المقالات الأخيرة

جائزة الملك فيصل تحجب جائزة «اللغة العربية والأدب» وموضوعها «الدراسات التي تناولت الهوية في الأدب العربي» لعدم الوفاء بالمتطلبات

جائزة الملك فيصل تحجب جائزة «اللغة العربية والأدب»

وموضوعها «الدراسات التي تناولت الهوية في الأدب العربي» لعدم الوفاء بالمتطلبات

قررت لجنة الاختيار لجائزة الملك فيصل للغة العربية والأدب حجب الجائزة هذا العام 2025م، وموضوعها: «الدراسات التي تناولت الهوية في الأدب العربي»؛ نظرًا لعدم وفاء الأعمال العلمية المرشحة بمتطلبات الجائزة. أما جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام، فسيُعلَن عن الفائز في نهاية...

المرأة والفلسفة… قضية منجز أم قضية ثقافة؟

المرأة والفلسفة… قضية منجز أم قضية ثقافة؟

يُعَدُّ حقل الفلسفة من الحقول المعرفية الجدلية بالغة التعقيد؛ ليس لأنه يفتح مجالًا واسعًا للمقارنة بين منجز الرجل ومنجز المرأة، وإنما لأنه من الحقول النخبوية الشاقة في عالم الفكر وصناعة المعرفة، نظرًا للنُّدرة التي نلحظها في نسب المتفردين والمؤثرين المشتغلين فيه،...

الفلسفة وإعادة التفكير في الممـارسات الثقافيـة

الفلسفة وإعادة التفكير في الممـارسات الثقافيـة

من الممكن القول في ضوء المشكلات التي تطرحها الدراسات الثقافية، بأن الفلسفة الآن، تنتسب للممارسات الثقافية، بل كأي نص آخر من النصوص الأخرى المتعددة التي تنشغل بها الدراسات الثقافية، وفق المفهوم الجديد للثقافة بوصفها «جملة من الصفقات والعمليات والتحولات والممارسات...

اللغة والقيم العابرة… مقاربة لفك الرموز

اللغة والقيم العابرة… مقاربة لفك الرموز

القيم تَعْبُرُ المجتمعات والثقافات (= عبور عَرَضي)، وهي أيضًا تعبر الأزمان والأوقات (= عبور طولي). هذا العبور مَحُوطٌ بالعديد من الأسرار والإشكاليات من جهات تأسيسية عديدة، ومن تلك الجهات دور اللغة. وفي هذا النص المختصر، نقدم مقاربة مكثفة للإجابة في قالب أولي عن هذا...

الصورة: من المحاكاة إلى البناء الجمالي

الصورة: من المحاكاة إلى البناء الجمالي

يعد اللسان أرقى أنساقِ التواصل وأكثرَها قدرةً على وصف وتأويلِ ما يأتي من المنافذِ الحسية، فلا يُمكننا استخراج القواعدِ التي تحتكم إليها منتجاتُ هذه المنافذ، في اشتغالها وفي إنتاجِ دلالاتِها، إلا بالاستنادِ إلى ما تَقولُه الكلماتُ عنها. إن اللسان يُعين ويسمي ويَصف...

فوزية أبو خالد: لم يزل الماء- الطين طريًّا بين أصابع اللغة

قراءة تأويلية في تجربتها الشعرية

بواسطة | يناير 1, 2025 | مقالات

بعد أن قرأت الأعمال الشعرية الكاملة لفوزية أبو خالد، كان لا بد أن أبحث وأقرأ عن كل ما كُتِب عن تجربتها أو ما وصلت إليه من كتابات نقدية عنها. هناك مراجعات نقدية جيدة لسعد البازعي وأهمها في كتابه: «جدل التجديد»، وكتابات لشاكر النابلسي وأخرى لغالية خوجة وميساء الخواجة والدكتور محمد الشنطي، إلا أن الأعمق في توسعها واستقصاءاتها وبصيرتها في ظني، هو ما كتبه صديقنا المشترك الشاعر الراحل علي الدميني الذي وصفته فوزية في قصيدة لها (بالقرين) وصفًا دقيقًا كأنها كانت ترسم بورتريهًا له من ماء وطين لُغتِها:

«شرس كشكٍّ/ حنون كحبو الشعر/ عاشق كقيس/ محنك كحكيم/ … يقاسمني معاصي القصيدة/ أهرّب إليه هزائمي الصغيرة…».

جاءت مراجعة علي الدميني النقدية المطولة في كتاب صغير في حجمه عميق في إحاطته لتجربة شعرية كبيرة في المعنى والمبنى والموقف والتاريخ بعنوان «شجر الأغاني»، وتعدّ من أدق وأعمق وأشمل المراجعات التي تناولت تجربة فوزية أبو خالد المميزة في سياق تطور تفكيرها الشعري وزمنيته ومراحله الفنية، ولم تنقصها الحميمية الوجدانية ولا البصيرة الفنية الواعية في آن، ليس لأنّ الشاعر عليًّا ناقد بالموهبة والخبرة والمراس، بل لأنه كتب بوعي تاريخي وجمالي رفيع المستوى فاق معرفته بالشاعرة من قرب، وتخطى في مقارباته اللامعة حدود هذه المعرفة وزمنيتها ومحايثته لسياق تجربة الشاعرة، إلى بواطن الوعي اللغوي المبكر المرهف والتفكير الشعري التأملي المتجدد اللذين امتازت بهما فوزية أبو خالد في منجزها الشعري.

