين التي تراهُ فهو سلسلةٌ من المضافاتِ مصدرُها النشاطُ الثقافي في المقام الأول. هناك فاصلٌ بين الموضوعِ الغائبِ وبين ما ينبعثُ من أحاسيسَ مصدرُها الشيءُ أو الكائنُ الماثل أمام العينِ.

بعبارة أخرى، إن «الصورةَ لا تَتمتعُ بمرجعٍ محسوسٍ، فما تقوم بتَمثيله هو موضوع يُبنى في الرمز»(8)، لا في تفاصيلِ الطبيعةِ. وهي صيغةٌ أخرى للقولِ، إن الصورةَ لا تُعين شيئًا، إنها، على العكس من ذلك، تُحيلُ على «قسمٍ من الأشياءِ»(9). وبذلك عُد مضمونُ الإحالةِ «وحدةً ثقافيةً»، لا شيئًا مودعًا في الطبيعة. فلا قدرةَ للعينِ على التقاط كل ما يَـمْثُل أمامها في العيان. «فالوجودُ يقتضي وعيًا بالموجودِ»(10). ففي هذا الوعي تتحدد كينونة المستهدَف.

يتعلق الأمرُ بالإحالة على سيْرورتَين في الإدراك، ما يُبنى في اللفظ في شكل مفاهيم مجردة هو ما يُشكلُ المضمونَ الذهني للأشياء، وما يُبنى في شكل خطاطات تَقود العين إلى التعرف إلى موضوعاتها في الذاكرةِ. إنهما سيرورتان متوازيتان هما ما يتحكمُ في نمط اشتغالِ العلامةِ، وهما ما يُحدد مكوناتِها في الوقت ذاته. بعبارةٍ أخرى: «إن ما تعرضُه الصورة على العين ليس معطى محسوسًا يَتمتع بنظامِه الخاص، وليس شكلًا خالصًا أيضًا، إنها تُشير إلى الطريقة التي يَحتضن هذا الشكلُ من خلالها الممثلَ فيها ويُعيد صياغتَه»(11). إن الأشياءَ تَتسرب إلى الذهن من خلال مفْهمةٍ لفظيةٍ وتمثيلٍ بصري في الوقت ذاته.

وتلك صيغةٌ أخرى للقولِ: إن «الصورة لا تحل محل الأشياء، وإنما تُرينا كيف تَنفتح هذه الأشياءُ أمامَنا، وكيف نتسللُ إليها»(12). فما يَستثير الذهنَ هو الرغبةُ في استعادةِ «الحقيقي» من خلال ما يقوم بتمثيلهِ في البصري. فالصورة ليست محاكاةً، ولا تنقل بحيادٍ أو بصدقٍ ما تُمَثّله، إنها، على العكسِ من ذلك، تَتصرف في ممكناتِ موضوعاتِها وتُعيدُ رسْم مساحاتٍ داخل الممثل تكون النظرةُ داخلَها مدعوةً إلى استيعابِها لكي تتحرر من الرابط الذي يشُدها إلى الأشياءِ. فمن خلال هذهِ المساحاتِ تَتسلل النظرةُ إلى هذه الموضوعات لتَبنيَ عوالمَ مستقلةً دون أنْ تفقدَ، مع ذلك، صِلتَها مع عالمٍ يَأتيها من الخارج (وتلك حالةُ الصورة الإشهاريةِ، إنها تُركزُ على رمزية الوجودِ دون أنْ تنسى أنها موجهةٌ لبيعِ مُنْتجاتٍ).

ستقومُ النظرةُ، تبعًا لذلك، «بتخليصِنا من المرئي، فذاك ما يُحددُ القصدَ والغايةَ من كل رؤية، إنها ليست شيئًا آخر غير البعدِ الإنساني للإدراك، وذاك سبيلُها إلى القصدِ وما يُثير الانتباه»(13). إن العينَ أسيرةُ ما تَراه في الرؤية، أما في النظرةِ فتَكون مالكةً لكل ما يمثُل أمامَها وفق مسبقات دلاليةٍ. «فأنْ تَرى معناه أنْ تلِج عالمًا من الكائنات القابلة للرؤيةِ، ولن يكونَ هذا العالمُ في مرمَى العين إذا لم يَكن متواريًا خلفَها. إن رؤيةَ الشيءِ تقتضي استيطانَه، وذاك ما يُمكنُ الرائي من الإمساك بكل الأشياءِ وَفق الوجوهِ التي تَتوجه إليها»(14). وتلك هي وظيفةُ العينِ في الذهاب إلى العالم، إنها تُجزئ المدركَ في النظرةِ وتخلصه من الحسية فيه.

التخيلي والمخيالي

هناك إذن «شكلان من التمثل تُنتجُهما المخيلة: التمثل «التخيلي» أو الاستنساخي من جهة، وهناك التمثل المخيالي من جهة أخرى. يَستهدف الأول حضور الشيء «بالقوة»، إن لا واقعيةَ موضوعِه مؤقتةٌ، إنها مرتبطةٌ بالتجربةِ، بشكلٍ مزدوج: هناك تجربةُ الإدراكِ الأصلي الذي تُعيد إنتاجَه، وهناك تجربةُ الإدراكِ السابقةِ عليه. فنحن نَتخيل استنادًا إلى ما سبقَ أنْ رأيناه أو استنادًا إلى ما نَعرفُه. فما تُنتجه المخيلة في هذه الإحالةِ هو نسخةٌ مُحورةٌ عن أصلٍ موجودٍ فعلًا، فقد تكون المخيلةُ قادرةً على إنتاج ما تشاء، ولكنها في جميع الحالات لا يُمكن أنْ تُنتج إلا ما يُمكن أنْ تُوفره التجربةُ الواقعية(15). بعبارةٍ أخرى، إن المتخيلَ لا يبتدعُ موضوعاتٍ تكونُ هي مادةَ تخيله، بل يَكتفي باستعارة ما يَتخيلُه من الأشياءِ والكائناتِ المحيطةِ به.

والأمرُ على العكس من ذلك في الحالة الثانية، التمثل المخيالي، «ففي هذه الحالة تَتخلص العين من كل شيء: إن لا واقعية الشيء مستهدفة بشكل نهائي. واستنادًا إلى ذلك، فإن المخيال يَتحايَل على الزمان والمكان: إنه يُسقط الذاتية على زمنية فضائية خاصة»(16). فلا معادِل للجن في التجربةِ الواقعية، ومع ذلك نَستطيعُ بناءَ كيانٍ يَستوطن عالمًا لا نراهُ، ولكنه موجودٌ في مخيلتِنا، وهو ما يخافُه الناسُ ويستعيذُون بالله من شُرورهِ. وتلك هي وظيفةُ كل الأشكال الرمزيةِ، إنها توسع من ذاكرةِ ما تقترحُه الطبيعةُ على العين.

ووَفق ذلك «تَـمْثُل الصورةُ أمامَنا باعتبارها غيابًا للشيء، فظاهريتها الخالصةِ، اللطخات السوداءُ على مساحةٍ بيضاء، لا تلِجُ الوعيَ إلا من خلال انزياحِها عما تُمثله، ما يُشير إلى الحضورِ الفعلي للشيء»(17). فنحن نَلتقط «الظاهر» الذي يُوازي خبرةً في الوعيِ الذي تَسوطنُه الأشياءُ باعتبارها معنى. وفي جميع الحالاتِ، فإن تَعريفَ العلامةِ البصريةِ (الصورةُ أساسًا) يَقتَضي الخروجَ من إسار «أنطولوجيةٍ ماديةٍ» تَكون الصورة فيها هي النظيرُ أو الشبيهُ لها، من أجل استحضارِ خبرةٍ تَنمو في النظرةِ. فما يَتسربُ إلى الذهنِ ليس أشياء في حالتِها الغُفلِ، بل مُجْمل أشكال حضورِها الرمزي فيه.

وهذا ما سيَتضح أكثر إذا نحن أخذْنا رسمًا للفرس لا يُوهمُ بالاستنساخِ، كما تفعلُ ذلك الصورة، بل يكتفي بتَقديم ما يُمكن أنْ يقود العين إلى استحضارِ النموذج البصري الذي يَتضمن كل النسخِ التي يُشير إليها الرسمُ. فما يُمثله الرسمُ عادةً هو مجموعةٌ من الخطوط لا غير، فهي التي تُمكن العيْنَ من التمييز بين فضاءٍ داخلي مفترضٍ، وبين آخر خارجي مفترضٍ هو الآخر. ومع ذلك، لا يُمكن للعين أنْ تتجاهلَ أن ما هو معروضٌ أمامَها يُحيل على فرَسٍ داخل تجربَةِ النظرةِ. إن الفرسَ الوحيدَ القابلَ للرؤيةِ هو فرسُ هذه التجربةِ، «فلكي نُدرك وجودَه فعلًا علينا أنْ ننتزعه من فرادتِه، ونُدرجَه ضِمن علاقةٍ، أي يجب أنْ نتخلص من كل ما يُشير إلى حقيقتِه في الواقع»(18). إن ما يَتم التخلصُ منه، في هذه الحالةِ، هو فكرةُ «الاستهْداف الواقعي للحصانِ، إن الصورةَ تَحرمُه من أي وجودٍ واقعي»(19). فلكيْ يَحضر الفرَسُ في العين يَجب أنْ تتراجعَ نُسختُه وتُخليَ السبيلَ أمامَ النموذج الذي يحتضنُه.

حينها «يمكن القولُ: إن علاقة الظاهرة بمادية الشيء، شبيهةٌ بعلاقة الصورة بحقيقةِ الظاهرة»(20). إن الحصانَ يَتحول إلى «ظاهرة»، إنه «ظاهر في العين»(21)، وذاك ما يلتقطُه الوعيُ، إنه موجودٌ في انفصالٍ عن حقيقةِ الموجود. وهذا ما يَصدُق على صورةِ الحصانِ «الفعلية»، إنه حصانٌ في الذاكرة لا في العين التي تراه بشكل مباشر.

وهذا معناه أن الذي يَرسم حصانًا على الورق لا يَستعيدُ من حقيقتِه سوى ما يُمكن أنْ يستوطنَ وعيًا يَبني مادةَ وعيِه استنادًا إلى تَجربة سابقةٍ، لا استنادًا إلى حقيقةِ الحصانِ في الواقع. إننا نقومُ باختصار التجربةِ إلى حدودِها القُصوى لكيلا نَحتفظَ إلا بما يُمكن أنْ يُشكل بنيةً تصدقُ على كل الأفراسِ الممكنةِ. إن الخطوطَ، وهي الحقيقةُ الوحيدةُ في وجودِ الفرسِ في العينِ، لا يَدل على الفرسِ، ولا يُمكن أنْ يكونَ بديلًا عنه، ولكنه يُعد، مع ذلك، سبيلًا إلى استحضارِ صورتِه في الذهنِ. وتلك هي القوةُ الضاربةُ للخط، إنه مبتدأ كل الأشكالِ ومنتهاها، «فلكي نَرى شيئًا ما علينا رسم خط، فالخط حد لكل شيء»(22)، إنه ممتد في تجربةٍ أو تجارب استبطنتْها العين، وهو ما يُمكن الذات من الربط بين هذا الرسم وبين فرسٍ حقيقي.

الشيء وصورته، الوعي والموضوع

وقد تكونُ هي المحدداتُ ذاتُها التي انطلقَ منها جان بول سارتر من أجلِ تحديدِ وضعِ الصورةِ في الذاكرةِ، بما فيها ما يَعودُ إلى الصور الذهنيةِ وطرقِ تشكلِها في الوعيِ. ففي تصوره، لا يُمكنُ للكرسي الماثلِ أمامَ العينِ أنْ يَحضرَ في الوعيِ إلا من خلالِ بعضِ مظاهِره، فنحنُ لا يُمكُن من خلال عمليةِ إدراكٍ واحدةٍ استيعابَ جميع ما يُشكلُ كينونةَ الكرسي. ستَظل هناك دائمًا واجهاتٌ خارجَ الإدراكِ. وتبعًا لذلك، لا «يُمكنُ لصورةِ الكرسي أنْ تكونَ هي الكرسي ذاته»(23). وهو ما يعني أن «كلمةَ «صورة» لا تُحيلُ على الشيء، بل تُحيلُ على الرابطِ بين الوعيِ والموضوعِ، إنها طريقةٌ يَمْثُل من خلالها الموضوعُ في الوعيِ»(24).

والشيءُ ذاتُه يمكن قولُه عن لوحةِ كارافاجيو الشهيرة(25). فلم تكن هذه اللوحةُ وهي تمثل لطبيعة «ميتة» تُريد أنْ تُرينا سلةً من الفواكهِ، فما هو معروضٌ فيها لم يكن شيئًا يُرى بعين صامتةٍ، لقد نقلتها اللوحةُ من شيء لذاتِه إلى فواكه في نظرة المتفرج. إننا ننسى فواكهَ اللوحةِ لكي نلتفتَ إلى المضافات، ما يعودُ إلى اللون والشكل والملمس، وما يعود إلى موقعها ضِمن نظامٍ غذائي إنساني يُحددُ للفواكِه موقعَها في الوجبة الرئيسة. فهذه المضافاتُ هي التي تَستوقفُ العين وليس الفاكهة المعروضة للأكل؛ «إننا لا نقومُ سوى بالتوقف عند الجزئيات والتفاصيلِ لكي نَسكن عالـمَها»(26) (لن نُسارع إلى السوق لشراء الفواكه ونحن نشاهدُ لوحةَ كارافاجيو).

وذاك هو المنطقُ الذي يَتحكم في بناء الصورة الإشهارية أيضًا. فالـمُنْتج الذي تَعرضُه الصورة ليس موضوعًا قابلًا للاستهلاك (المنتجاتُ مودعةٌ في المخازنِ والأسواقِ الممتازةِ)، وليس مقصودًا في ذاته، رغم الغاية الربحية الصريحة للوصلة. إن حضوره يَتجسدُ في كونِه معروضًا على العين، فلكيْ تَنجح الصورةُ في مراميها يجب ألّا تُحيل على مُنتجٍ حقيقي، بل يَجب عليها أنْ تجعل من الممثل فيها ممرًّا نحو ما يُمكن أنْ يَستثيرَه من انفعالاتٍ في ذاكرة المتلقي، فيَجبُ على الناظرِ ألّا يقفَ عند حدودِ وظيفتِه أو مذاقه أو متانَتِه، عليه أنْ يجعله مطيةً نحو عوالمَ تُعشش في اللاوعي.

ستكون التجربة البصرية في هذه الحالة، طريقةً يَهَبُ الشيء من خلالها نفسَه إلى القارئ باعتباره ظاهرةً، أي باعتباره لحظةً خاصةً في الوجود. إن الصورةَ (واللوحةَ أيضًا) «تستنفدُ كل ممكنات النظرةِ في الحضور، ولكنها في الوقت ذاته تفتحُ السبيلَ أمامها نحو غيابٍ، إنها تستثيرُ الوعيَ وتُوجهُه نحو مكان آخر لا حضورَ له»(27). فلكي تَتشكلَ النظرةُ في العين، عليها أنْ تستحضرَ الغائبَ في اللوحةِ.

وهذا هو الفاصلُ بين اللفظي والبصري في استحضارِ التجربةِ الوجوديةِ. فالصورة على عكس اللغة لا تتكلم عن نفسها، إنها تمثلُ دائمًا شيئًا يوجدُ خارجها، بالحقيقةِ الماديةِ أو بالاستعمال الاستعاري. إنها «تدل» و«تعني» و«توحي» و«توهم». وذاك ما يُحددُ طاقاتها التعبيريةِ. إنها «بحكمِ وضعِها هذا هي ما يُمكنُنا من إنتاج، ضدًّا على إرادتِنا، الشرط الضروري لكينونتِها الملتَبسَة، المتمثل في المعنى»(28). إنها جزءٌ من الحجمِ الإنساني الذي يُعبر عن نفسهِ في مضافاتٍ رمزيةٍ منها اللغة والصورةُ والطقوس الاجتماعية ومجموعُ الاستعمالات الاستعارية لأشياء محيطه. إن الصورة ذكرى في الوعيِ يجبُ أن تُحيلَ على حالة انتظارٍ لن يكونَ سوى معنى المنشود مما تَقومُ بتمثيلِه.


هوامش:

(1) A Kibedi Varga: Discours, récit, image , éd Mardaga éditeur, 1985, p. 8.

(2) Rudolf Arnheim: La pensée visuelle, éd Champs Flammarion, 1975, p. 9.

(3) نفسه، ص 10.

(4) Laurent Lavaud: L’image, p. 16.

(5) سعيد بنكراد : التأويل وتجربة المعنى، المركز الثقافي للكتاب، بيروت 2023م ، ص 12.

(6) Kibédi Varga : discours, récit , image, éd Pierre Mardaga éditeur, 1985, p. 7.

(7) الوضعة جميع وضعات pose في الفوتوغرافيا. ويميز الفوتوغرافيون بين ثلاث وِضعات: وِضعة أمامية، ووِضعة جانبية، ووِضعة خلفية، وهناك من يضيف وِضعة ثالثة هي وِضعة الثلاثة أرباع. انظر كتابنا : تجليات الصورة، في سميائيات الأنساق البصرية، المركز الثقافي للكتاب، بيروت 2019م الفصل الرابع.

(8) Groupe µ: Traité du signe visuel, pour une sémiotique de l’image, éd Seuil,1992,p.130 objet culturalisé.

(9) classe d’objets.

(10) Jean Paul Sartre : L’imagination, éd P U F , 1989,p. 1.

(11) Laurent Lavaud: L’image, p. 15.

(12) Philippe Jacottet: Paysage avec figures absentes, p 17,in Laurent Lavaud : L’image, p. 15.

(13) Jacques Aumont: L’image, Armand Colin,2011, p. 37.

(14) Maurice Merleau-Ponty :Phénoménologie de la perception, éd Gallimard 2005, p. 96.

(15) Laurent Lavaud: L’image, p. 20.

(16) Laurent Lavaud: L’image, p. 20.

(17) Laurent Lavaud: L’image, p. 16.

(18) Laurent Lavaud: L’image, p. 13.

(19) Laurent Lavaud: L’image, p. 13.

(20) Laurent Lavaud: L’image, p. 14.

(21) Laurent Lavaud: L’image, p. 13.

(22) Emanuel Levinas: Totalité et infini, essai sur l’extériorité, éd Kluwer Academic,1971, p. 207.

(23) Jean Pal Sartre: L’imaginaire, éd Gallimard, 1940-1986 ,p. 20.

(24) Jean Pal Sartre: L’imaginaire, op cit ,p. 21.

(25) Corbeille de fruits وكارافاج فنان إيطالي اسمه الكامل Michelangelo Merisi da Caravaggio ولد سنة 1571 وتوفي سنة 1610.

(26) Vultur Iona: Comprendre , L’herméneutique et les sciences humaines,Gallimard,2017,p. 437.

(27) Laurent Lavaud: L’image, p. 16.

(28) René Lindekend: Essai de sémiotique visuelle( le photographique, le filmique, le graphique, éd Klincksiek , 1976, p.11.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *