قررت لجنة الاختيار لجائزة الملك فيصل للغة العربية والأدب حجب الجائزة هذا العام 2025م، وموضوعها: «الدراسات التي تناولت الهوية في الأدب العربي»؛ نظرًا لعدم وفاء الأعمال العلمية المرشحة بمتطلبات الجائزة. أما جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام، فسيُعلَن عن الفائز في نهاية...
المقالات الأخيرة
الكتب: صحبة رائعة جميلة الهمس
يرى بعضٌ في الصداقة تبديدًا للوقت وخيبة قادمة، تأتي بها مناسبة وتدفنها أخرى، فإن بقيت واستدامت كان ذلك من صدف الحياة السعيدة.
الذين يرون في الصداقة الحقة وهمًا سائرًا إلى الزوال، يسألون الحياة بدائل جديرة بالثقة، دافئة يلازمها الأمان، لا تستدعيها مصلحة ولا تقوضها خلافات عارضة، كأن يقع الإنسان على ربوة يرقُب منها غروب الشمس وفتنة المساء، ويعود إلى بيته راضيًا، أو أن يصطفي الزمن لا المكان ويختار صحبة الخريف، ذلك الفصل الحزين المتوج بالصفرة، يلازمه رهام في مطلعه ويصيبه البلل إن تناقص عمره وداهمه الشتاء.
عين الكتاب وأهله وبطنه
كان معلم لنا في الصف الرابع الابتدائي يقول: وخير صديق للإنسان كتاب. ويسألنا: لماذا؟ ويجيب قبل أن نجيب، ويطلب منا أن نوافيه بما نجيب بعد أيام. كان يبرهن على صحة قوله بجمل واضحة لاحقة: الكتاب صديق وفيّ لا يمكر ولا يخادع لا يشي ولا يكتب «للأمن تقارير مؤذية»، والكتاب صديق طويل العمر لا يهجرنا ولا يمل صداقتنا ولا تعافه نفوسنا، إلا إن كنا حمقى ونحتفي بالجهل، والكتاب نظيف اللسان ويهذب لساننا إن شابته البذاءة، والكتاب أنيس صادق ثابت في صدقه، قد يتغير غلافه ولا يبدِّل بما يقول به، وقد يشيخ وتهترئ أوراقه ويحافظ على ما جاء فيه. كأن الكتاب عابر للأيام وللأزمنة، تتجدّد طبعاته ولا يصيب قوله خلاف أو اختلاف، زاهد الطبع نقي السريرة لا يعبأ بتداعي أوراقه ولا يكترث بسقوط غلافه، حال إنسان متكامل الشخصية يصدر فكره عن ذاته ولا يستقيه من أفراد عارضين.
كان معلمنا يُنهي نصائحه بجملة: التلميذ النجيب يحافظ على كتابه كما يحافظ على عيونه. مفترضًا أن الكتاب عين ثالثة، إذا وقع عليه إهمال أصيب بالرمد وغبش الرؤية. ولأنه عين رائية فرمده يحجب بصر الإنسان عن العالم، ويضيّق النظر والفكر معًا. فالإنسان بلا بصر كتلة من الهمود والضياع، مخلوق معتقل يحاصره العماء، كما أشار طه حسين في بداية كتابه «الأيام»، حيث قال، وأقرِّب الآن كلامه تقريبًا: كان يصدني إن حاولت التقدم إلى الأمام سياج شائك كما لو كان مبتدأ الوجود ومنتهاه، أو خوفًا عاقلًا يخشى الحمقى من البشر وبرودة الهواء.
غير أن معلمنا الناصح، قصير القامة، كان يربكنا نحن الصغار حين يقول: «أهل الكتاب» فنظن أن للكتاب، مهما تكن صفاته المتخيّلة، أبًا وأمًّا غريبين، لا أثر لهما في صفحاته، ولم يقع عليهما نظرنا في المدرسة أو في الحارات والأزقة. وحين نُعرِب له عن حيرتنا يجيب: قريبًا تعرفون مقاصدي، وكانت مقاصده دائبة التأجيل. وكانت حيرتنا أوسع اضطرابًا حين تسمع صدفة تعبيرًا غريبًا: «في بطون الكتب»، نحن التلاميذ الذين نجهل أن للكتاب معدة وأنه يأكل ويشرب ونسأل عن بلل أطرافه حين يحتاج الماء والسوائل…
بعد عقود عدة، أو بعد أن جرت تحت الجسور كثير من الأنهار، كما يقول الأدباء، أدركتُ، جزئيًّا، معنى: صحبة الكتب، التي لا تأتي عن وفاق وحوار، بل عن أسلوب جميل منتقى الكلمات، يطربنا ونستعذب طربه، وإن كان طربًا من نوع خاص، يفيد في تهذيب اللسان ودروس الإنشاء، يغاير صوت محمد عبدالوهاب وهو يغني: «مضناك جفاه مرقده»، وعذوبة غناء أم كلثوم وهي تجود الإيقاع في أغنية: «على بلد المحبوب وديني»، التي لحنها رياض السنباطي لفنانة حديثة المنشأ، مغمورة، وسطت عليها لاحقًا «كوكب الشرق» انطلاقًا من القاعدة الأبدية: الصوت الأعلى يصادر الصوت الأدنى، والذي يملك يُخضع الذي لا يملك ويختلس الجميل الذي وافاه صدفة!
عناوين شاكية تكسوها ظلال قاتمة
إلى جانب طرب الأساليب كانت هناك جمالية العناوين والشخصيات الروائية، أكان من الصياغة أو من صفات ومآلات حزينة. بل إن إقبالي على قراءة، بعض الكتب كان باعثه أولًا العنوان، مثل: «حصاد الهشيم» لإبراهيم عبدالقادر المازني، ذلك المصري الساخر الذي تأسّى على مصير فلسطين، أو «وحي القلم» لمصطفى صادق الرافعي، الذي منعه المرض مبكرًا عن إكمال دراسته، و«تحت ظلال الزيزفون» التي أخذت لدى المنفلوطي عنوانًا باكيًا: «العبرات»، وهناك «لقيطة»، عنوان رواية ميلودرامية لمحمد بعدالحليم عبدالله، و«العين ذات الجفن المعدنية» للمصري شريف شحاته، وهناك «أفول القمر» رواية الأميركي جون شتاينبك…. كانت جميعها عناوين شاكية، تكسوها ظلال قاتمة، تلبي نزوعًا شبابيًّا رومانسيًّا يلاحق التأسي ويقتصد في مداعبة المسرة.
جاءت صحبة الكتب، أحيانًا من حوار طويل مع شخصيات لم يكن معها الزمن عادلًا، انزاح فيها الحوار من الأسلوب إلى شخص لاحقه سوء المآل وقاده إلى مقبرة، أو حمله على شكوى كسيرة تجرح الروح وتوقظ دموع العين. وكثيرًا ما كنت أتكلم مع هذه الشخصيات، أواسيها، وأخفّف عنها أحزانها، وأُكْثِرُ من الحديث عنها كما لو كانت من «أهل البيت» أو فيها أطياف صديق عزيز رحل قبل الأوان.
أذكر في هذا المجال صديقين مختلفي الشكل والوعي والنهاية، كان لهما في البداية أحلام مشتركة وتكفّل القدر بإلغاء الأحلام وترحيل أحدهما عن الحياة وهما: ليني وجورج، في رواية شتاينبك «رجال وفئران»، أحدهما ضخم كجبل ضعيف العقل والتدبير، وثانيهما قليل القامة عهد إلى ذاته بحماية الأول من طيشه ورغباته المأفونة. توازعا رغبة امتلاك مزرعة متقشفة، تلحقهما بالطبيعة وتضع الطبيعة فيهما، يغسلهما الهواء المنعش ويلهو «الجبل» منهما مع الأرانب وجداول الماء إلى أن وضعت الصدفة في طريقه، وهو الذي يتعثر بظلّه، امرأة مغناج متزوجة فتحت له طريق السفر إلى الموت.
ما لا تأتي به الحماقة وحدها تسهّل الصدفة له القدوم المميت، حال «غاتسبي العظيم» في رواية سكوت فيتزجيرالد الشهيرة، و«سعيد مهران» في رائعة محفوظ «اللص والكلاب»؛ إذ اللص مخلوق من البراءة والحاجة، والكلاب قوم جشعون يدّعون البراءة. وعلى خلاف جورج شتاينبك الذي تُلجئه الصداقة الصادقة إلى حسم حياة صاحب أحمق، فإن صديق «مهران» مثقف كاذب متسلط أفّاق يبشر بفضائل تستقدم الموت وفزعًا ممضًّا يسبقه ويتلوه. فالمثقف الذي يصلح حياة البشر، كما تخيل الإيطالي أنطونيو غرامشي، يتحول في رحاب السلطة المستبدة إلى فاسد فصيح اللسان، تطلق مصلحته الذاتية النار على البراءة والأخيار من البشر.
رواية جديرة بالصداقة
سعيد مهران في رواية «اللص والكلاب» مخلوق بسيط، قوّضته حياة متناقضة، تعد وتخلف، تعد بالبشائر والدفء الحميم وتصدم الصادقين، إن رفضوا السلطة المتسلطة، بوابل من الرصاص يقود إلى «المقبرة» التي تبدو، في ساعات الأسى المتأمّل، فراشًا مريحًا عامرًا بالراحة والأمان. سردت الرواية الفرق المأساوي بين «المتسلطين» الذي يحسنون الكتابة وهؤلاء البسطاء الذين يهجسون بالحقيقة، كأن قلوبهم تعلّمهم القراءة بلا معلم ولا لقب، تنير لهم أضواء عيونهم طرق الحياة، يحاذرون الخديعة ويقعون فيها إعلانًا عن «شر الوجود» المحصن بأرتال من المخبرين والمثقفين الفاسدين.
رسم محفوظ المغترب القتيل وهو يتابع مجتمعًا استهلكه خوفه، وقدرًا أعمى حاصر المغترب البريء، الذي أوصلته «دناءة» صاحب نَتِن إلى السجن إلى فترة كاوية أفقدته امرأة عشقها لم تحفظ المودة، وابنة ساوى بينها وبين معنى الحياة البهيجة. أقام السارد من الصفحة الأولى، تقابلًا بين العالم الخارجي المتجهم الجدران، وعالم السجين الداخلي المسوّر بكوابيس قائمة وقادمة، وبرغبات مشتعلة تحوّلت إلى يباب.
رأيت، وأرى، في سعيد مهران صاحبًا وفيًّا إلى اليوم، أُعجَب بتمرده، وبدفاعه عما يؤمن به إلى النهاية. وغدت «اللص والكلاب» أيضًا رواية جديرة بالصداقة، أُرشد إليها الأصدقاء، وهي مع رواية «الحرافيش» أرفع ما كتب محفوظ مقامًا، ومرآة هي لمصير الشر المنتصر والخير الإنساني القتيل، بل إنها المعيار الأدبي، الفني، الذي أقيس به الأعمال الروائية العربية العالية القيمة. تلك التي تتهم السلطة بتدمير الإنسان الطيّب، وترى انتصار الخير احتمالًا رقيق الأركان، فالشر له أسنانه المهلكة وأظافر المستبدين دائمة المقاومة.
ما رجعت إلى «اللص والكلاب» يومًا إلا وتذكرت «تعساء الشعوب المظلومة» الذين كلما طالت أعمارهم طالت عذاباتهم، كشخصية تعيسة في رواية غالب هلسا، «الخماسين»، التي هَصَر الجلاد ضلوعها في سجن رطب ضيّق المساحة، فصرخت وأمعنت في صراخ يهرب من النوافذ ويستجير بالهواء ويتسلق حبال المطر إلى أن يحط أمام «السماء السابعة» ويندفع في نشيج طويل. وأذكر وأنا أصغي إلى بكاء الضحايا جملة التلميذ المطارد في رواية جمال الغيطاني الكبيرة: «الزيني بركات» الذي كان في جروحه ما يقول: «اقتحموني وحطموا أسواري» قاصدًا جلادين متوجين بالهزيمة والهوان، يستبسلون على شعوبهم ويلوذون بالصمت أمام الحشرات القارضة.
الكتابة أرشيف عظيم
حين سألت الراحل غالب هلسا عن نهاية الضحية في روايته، أجاب بعد صمت: نجا من السجن وفقد القدرة على النطق، أو هكذا بدا، قاطع البشر، أو ما يشبههم، منذ خطت أقدامه الخطوة الأولى خارج السجن. السجن لدى بعض الشعوب عقاب وتربية، تعذيب وتلقين، يعلّم الإنسان أصول السلامة الذليلة ويدرّب لسانه على الصمت المهين، كما لو كان الإنسان يُختصر إلى وظائف بيولوجية بسيطة تعفيه من الكلام العاقل، الذي تعترف به شعوب سعيدة تعترف بحكّامها، راضية، ويعترف بها حكامها دون حاجة إلى «آلات التأديب» وأفواج العسس.
قابلني الراحل جمال الغيطاني ضاحكًا حين سألته عن مصير التلميذ الجامعي الذي اقتحمته «حشرات السلطة»، فأجاب: هذا هو «إنه أمامك الآن حيٌّ يسعى». واجهته بسخرية مقابلة قائلًا: وكيف حصل هذا يا صاح؟ رد عليَّ بكلمات تداخل فيها الصبر والإرادة والاستنجاد بالرحمن و«أهرامات الفراعنة»، التي طاولت الموت وألحقت الموت بآلاف المصريين. والسؤال المضمر، المعلن: كيف وصلت إلينا أخبار الأهرام وأخبار بُناتها، هؤلاء المبدعون والضحايا معًا! وصلت إلينا عن طريق الكتابة الفنية؛ إذ في الفن ما يقاوم الموت، مثلما أن الكتابة أرشيف عظيم، يبني ذاكرة واضحة ويرمم ذاكرة ترهقها الحياة.
سؤال: إن كانت الروايات ترثي الصداقات، قصيرة كانت أم طويلة، فكيف تعامل الحياة الصداقات المختلفة الأعمار؟ ترسم الروايات فراق الأحبة مؤكدة الأدب شهادة على الزمن ومصائب الإنسان، فكل أدب حقيقي يطوف في أرجاء المأساة الإنسانية. أما الحياة والمعيشة فلها تنوعها الموزع على ما يسر وما لا يسرّ، كأن يكتب غوته «آلام فيرتر» وفولتير عمله الجميل «كانديد»، الذي أخذ منه الفلسطيني إميل حبيبي عمله الجميل «مغامرات سعيد أبي النحس المتشائل». وأن يخلّف لنا الجاحظ كتابه «البخلاء»، الذي يرى فيه بعض المستشرقين صفحة مشرقة من صفحات الأدب العربي.
في الأدب، الموزّع على أنواع متعددة، ما يحفظ سِيَر بشر رحلوا ولم يرحلوا، أخذهم الموت وحافظ الأدباء على بقائهم في الذاكرة وسجلوا مفاجآت جاءت وانطفأت وعلى خلاف ذلك تخلط الحياة أزمنة كثيرة وتستبقي مفاجآت قادمة وتسرد بدايات صداقات لا تزال تسير بيننا. هل هناك تنافس بين قوة الأدب وسلطة الحياة، أيهما يتفوّق على الآخر؟
إن وجوه الحياة المتجددة تتفوق على الجميع، تستولد حكايات نعرفها وأخرى غريبة نقرأ عنها في الكتب مثل حكايات «تاي، تاي»، في رواية أرسكين كالدويل «فدان الله الصغير»، حيث نقف أمام عشرات أكوام من التراب حفرها إنسان اعتقد أن أرضه مليئة بالكنوز. وما عليه إلا أن يستنفر عائلته لتعمل معه كي يعثر على ذهب يبقيه غنيًّا إلى الأبد.
هل تتفوق وقائع الحياة، المتعددة المتنوعة، على خيال الأدب، الذي يتحدث عما وقع وعما يمكن أن يقع وعن أشياء لن تحصل أبدًا!
المنشورات ذات الصلة
لم يتم العثور على نتائج
لم يمكن العثور على الصفحة التي طلبتها. حاول صقل بحثك، أو استعمل شريط التصفح أعلاه للعثور على المقال.
0 تعليق