ولعلي في مقارباتي النقدية هنا أحاول استكمال ما بدأه علي الدميني متفقًا معه في كثير من استنتاجاته والتقاطاته النقدية وملحوظاته اللامعة، مضيفًا في السياق المنهجي والرؤيوي نفسه أبعادًا أخرى ومقاربات تحليلية وزوايا التقاط فنية ورؤى مختلفة في قراءة النصوص في الشكل والمحتوى والتشكيل الخطابي.

خطاب البدايات

كتبت فوزية أبو خالد نصوصها في ديوانيها «إلى متى يختطفوكِ ليلة العرس» و«قراءة في السر لتاريخ الصمت العربي» بلغة شعرية طازجة ومبكرة، مشغولة برؤية عالية الحساسية مؤسسة لنموذجها الواقعي التركيبي مزاوجةً بين الواقع المعيش، الإنصات إليه، ونقده برهافة لغوية لا تنقصها الرومانسية الثورية المنفعلة والمتفاعلة، وبين الإحساس والتفكير الشعري في صبوات الذات الحالمة.

والديوانان لا يخلوان بالطبع من حماسة خطاب البدايات، وبكارة الوعي الشعري والفكري وتفاعلاته المتعددة. وقدرة الشاعرة المبكرة لاجتراح رؤية وشكل فني أقرب إلى الكلاسيكي الحداثي المتناغم مع اللحظة الشعرية. من خلال هذا الوعي، استطاعت الشاعرة أن تؤسس لها خطابًا شعريًّا متقاطعًا فيما بين ثلاثية الثقافي والاجتماعي والسياسي كمداخل للتعبير عن القضايا والهموم القومية والوطنية الكبرى، وحافظت قصيدتها في هذين الديوانين على أخلاقيات الالتزام الواقعي متحررة من دوغمائية لغته ومباشرتها، فكان اهتمامها بالمضمون السياسي والاجتماعي ومبادئ الحرية والعدالة نسقًا في الوعي الشعري ونسغًا حيويًّا خاصًّا، تفردت به شعريتها، ولم تتحول عنه كليًّا في تجربتها اللاحقة، إلا أن هذا النسغ الرئيس ظل يسري تحت طبقات القول في صوتٍ أكثر خفوتٍ، وأهدأ خطابيًّا. وما نقرأ هنا في هذا النص «وجع المنجل في خاصرتي» يتبدى لنا في خطابية غنائية كونية يجتاحها وجع التاريخ كله في خاصرتها:

«كانت خاصرتي خارطة لوجع العالم/ كانت خاصرتي تضمر وتضمر حتى تصير سيزيف في سطح القمة/ حتى تصير نملةً على مرمر حسناوات البحر/ حتى تصير نحلةً تتكمّش برئة زهرة».

ثم يتبدّل خطابها ليصبح خطابًا حلميًّا ذاتيًا مفعمًا بهواجس الروح والحب في شكلٍ شعري زاخر بالاستعارات سكبته الشاعرة في قالب نثري يقترب من التفعيلي فتعمّقت غنائيته وتعتّقت:

«وعندما تعرفت عليك في لون عيوني/ رفت في خاصرتي وردة بيضاء/ أورقت فلم يستحوذها المشتل/ وامتدت تغيب الأسوار/ تحضر غياب النهار/ تشعل الموقد بالشائخ من الأشجار/ عندما تعرفت عليك في مجرى نزفي/ أصبح بياض الوردة غبش الفجر في كوى السجون/ في وسن العيون».

وفي نص آخر «القتل بظهر الشفرة» يمتزج في الخطاب الشعري لفوزية ذلك العناق بين الغنائي/الحلمي/الكوني في سبيكة لغوية واحدة، تعتصر الشاعرة مآسي التاريخ وبذخه غربًا وشرقًا في كأس عظيمة واحدة من الرحيق الشعري تلتمع في كريستالاتها مجوهرات إليزابيث ورخام شاه جيهان، ويصطخب في قاعها أحياء المنبوذين والجياع والمغضوب عليهم:

«أدخلتني عيناك سجن الباستيل/ وأنا أريد حدّتها أن تكون المقصلة/ أدخلتني حركات أصابعك المبعَدة المدنية/ ملفات قضايا الشرق/ وأنا أريدها أن تغرسني بتوابل وبهارات وسيوف الشرق».

وفي آخر النص تطلب من حبيبها بعد أن رأت هذا كله من خلال عينيه:

«أريدك أن تدخلني نزق المدن المحنو عليها/ المدن الثائرة على أسوارها القديمة»

فأي مدنٍ ثائرة تبقّت يا فوزية وقد تهدّمت الأسوار، وصارت أطلالًا وخرائب وأزمانًا متشظية في بكائياتها.

انتماءات لا محدودة

في القصيدة الأولى من ديوانها الأكثر نضجًا وخصوبة «قراءة في السر لتاريخ الصمت العربي» تعلن الشاعرة انتماءاتها في أطيافها غير المحدودة وتطلق في إشارة فنية مجازية إلى أنها بدوية جاءت من الصحراء: «طلعت من منابت القبيلة التي تعيش على السيف»، ومدنية عرفت الترحال واختلطت بكل أطياف البشر: «أو من رحلة الشتاء والصيف/ أو من جذور اللون في حرائق الطيف».

صور هذه الانتماءات امتدّت إلى شرق الجزيرة ومعاناة عماله ومثقفيه عبر ذاكرتها المغبشة:

«ذاكرتي مغبشة/ مثل زجاجة نظارتك الطبية/ في غرفة التحقيق/ مثل عيون العمال/ في الظهران أو أبقيق…». وتنتقل بهذه الانتماءات إلى انتمائها العاطفي لقريناتها من النساء وانتمائها الجسدي في الآن ذاته لرجلها البدوي الذي لا يقل جفافًا وقسوة من المكان ذاته:

«وفي جسدي/ ذقت في الحب معك/ كل صنوف الغنج/ والتنكيل التي تلقاها/ نساء الضيم في بلدي».

محاصرة مثلهن يموت السؤال في مواجهة ثقافة وحضارة الهزائم اليومية مذبوحًا داخل جغرافية حصاره التاريخي: «من يلوم الخنجر/ إذا ضاقت عليه/ مساحة الجدران/ والغُمدُ».

ويرتفع حسها القومي وتقول في غنائية شعرية عالية الشجن وممزوجة بالذكرى والروح والأمل المصيري المشترك: «أذكر كيف التقينا/ التقينا في الغضب/ التقينا في حريق التفاح واليانسون والعنب/ عند مطلع الحريق التقينا/ في عام الزعتر التقينا/ عرفت في كبريائك العلامة الفارقة/ الخطر والشعوب المغلوبة/ تغير قدرها/ تصير مارقة».

ويمتد لدى الشاعرة حسها القومي الرهيف ليصل إلى ذروته في قصيدتها الحارقة بوجع الغياب ودمع اللغة «معين»، التي تجلّت فيها لغتها الباكية المكتوية بضميرها الشعري المجروح والمستقطع من ضمير المقاومة الفلسطينية وفرح انبثاقها التاريخي. هي غنائية فلسطينية بمنزلة تعويذة للحضور الغائب/ غياب الشاعر معين بسيسو، يطغى على لغتها الحس الوجداني ويصفو على بحيرة الوجع الفلسطيني:

«من أين وإلى أين/ وقد انتميت إلى كفر قاسم مرة/ وانتميت إلى صبرا وشاتيلا مرتين/ مرة يوم ناديت القصائد وكتبت بالغيم/ ومرةً يوم عبرت جثتك على أكتاف العطاشى من النيل/ إلى الرافدين…».

وتختم الشاعرة نصها المتقن في الشكل واللغة والموقف فتسقط سؤالها المشتعل من أتون حريقها الداخلي وتنثره على جسد معين، تعاتب الروح التي لم تزل معلّقةً على مبكى الحصار والقصيدة:

«كيف أعطاك قلبك أن تقول لساعة الموت حيني/ كتبت قصيدتك الأخيرة على مبكى الحصار/ ومتّ موتًا فلسطيني/ تنفرط عيون ألزا على ترابك الآن/ عقدًا من البارود ومن الياسمينِ».

كأنها تعني أن «موت فلسطيني» هو حضور أبدي يظل يقاوم الحصار والاحتلال منثورةً عليه كل لؤلؤات العيون العاشقة وياسمينها.. وتحفّه الأشواق المذبوحة.

تجربة مغايرة

وأنا أنتقل إلى تجربتها الشعرية الأخرى المغايرة التي ابتدأتها من ديوان: «ماء السراب» وجدت من الضرورة النقدية بمكان أن أعبر «بين الرغيف وبين الشهادة» هذه القصيدة الملحمية التي كتبتها شاعرتنا كمرثية عذبة عن أبيها عبدالله، فجاءت سيرة ذات شعرية على زمن لا يتكرر
وعلى شخصية تنتمي إلى أسطوريتها الخاصة، وقدرتها على تحمّل العذابات والصعاب:

«كان يشرب القهوة المرة مبهرةً بالهيل والزعفران كل صباح/ ويقول: ها قد استفتحنا النهار/ ويتمتم بصلاته اليومية/ لا يفلُّ النار إلا النار/ الجار ولو جارَ/ الدار ولو سقط علينا الجدار».

تطل قسمات أبيها هنا خالية من كل الشوائب والمراوغات، صلب لا ينحني كنخلة في تراب الأحساء منتمٍ للمكان والألفة يملك عقلًا كونيًّا وفكرًا يقظًا طليقًا:

«يتطلع إلى الأفق/ يحسب كم بقي من العمر لعودة السنونو المهاجر».

والسنونو هنا له دلالة رمزية في الحقيقة فهو يعدّ طائرًا «مقدسًا» مهابًا له زغرودة ناعمة، وهو الذي قيل عنه: إنه يحقق التوازن الطبيعي بتنظيفه للبيئة من كل الهوام والحشرات الطائرة، كأنه مبيد طبيعي. وفي مقطع من النص يوصيها أبوها بشيء واحد له رمزيته التاريخية، وهو حب الوطن وأهله وكل الصابرين في البأساء: «أوصيكِ بشيء واحد/ لا تخوني النخل والخِلّ الوفي ولا تخذلي الصبار».

بدءًا من ديوان «ماء السراب» غادرت الشاعرة نموذجها الشعري الواقعي الموضوعي الذي كتبت به قصائدها في ديوانيها الأولين، واقترحت فنيًّا نموذج قصيدة النثر في كليّانيته الجمالية شكلًا وتخييلًا ولغةً وموسيقا داخلية ومضمونًا وإحساسًا بالزمن؛ نتيجة لتغير أشكال وعي ذات الشاعرة وسيولة الزمن وحركيته من حولها.

فزمن السبعينيات والثمانينيات الذي خلقت أحداثه وهمومه، أشكال وعيه الأدبي والفني غيره زمن التسعينيات وما بعده، الزمن الذي انكسر فيه الحلم القومي بالنهوض إلا قليلًا، وأصيب الحس الثوري بوهنٍ أيديولوجي مترهل، ويأس كبير من وعود الحاضر. إلا أن قصيدة النثر بطاقتها اللغوية وإمكاناتها التعبيرية الواسعة وتكثيفات لغتها، هي الأقدر على استيعاب هذه اللحظة المنكسرة عربيًّا واهتمامها العميق بالتفاصيل الصغيرة وغير المرئية، كما لقدرتها التعبيرية على المراوغة التخييلية ومقاربة الانفصال والاتصال في الزمن في قوالب تشكيلية تبقي على جذوة حرارة اللحظة الشعرية وجمالياتها في سياق تركيبي رؤيوي يخلو من المباشرة والتماهي الواقعي، أو التحليقات الرومانسية، ولا تخلو من الدلالات الكامنة تحت طبقات القول والتشكيل.

بمعنى أن مرحلتها الجمالية الشعرية الجديدة والمغايرة استؤنفت في كل الدواوين الشعرية التي جاءت بعد «قراءة في السر»، فغادرت ذلك التاريخ الجمالي الخصب الذي استمرّ من سبعينيات القرن الماضي حتى نهاية الثمانينيات. تلك الحقبة الزمنية كانت معين التجربة الشعرية لفوزية أبو خالد، يستمد عصبه الرئيس من حمأة المشاعر الوطنية والقومية، ومن حركة المجتمع الفكرية والسياسية والاجتماعية، ومن أتون الأحداث الساخنة، ومن جدلية القلم والرصاص في انغماسهما في اللحظة الفلسطينية الناهضة بامتياز. بمعنى أن مداخل الشعر إلى القضايا الكبرى وطنية أو قومية تحوّل الاهتمام بها واستعيض عنها في السياقات الكونية وانفتاح فضاءاتها في لحظتها الحضارية الأكبر والمتأزمة بمداخل البعد الذاتي والإنساني، وليس عبر اللحظة الآنية المباشرة ووعيها الإقليمي الضيق.

يقول الشاعر المصري حلمي سالم في كتابه «التجريب: قوس قزح»: «الرؤى الشعرية الجديدة لقصيدة النثر قد تخلّت في غمار تجاربها المتعددة عن المداخل القديمة المعتادة للقضايا الكبرى»، ويؤكد «أن شعرًا يخلو من القضايا كبيرها أو صغيرها، هو لا شعر…». فالشعر الحقيقي في نظري لا يخلو من قضية جوهرية أو كونية، وشعر فوزية أبو خالد فيما بعد ديوانيها الأولين، ظلّ في حالة إصغاء إلى زمنه الجديد ونبض إيقاعه، ولم يخلُ من التماس مع قضاياه وهمومه الرؤيوية وجدليته مع الإنساني والذاتي، إلا أن حالة الإصغاء هذه انتقلت من القضايا المباشرة الكبرى إلى قضايا وهموم (الذات الجمعية)، وتفاصيلها الصغيرة والحميمة؛ لأن مستوى التفكير الشعري وتحولات الشكل الفني وأساليب التعامل مع تكثيف اللغة واختزالاتها تطلّب مستويات مغايرة من القضايا واشتباك فكري جديد يجيد الإحساس بها والتفاعل معها.

شذرات مكثفة

كيف تجلّى ذلك المفهوم والتفكير الشعري الجديد وكيف تجددت حالات الإصغاء واستجاباتها، في نصوص «ماء السراب»، وأين نجحت في التقاط نبض الواقع أو نبض الذات؟ هذا ما أروم أن يصغى إليه النقد وهو يتلمس طريقه في دهاليز اللغة ومضايقها. كما في النصّ الأول من الديوان «السؤال»:

«إلى متى يختطفون ليلة العرس؟ / ستَرَتِ اليابسة والبحر/ بأسئلة فضّاحة/ وتخيّرَت حتفها»،

تستعيد الشاعرة السؤال ذاته الذي ابتدأت به قولها الشعري الأول، إلا أن السؤال انفتح في مدياته الأبعد عن ضمير المخاطبة ليتقاطر السؤال إلى أسئلة معلنة فالتحم عرسها «عرس المرأة العربية» بأعراس الأرض كلها ليصبح الاختطاف واحدًا والمصير مشتركًا. في نص «هوية» تقول:

«أنا البنت التي بها مس/ ويلبسها القرين إلى القرين».

لا تقوم الهوية منفردة ما لم تقترن بشبيهها، الهوية أنثى، فهل قرينها رجل؟ الهوية غير منقسمة، هكذا تعني الشاعرة، وهنا تبدو حكمة القول الشعري الجديد في هذه الشذرات التي تقول في سطورٍ قليلة مكثّفة مجازًا استعاريًّا مكتملًا في صورته الفنية والسردية، كما في نص «الزنبقة»:

«تكاد أن تذبل الزنبقة/ ولكن/ كلما نعست/ رششتها بالحبر».

بمعنى فعل الكتابة ممثلة في الحبر بمنزلة فعل الحياة، فالكتابة والحياة صنوان لا ينفصمان.

وهذه الشذرة النثرية بعنوان «لحد»:

«أحس أنني مضغوطة داخل جسدي/ فلو أنني أتنفس بعمق لتشققت بشرتي».

تدفعني أن أقول ثانيةً: إن الاختزال والتكثيف والشذرية كامتياز في قصيدة النثر كثيرًا ما يقول في سطرين ما تقوله قصيدة كاملة متعددة التفعيلات والمجازات. فالسطران اللذان جاء فيهما هذا النص يذكراني بالإشراقة التعبيرية النفرية «كلما ضاقت العبارة اتسعت الرؤية». فرؤية الشاعرة الفنية في وضوحٍ شفاف متسع لا لبس فيه، فنحن أمام صورة جمالية منفجرة بالمعنى ودلالاته، فالحصار الداخلي للجسد بما هو حصار بفعل خارجي في آنٍ، ينقصه هواء الحرية، فلو تنفسه هذا الجسد/الجنين الحبيس في ذاته لتشققت البشرة وحدثت الولادة الجديدة. صورة جمالية أخاذة تستدعي إلى المخيلة صورة الكتكوت وخروجه من هشاشة القشرة!

لن تلتفت قراءتي هذه إلى كل نصوص الديوان على أهميتها، إلا أن هناك نصوصًا تجعلك تقف أمامها للتأمل، وتتذوق نكهة اللغة التي كتبت بها، وتجبرك أن تصغي إلى أنينها الداخلي.. كنص «مخالعة»: «خلعتْ أسنان اللبن وتمضمضت/ بالحبر/ خالعت طاعات طاعنة في السن/ وأشعلت حريقًا صغيرًا بالكاد/ يتسع لها وحدها».

لم تعد الأنثى/ الذات صبية خاضعة وتحت سطوة التقاليد، بالكتابة وجرأتها اقتلعت أنياب الوصاية وسطوة الآخر ومن فوهة قارورة الحبر اشتعل حريقها الخاص بها وحدها.

تخاطب رصيفاتها: بالكتابة-الوعي نشبّ عن الطوق، ونقتحم حرائقنا الصغيرة، ونفكّ ارتباطنا بالبلادة والعجز:

«كان هناك ضلع مشترك بين سور/ مدرستنا الابتدائية الخامسة وبين مقبرة/ حي الرويس، شمال البحر في جدة/ كنّا أوقات الفسحة نزيح السور/ بفزعٍ ونزق…. بخوفٍ وخفة كأننا نرفع/ ستارة مسرحٍ عن أسرار المأساة في الكون».

تكتب فوزية هنا نصها «ننعم بالرعب» بتقنية سرد-شعرية تأخذنا بلغةٍ عالية الوتيرة لاهثة من الضلع المشترك بين سور المدرسة الحد الفاصل بين الحياة والموت، بين العالم العلوي والعالم السفلي. والنص في حد ذاته مكتنز بمشهدية الرعب واللعب، ونقف على صورة جمالية شعرية بالغة الفتنة يتحول فيها الموت إلى حكاية مسلية لا تقلق الصبايا بل تصيب عيون المعلمات بالهلع.. إطلالة على الموت في غير ما حاجة إلى هدم السور، بل الموت قابع في داخل حقائب المدرسة المدججة أوراقها الصفراء بالأشباح والخفافيش وموت المعنى، أوراق مهترئة منعمة بالرعب واللاجدوى.

مرثية مائية

ديوانها «مرثية الماء» هو أحد البكائيات المعاصرة، خصصته الشاعرة الحزينة كله في رثاء أخيها محمد الشاب الذي رحل في ربيع شبابه. ثلاثة وعشرون نصًّا كرستهم الشاعرة في استعادة ذكرى أخيها، واستبقائه حيًّا في المشاعر والوجدان، بكته هي وأمها كما لم تبكِ الخنساء على فقدان أخيها صخر، وفوزية في ديوانها التفجّعي هذا جعلت من أخيها محمد ندًّا للماء، فمحمد في رمزيته في الحقيقة لن يموت، وليس لم يمت!

ولأن من صفات الماء ديمومته مرتبطًا بكل شيء حي فمحمد باقٍ في قلوب محبيه بقاء الدم في العروق إكسيرًا معادلًا للحياة:

«محمد، كيف بالله كيف/ كيف تخيّر الموت/ من النخيل خيلاءها/ من المطر ماءه/ من السيف مضاءها/ ومضى/ يسطُرُ بالتباس الحبر/ بين الراح والماء/ حضورك الخاطف/ اختطافك المبكر/ ويرمينا بأسئلة الشعر/ عن السرِّ الإلهي».

فهل يموت الماء؟ تستعيد الشاعرة في مرثيتها المائية هذه شريط حياة محمد القصيرة مثل تقلبات ماء نهر صغير يغيض في جوف الصخور في سردية شعرية عذبة منذ طفولته حتى غيابه الأبدي. تبدّت فوزية كخنساء أخرى جديدة، ووجدت وأمها في فقدان محمد الجسدي فقدانًا لرموز متعددة في حياته القصيرة العميقة.

«واه هـ هـ محمد/ لو أن أكف الصبايا/ غياهب الكهوف/ مفاوز الصحاري/ يباس الأرض وماءها/ مناديل/ لما كفكفت دمعتها التي لم تنحدر».

ومن الأمكنة الجرداء.. إلى كمائن الأمكنة تمضي الشاعرة في بكائيتها التي وجدتها من أجمل ما كتب في الرثاء معاصرًا في نصها المبدع «محاق»:

«واه هـ هـ محمد/ لو أن وادي السرحان/ وادي حنيفة/ والسيل الكبير/ مجرى دموعها/ لجرت على الجزيرة/ أنهار لبن وخمر وعسل/ واكتست البساتين ماسًا مصفى».

وأحيا الدمع وجودًا من خيال. أي كأنه أعاد تشكيل محمد من الدمع/ الماء من جديد تشكيلًا خالدًا مقيمًا في جنته وبين ضفاف الماس المصفّى! فالشاعرة هنا في هذه اللغة الغنائية تقطر مطرًا من غيوم أحزانها لأخيها لتخاطبه: أنني هنا لا أحفل بموتك بل أحتفل بالحياة الخارجة من موتنا المتجدد!

في مقطعٍ عذب يليق بنا أن نستمتع به ككل نصوص فوزية الفائقة في تخييلها وتفكيرها الشعري ورؤياها المكثفة بحدوساتها ومجازاتها وإحالاتها. مقطع ممتلئ بأسى الفراق من نص «لعبة العقارب» تخاطب الشاعرة أخاها وتطلب منه أن يغلبها في لعبة «الغميضة»، ويخرج من مخبأه خوفًا من أن يكون غيابه هو غيابها معه. تقول:

«محمد/ أرجوك أجبني/ يا صخري ومائي/ بربك رد/ يا حنّاء أمي ومسك أبي/ لماذا لا تجيب ولا ترد؟».

شعرية الأشياء المنسية

في ديوانها «شجن الجماد»، هذا الديوان النموذجي في تفرّده النثري، والاستثنائي في تخييله اللغوي واستبطاناته الفلسفية للوجود الساكن، حدث تحوّل في أساليب التفكير الشعري لدى الشاعرة، وهو التحول إلى شعرية «الشيئية» كما سماه الشاعر علي الدميني في مراجعته النقدية المهمة. وأسميه أنا «شعرية الأشياء المنسية والمهملة» أو الأشياء الملموسة، أو شعرية التفاصيل الصغيرة وأنسنة الأفكار والمعاني.

تفجّرت طاقة الشاعرة التخييلية، واستطاعت من أتونها تحويل كل عناصر المحيط الجمادي إلى كائنات شعرية تفصح عن ذواتها، كائنات ناهضة من سباتها، تتقمص السمت الإنساني في همومه أو فرحه، في نقمته أو يأسه في شجنٍ لغوي مبثوث من ذات الشاعرة، مسقطةً إياه من نبض تجربتها مع هذه الجمادات لغةً وفكرًا وإحساسًا واستشفافها العميق لحركة الكائنات وعلاقاتها الحميمة بكائناتها الحية خارج حدود التفكير. حدث التماهي العجيب بين الشيء الميت والروح الحية كأن الشاعرة بثّت الروح في خلايا الجمادات المهمشة، ومنحتها قبسات من نارِ معرفتها وحساسية مشاعرها، وأنطقتها بالمسكوت عنه واللامفكر فيه.

وكأني بها تقول لنا بطريقة لا ينقصها التفلسف لنتعرف إلى حقيقة ذواتنا وأفعالنا؛ لنكتشف أنفسنا من خلال فرضية وعي الأشياء الجامدة لذاتها ليس بمعزلٍ عن وعي ذواتنا نفسها. كما قرأنا كيف أبدعت الشاعرة في ديوانها المدهش «ملمس الرائحة» عندما جسّدت الأثيري المجرد اللاملموس، وارتفعت به إلى مستوى التجسيد المادي للمحسوس الذي يُلمَس ولا يكتفى بشمّه. وهذا الديوان يحتاج إلى قراءة فاحصة مستقلة لن يكون لها هنا مكان في هذه الدراسة.

إذ بطريقة مبتكرة في اللغة الشعرية استطاعت فوزية أن تستنطق أشكال الجماد، وخلعت عليها لغة الوجود الحيّ، أي أن الموجود تموضع في الوجود من خلال اللغة المفكرة، وهو ما يقودنا إلى مفهوم الفيلسوف الألماني هايدغر في ماهية اللغة وخبرتها الجمالية في التفكير والتشكيل الشعري. والشاعرة في ديوانها هذا حققت معادلة هايدغر الفلسفية فيما قاله عن علاقة اللغة بالوجود. فبما أن اللغة تكشف عن الموجود خارج الوجود البشري، فإن الجمادات هنا ليست إلا موجودات أعيد خلقها في اللغة متعددة التجليات في نصوص الشاعرة، وصارت اللغة هي التي تتحدث وليس الجمادات، فاللغة هي الموجود قبل الوجود ذاته.

في هذه النصوص تبدو أشياء الجماد راعفة بروح الإنسان ومتكلمة بمنطوقه وإحساساته، تخلق لها الشاعرة مشاعر وأحاسيس في حين يبدو الإنسان إزاءها شرسًا فظًّا لا يجيد التعامل معها، تبثّ شجنها الهامس في حين تتخبطها أطياف الوحدة. تنحت الشاعرة القول من أفواه الجمادات كما نحتته من فم الماء في ديوانيها «ماء السراب»، و«مرثية الماء».

في مقدمتها النثرية الشعرية «شهقة أولى»، تُرجع القدحات الأولى في كتابة نصوص ديوانها هذا إلى تأمّل أشياء أخيها الذاهب في غيابه الأبدي، تلك التي كلما وقفت أمامها، تخيلتها في حالة من النحيب الهامس عليه، كأنه الصمت الناطق بفجيعته.

هكذا كانت أشياؤه الوحيدة التي تركها الأكثر دلالة على شهقة اللحظة الأولى:

«كانت كأس الماء تتجرع العبرات من ابتعاد أنفاسه ولهاثه وغياب جروح شفتيه».

«قوارير الأدوية، صور الأشعة، تبعث أنينًا من شجن الناي ووحشة الرعاة».

«الستائر لم تتوقف عن السؤال، فتنهب الرياح سترها وهي تسير عكس مهباتها».

كل هذه الأشياء الحميمة كانت تشاركها حزنها في صمتٍ كأنه الشهقات المتوارية في حالة من الفقد المنبثق بينها وبينهم، تسمع أشجانها تتخبط في عروق وحدتها ويلفها جبروت نحيب من بعيدٍ غير مرئي.

والنصوص القصيرة «أكثر من مئة نص»، في هذا الديوان كما أرى ليست إلا لوحاتٍ ناطقة، لونتها الشاعرة بأحاسيسها وتفكيرها الشعري ملتمسة (شعرية الأشياء المنسية) على حد قول الناقد المصري الراحل شريف رزق، انتقلت بها من شيئيتها إلى استعاراتٍ معكوسة متماهية بنبض الشعور الحي، كأن الأشياء تحكي بلسانٍ ليس هو بلسانها وبفكرٍ ليس بفكرها، وبشجن يشبه الشجن الإنساني؛ بل هي محاكاة معكوسة للذات والأحاسيس والخاطرات المنكسرة، فأجادت الشاعرة من خلالها إتقان زوايا التقاطاتها وإنطاق أشيائها؛ كي تبدو متماهية مع الشعور الإنساني، تحكي معاناته أو تكشف عن رؤاه، واستيهاماته في لغة لم ينقصها التكثيف أو الإيجاز أو الالتماعات الخاطفة والمدهشة.

سأنتقي بعضًا من نصوص الديوان التي استهوتني؛ لأنني وجدت فيها قوة الرؤية الفنية وعمقها وإحالاتها الذكية في نقد التحولات المصيرية في مساراتها وأفقها الزمني، كما أتقنت الشاعرة نسج العلاقات اللغوية والتشكيلية فيما بين «معاناة وهموم» الجمادات بحيث تصادت مع بعضٍ منها، وأضفت على بعض النصوص حسًّا إنسانيًّا دراميًّا جدليًّا. حين نقرأ نص «لوحة مفاتيح الحاسب»:

«استمتع بحقد الأقلام/ فقد سرقت مجدها/ واستأثرت بحنان/ الأصابع وحنينها/ بقسوتها ورقّتها/ بمكرها وانكسارها/ غير أني أتوجس/ تحولات/ جديدة/ بدورها/ تغدر بي».

نجد في هذا النص أن جمادًا يكيد لجمادٍ أدّيا الدور نفسه، فلوحة المفاتيح قصف مجد القلم الموغل في التاريخ الكتابي واستمتاعه هنا ليس إلا نوع من جمود المشاعر! المشاعر هنا في إنسانيتها أعطيت للجماد من خارجه، واستنطاق الشاعرة لهذه الوحدة الجمادية نابع من ذاتية الشاعرة الرائية والمهمومة بقسوة التحوّلات الجديدة وغدرها بتاريخ الإنسان.

وفي نص القلم نجد هذا التصادي والحوار الخفي بين القلم ولوحة مفاتيح الحاسب:

«نسيت براعم أصابعها/ الوسط والشاهد والسبابة/ حول أعناقي المتعددة».

ويتأسى القلم على التاريخ المشترك بينه وبين تلك الأصابع التي تقاسمت معه سهر الليالي وحمّيات النهار، الأصابع التي ذهبت أكفها في جوف الكمبيوتر «فهل أكرهها وأكرهه» أو يذهب: «بحزنه وعزلته ويشتكي للزمان جور التحولات».

في مسألة جور التحوّلات هذه ينضم الكتاب إلى ضحاياه في نصٍّ آخر يتأسى هو أيضًا على عزلته الجديدة:

«على رف مشترك/ تركوني/ وراحوا يفترقون/ غير لو أن أيًّا/ منهم/ يقرأ ما بعد الصفحة الأخيرة/ في الكتاب/ لعادوا طالبين الصفح…».

هو هنا يبثّ شجنه بلوعة الفراق، فهو متروك على رفّ مشترك، وربما يحيلنا هنا إلى مجاورته الصامتة لجهاز الحاسوب الذي سرق التاريخ وما كتب ما بعد الصفحة الأخيرة، لا شك سيقرؤون تاريخًا طويلًا من المنجزات ضيّعت أو أضاعها من لم يكونوا أوفياء للكتاب الورقي كما كانوا، إنه جور التحولات ذاته!

في هذا الديوان نصوص باهرة، تستحق الوقوف عليها، متأملين تلك المزاوجة بين اللغة، وعمق التخييل ومفارقاته، الذي يؤول بنا بعد أكثر من قراءة، إلى القبض على معنى القيمة الجمالية في صورها الفنية وفي دلالاتها الإشراقية البعيدة.

بين نص «اللوحة» ونص «إطار»، نرى هذا التصادي أيضًا في أنضح أشكاله، بل نسمع ذلك الحوار الخفي المهموم بينهما.

في «اللوحة»: «هذا الإطار/ يتحدى بحري/ أضلعه تخنق خفق أمواجي/ مساميره تدمي رمالي».

في «الإطار»: «أمواجها تهدد مساميري/ زبدها يخرّب مذهب الخشب/ رفيف عصافيرها يزعزع يقيني/ فهل ألجأ إلى المزيد من إحكام قبضتي/ حول أنفاسها/ أو أتركها تورطني/ في عصيان الجدار». فترد «اللوحة» على «الإطار» بأن «لا رجاء إلا في عاصفة ترج الجدار»، أو تخرج من حصارها فتميل قليلًا: «وأترك المياه والرمال/ لتنسكب على أرض الحجرة وتخرج من تحت الباب».

فيالها من لوحة شعرية/ لونية أخرى تولد هادرة وتخرج في انسياب، فتكون هي الطبيعة الحرة من قيودها! اللوحة هنا هي المعادل الموضوعي للحياة في معناها الكوني، إنها لعبة نصية أجادت الشاعرة تشكيلها برهافة بين اللوحة وإطارها فبدا النصان نصًّا واحدًا يقطر شجنًا.

في نصٍّ آخر لا يقلّ جمالًا وشجنًا وهو نص «الناي»، نقرأ: «حين تلفحني/ أنفاس حرّى/ وتجري في عروقي/ شحنات/ الوحدة/ الحنين/ الحبور/ الحزن/ فحيح الالتحام/ قروح الأحلام/ حرائق التباريح/ يرشح/ من تلك الأصابع/ الملتفة على عنقي».

نجد هذا اللقاء بين الشيء/ الجماد وروح الأصابع، ليخلق ذلك الشيء روحًا مطابقة حيث تنبض بكل معاني الشجن والحبور في آنٍ، والوحدة والحنين في آنٍ آخر.

أجادت الشاعرة في هذه اللوحة الشعرية الناطقة تشييء المشاعر كلها، وتشعير الشيء/ الناي؛ لينطق بكل تلك الأحاسيس والتباريح وشجن الجروح، ولتنطلق نغماته في كل اتجاه تذهب إليه الريح.

ولا تقل جمالية النص في «آنية الزهور» في تعبيره الشجني حين يبوح:

«يمر الربيع مسرعًا/ لا يلتفت للفراغ المريع/ الذي يتلف جوارحي/ بانتظار زهور/ تتلهف الإفلات من/ زهو الذبول/ دون أن تمسها يد».

هي مناجاة خفية بين الآنية الفارغة والمحتوى/ الزهور المفتقدة، استحضارًا لها لكي تملأ الفراغ، وتزيح الوحشة التي تعانيها الآنية، وشفقةً على ذبول الربيع وهو يمر سريعًا دون أن يسكن في القاع!

لا أريد لهذه القصائد أن تنتهي من شجنها، ولا أريد لهذا الشجن أن يغادر أشياءه، جماداته، موجوداته الساكنة التي أجادت الشاعرة في تحويلها إلى لوحاتٍ ناطقة، لونتها الشاعرة بأحاسيسها وتفكيرها الشعري، فانتقلت بها من شيئيتها إلى استعاراتٍ ومجازات معكوسة متماهية بنبض الشعور الحي، كأن الأشياء تحكي بلسانٍ ليس بلسانها، وتفكر عبر الذات الشاعرة وفكرها، وبشجن يشبه شجنها هي ذاتها، بل هي محاكاة معكوسة للذات والأحاسيس والخاطرات التي لا تملكها (الأشياء-الجمادات)، فأجادت الشاعرة من خلالها إتقان النظر من زوايا متعددة، وأنطقت أشياءها المحايثة لها؛ كي تبدو مطابقات إنسانية تحكي معاناته أو رؤاه أو استيهاماته، في لغة شعرية فريدة تميزت بالتكثيف الصوري والإيجاز التشكيلي، فجاءت رشيقة في التماعاتها الخاطفة المدهشة.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *