المقالات الأخيرة

جائزة الملك فيصل تحجب جائزة «اللغة العربية والأدب» وموضوعها «الدراسات التي تناولت الهوية في الأدب العربي» لعدم الوفاء بالمتطلبات

جائزة الملك فيصل تحجب جائزة «اللغة العربية والأدب»

وموضوعها «الدراسات التي تناولت الهوية في الأدب العربي» لعدم الوفاء بالمتطلبات

قررت لجنة الاختيار لجائزة الملك فيصل للغة العربية والأدب حجب الجائزة هذا العام 2025م، وموضوعها: «الدراسات التي تناولت الهوية في الأدب العربي»؛ نظرًا لعدم وفاء الأعمال العلمية المرشحة بمتطلبات الجائزة. أما جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام، فسيُعلَن عن الفائز في نهاية...

المرأة والفلسفة… قضية منجز أم قضية ثقافة؟

المرأة والفلسفة… قضية منجز أم قضية ثقافة؟

يُعَدُّ حقل الفلسفة من الحقول المعرفية الجدلية بالغة التعقيد؛ ليس لأنه يفتح مجالًا واسعًا للمقارنة بين منجز الرجل ومنجز المرأة، وإنما لأنه من الحقول النخبوية الشاقة في عالم الفكر وصناعة المعرفة، نظرًا للنُّدرة التي نلحظها في نسب المتفردين والمؤثرين المشتغلين فيه،...

الفلسفة وإعادة التفكير في الممـارسات الثقافيـة

الفلسفة وإعادة التفكير في الممـارسات الثقافيـة

من الممكن القول في ضوء المشكلات التي تطرحها الدراسات الثقافية، بأن الفلسفة الآن، تنتسب للممارسات الثقافية، بل كأي نص آخر من النصوص الأخرى المتعددة التي تنشغل بها الدراسات الثقافية، وفق المفهوم الجديد للثقافة بوصفها «جملة من الصفقات والعمليات والتحولات والممارسات...

اللغة والقيم العابرة… مقاربة لفك الرموز

اللغة والقيم العابرة… مقاربة لفك الرموز

القيم تَعْبُرُ المجتمعات والثقافات (= عبور عَرَضي)، وهي أيضًا تعبر الأزمان والأوقات (= عبور طولي). هذا العبور مَحُوطٌ بالعديد من الأسرار والإشكاليات من جهات تأسيسية عديدة، ومن تلك الجهات دور اللغة. وفي هذا النص المختصر، نقدم مقاربة مكثفة للإجابة في قالب أولي عن هذا...

الصورة: من المحاكاة إلى البناء الجمالي

الصورة: من المحاكاة إلى البناء الجمالي

يعد اللسان أرقى أنساقِ التواصل وأكثرَها قدرةً على وصف وتأويلِ ما يأتي من المنافذِ الحسية، فلا يُمكننا استخراج القواعدِ التي تحتكم إليها منتجاتُ هذه المنافذ، في اشتغالها وفي إنتاجِ دلالاتِها، إلا بالاستنادِ إلى ما تَقولُه الكلماتُ عنها. إن اللسان يُعين ويسمي ويَصف...

«11 رصيف برانلي» الابنة غير الشرعية لفرانسوا ميتران تواجه أشباح الحياة السرية

تأملات عميقة حول الذاكرة والهوية وغياب الأب

بواسطة | يناير 1, 2025 | فضاءات

بمناسبة ولادة السلسلة الأدبية الجديدة «العودة إلى البيت»، التي أطلقتها دار نشر فلاماريون، التي تدعو الكتّاب لقضاء أربع وعشرين ساعة في مكان طفولتهم، وافقت مازارين بينجو الابنة السرية للرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران وآن بينجو أستاذة تاريخ الفن، على العودة للمرة الأولى إلى الشقة الباريسية التي عاشت فيها «سريًّا»، من سن التاسعة إلى السادسة عشرة مع والدتها أمينة متحف برانلي، ووالدها فرانسوا ميتران، بالقرب من ألما، في الدائرة السابعة.

في 10 نوفمبر 1994م شاهد عموم الناس صورة التقطها المصوران بيير سو وسيباستيان فالييلا لفرانسوا ميتران وابنته، وهما يغادران مطعم لو ديفالاك. نُشرت الصورة في مجلة باري ماتش الأسبوعية في العدد 2372، وقد أُبلِغَ رئيس الجمهورية مسبقًا وأعطى موافقته على هذا النشر، وبالتالي الكشف عن وجود ابنته المخفية طيلة عشرين عامًا.

أن تحب يعني أن تكف عن محاولة الفهم

في فجر عيد ميلادها الخمسين وافقت مازارين، التي سُمّيت على اسم أقدم مكتبة في فرنسا نظرًا لولع أبويها بالكتب، على مواجهة أشباح هذه الحياة السرية وقضاء أربع وعشرين ساعة في ذلك البيت، الذي جمعها بوالديها. تتذكر المطبخ، الغرفة الأكثر متعة، الغرفة التي يتناول فيها ثلاثتهم وجبة الإفطار في أثناء الاستماع إلى الراديو الذي يتحدث عن والدها. هناك أيضًا لعبة المطاط والكراسي الموجودة في القاعة، وأعمالها المدرسيّة ومقالاتها المتروكة لملحوظات والدها. تدخل وتخرج في سيارة مع اثنين من الحراس الشخصيين. لا ضيوف ولا ألعاب في الفناء مع الأطفال الآخرين الذين كانت تراقبهم مختبئة خلف الستائر.

تتجوّل في هذه الأماكن التي تغيرت، وتعود أشباح الماضي إلى الظهور. تستعيد الروائح والأصوات ولمحات اللحظات والكلمات، وتثير أحاسيس غريبة يصعب استرجاعها.

«لقد عشت مع والديّ في رصيف برانلي، من التاسعة إلى السادسة عشرة من عمري. وهو ما يتوافق مع ما نسميه مرحلة المراهقة. لم يكن ديكورًا فقط، بل قبرًا أيضًا. كانت شقة وظيفية فارغة، ولا شيء يمكن أن يملأها، خصوصًا أنا. كنت شبحًا، لا يمكن لأحد أن يعرف وجودها في هذا المكان الذي لم يكن لها، ولا هو، ولا لهم. قضيت مراهقتي في سكن عابر حيث لا يعبر أحد. منزلي لم يكن منزل أحد».

حتى بعد تلك السنوات الطويلة، ظل الشعور بالحبس يحاصرها ويكتم أنفاسها إلى حدّ أنّ امرأة اليوم رفضت النوم في المنزل الذي كان سجن تلك الفتاة الصغيرة، فهي لم تعد تلك «الجندية الصغيرة المطيعة»، بل غدت امرأة حرة. غادرت المنزل في آخر المساء وعادت في اليوم التالي، واتصلت بوالدتها لتشاهدا معًا كل غرفة وتستعيدا ذكرياتهما. ثم تترك المفاتيح وتغادر، دون أن تهرب كما فعلت عندما كانت في السادسة عشرة من عمرها.

«هناك جراح في الطفولة نقضي حياتنا في محاولات يائسة لمداواتها دون أن تندمل».

تتحدث مازارين بينجو عن حادثة مؤثرة جدًّا في حياتها، وهي هروبها من بيت عائلتها عندما كانت في سن السادسة عشرة. هذه الحادثة كانت نابعة من شعورها العميق بالتوتر والضغط الناجم عن الحياة السرية التي كانت تعيشها كابنة غير معلنة للرئيس فرانسوا ميتران. كانت مازارين تشعر بثقل السرية التي فُرضت عليها؛ إذ لم يكن بإمكانها أن تعيش حياة طبيعية كأي مراهقة. والدها كان شخصية عامة وسياسية مهمة، بينما علاقتها به كانت في الخفاء. هذا الواقع أدى إلى شعورها بالاختناق والحاجة إلى الهروب من هذا العبء الثقيل. الهروب كان وسيلتها للتعبير عن رفضها لهذا الوضع المعقّد، حيث كانت تسعى إلى استكشاف هويتها الخاصة بعيدًا من ظل والدها الضخم. كان هذا الهروب، في جوهره، محاولة للتخلص من السرية التي حرمتها من الاستقلالية والهوية الذاتية. لكنها في النهاية، عادت إلى بيتها بعد أن واجهت صعوبة العيش وحدها والتأقلم مع الحياة بعيدًا من عائلتها. «أن تحب يعني أن تكف عن محاولة الفهم» هكذا تلخص مازارين غموض ذلك الرجل الذي يزورهم خفية ليلًا ويغادر وهي نائمة.

الزلزال

«بعضٌ يخاف مني، سري يصدّهم، هم لا يعرفون عنه شيئًا، لديهم فقط بعض الشكوك، لكن السر ظاهر، له وجه حزين، عبوس مغلق، نظرة باهتة. سر يرتدي اللون الأسود، ويبعث موجات مشعة، ربما لأننا نحترق به حتى دون أن نقترب منه».

تحدثت مازارين بينجو عن الكشف العلني لعلاقتها بميتران: كانت لحظة الكشف العلني عن هوية مازارين كابنة لميتران شكلت حادثة كبيرة في فرنسا. حادثة الكشف العلني عن هوية مازارين بينجو ابنة للرئيس فرانسوا ميتران كانت لحظة حاسمة وصعبة في حياتها.

«كان الكشف كالزلزال. لقد انفتح العالم كله على ما كان سريًّا وأكثر حميمية، وملجئي وعبئي».

هذا الحدث كان له تأثير كبير في حياتها الشخصية والعامة. مازارين نشأت في ظل السرية، وكان الأمر محصورًا ضمن دائرة ضيقة من العائلة والمقربين فقط. لهذا السبب، شعرت بصدمة شديدة عندما نُشِرَتْ هويتُها علنًا. «كأنّ كلّ شيء لم يكن سوى كذبة، ثم أصبح أكثر وضوحًا، لكنه وضوح مؤلم». لقد فقدت جزءًا كبيرًا من خصوصيتها وحياتها الهادئة التي كانت تحاول الحفاظ عليها. كما شعرت بأن هذا الكشف كان تدميرًا للحدود التي كانت قد وضعتها بينها وبين العالم الخارجي. «يوم عرف كل العالم من أكون، أحسست أن حياتي لم تعد ملكي (…) الأضواء التي أحاطتني أحرقتني، لم أعد شخصًا، صرت سرًّا مكشوفًا».

التعامل مع الإعلام

بعد هذا الكشف، غدت مازارين محط اهتمام وسائل الإعلام بشكل غير مسبوق. أصبحت الصحافة ووسائل الإعلام الفرنسية تلاحقها بشدة، وبدأت الصحف والمجلات تتناول حياتها الشخصية بتفاصيل دقيقة. هذا الهجوم الإعلامي كان يمثل تحدّيًا نفسيًّا كبيرًا لها؛ إذ كان يسحب منها حقها في الخصوصية، مما جعلها تواجه ضغوطًا كبيرة من أجل التكيف مع هذا الاهتمام العام. «طيلة سنوات، كنت تلك الفتاة السرية، ثم في لحظة، لم أعد سوى اسم في الصحف، فعلًا، هل ظللت حقًّا أنا؟»

«نحمل في داخلنا سرًّا لا يمكننا مشاركته لكننا ننتهي في الأخير بأن نكون تجسيدًا له».

التأثير العاطفي والنفسي

«نعتقد أننا جاهزون للحدث، ولكن حين يقع نحس بالتحطم، كأن الأرض تحتنا قد انهارت».

من الناحية العاطفية، يمكن القول: إن مازارين شعرت بالاضطراب والغضب من حقيقة أن سرها قد انكشف بهذا الشكل. كانت ترى في هذا الحدث جزءًا من عملية انتهاك لخصوصيتها وحقها في اختيار متى وكيف يُعَرَّفُ بها علنًا كابنة لرئيس الجمهورية. «ليست الحقيقة ما تخيفنا، إنها لحظة انبثاقها المدمرة التي يمكن تجاوزها». هذا الكشف جلب معه مشاعر متناقضة، من بينها الإحراج، والغضب، والحاجة إلى إعادة تشكيل هويتها في العلن، بعد سنوات من العيش في الظل. «استحضار النظرات الخارجية التي تدقق وتقاضي وتتبدّل منذ اللحظة التي تنتقل فيها الفتاة الصغيرة من الهوية السرية إلى النور الساطع».

وينتقل إلينا هذا الشعور بالانزعاج والصدمة والتمرد الضمني الذي يجب أن يشعر به كل إنسان عندما يقع في شبكة النظرات غير الرحيمة.

الانعكاسات على علاقتها بوالدها

في الوقت نفسه، كان لهذا الكشف تأثير في علاقتها بوالدها، حيث كان هذا الأخير قد حافظ على هذه العلاقة في السر لأسباب سياسية وشخصية. بعد الكشف، أصبحت العلاقة بينهما أكثر علنية، لكنها أيضًا أصبحت أكثر تعقيدًا بسبب ضغط الإعلام والانتباه العام.

«بعد كل هذا الوقت الذي أفضيت خلاله بأسراري، وجدت نفسي مضطرة إلى إعادة النظر في أسراره، كما لو أن حقيقتنا لم تعد كما كانت قطُّ» نحسّ بالصراع الداخلي للكاتبة، التي أعادت تعريف علاقتها بوالدها بعد معرفة الحقيقة. «لم يعد بيننا أي تواطؤ، فقط صمت ثقيل، وكأن هذا السر قد محا كل شيء». بمجرد الكشف عن السر، يصبح عقبة لا يمكن التغلب عليها، مما يؤدي إلى قطع الاتصال وتغيير العلاقة بين الأب وابنته بشكل عميق. «لم يعد والدي، لقد أصبح رجلًا كذب عليّ، ومنذ تلك اللحظة لم أعد أستطيع الوثوق به كما كان الأمر من قبل». يسلط هذا الاقتباس الضوء على انهيار الثقة الذي يحدث بعد الكشف عن السر. لم يعد يُنظر إلى الأب كشخصية حامية، بل كشخص خان هذه الثقة. «إن إفشاء السر لم يقرّبني منه، بل أظهر مسافة لم أكن أدركها». لقد انكسرت الثقة بينهما إلى الأبد.

القبول والتأقلم مع الوضع

في نهاية المطاف، تعلمت مازارين التكيف مع هذه الظروف الجديدة. أصبحت أكثر حذرًا في تعاملها مع الإعلام، وبدأت تستثمر في الكتابة للتعبير عن نفسها. الكتابة منحتها الفرصة للتحدث عن تجربتها الشخصية بطريقة أكثر تحكمًا وخصوصية، بعيدًا من ضغوط الإعلام. بشكل عام، كان الكشف العلني عن هويتها لحظة محورية في حياتها، حيث تحدّت هذه الحادثة مفهومها عن الهوية الخاصة والخصوصية، وعادت لتجد طريقة جديدة للتفاعل مع العالم الذي أصبح يعرفها بشكل مختلف.

رحيل الوالد وتداعيات وفاته

منذ أن كُشفت علاقتها بوالدها، أصبحت مازارين محط أنظار الصحافة والإعلام الفرنسي، وتعرضت لكثير من الضغط الإعلامي الذي حاول استكشاف حياتها الخاصة وعلاقتها بوالدها. هذا أدى بها إلى تطوير علاقة معقدة مع الإعلام، حيث كانت تحاول حماية حياتها الخاصة والتأقلم مع الشهرة المفروضة عليها.

على الرغم من أن مازارين بينجو لم تتحدث عن وفاة فرانسوا ميتران بطريقة مباشرة وصريحة، في «11 رصيف برانلي»، فإنها تستحضر غيابه وتداعيات وفاته من خلال تأملات أكثر دقة حول الحداد والذاكرة.

«رحل بلا صوت، كأنه لم يكن هنا، كأنه ظل عابر». على الرغم من كونه شخصية عامة كبيرة، يتلاشى بالموت، تاركًا وراءه شعورًا بالفراغ والصمت. تتحدث مازارين بينجو عن الأثر الذي تركه موت والدها، مؤكدة أنه حتى بعد اختفائه، فإن الصمت الذي أحاط به خلال حياته هو كل ما تبقى: «لقد أخذ الموت كل ما بقي منه، باستثناء هذا الصمت الذي كان يرافقه دائمًا والذي هو اليوم الشاهد الوحيد».

«أواصل الحديث معه، وكأن شيئًا لم يحدث، وكأن الكلمات يمكن أن تملأ المساحة الهائلة التي تركها وراءه».

«لقد جعله الموت غريبًا، ومع ذلك ما زلت أبحث عنه، في حركاتي اليومية، في الكلمات التي أفتقدها».

في هذا التأمل، تستحضر الكاتبة صعوبة الاستمرار في العيش بعد فقدان والدها، والبحث عن أجزاء منه في الأشياء الصغيرة في الحياة اليومية. «لم يعد هنا، لكنّ حضوره يطاردني في ثنايا ذاكرتي، كصورة قديمة لا نجرؤ على النظر إليها أبدًا».

الأم المعلنة

«يتردد صوت أمي في قراراتي، ليس كأمر، بل كصدى يرشدني».

«هناك جزء من والدتي في كل ما أنا عليه، حتى فيما أردت الهروب منه. إنها هناك، مثل الظل الناعم، حضور لا أستطيع تجاهله». إذا كان الأب الرئيس خفيًّا وسريًّا بحكم منصبه ومكانته فإن الأم آن بينجو كانت دائمة الحضور على الرغم من وظيفتها أمينةَ متحف رصيف برانلي.

«إن أمهاتنا تعلّمننا أكثر بكثير من مجرد الإشارات أو الكلمات. إنهن ينقلن إلينا طريقة لرؤية العالم، والشعور بالأشياء، غالبًا دون أن نعرف ذلك».

يستحضر هذا المقطع الطريقة الدقيقة التي تستمر بها الأم في مرافقة أطفالها حتى من مسافة بعيدة. وتكشف الاقتباسات التالية عن نظرة معقدة للعلاقة بين الأم وابنتها، بين الميراث والإسقاط.

«أن تكون ابنة يعني أن تتحمل ثقل ما لم تتمكن الأم من تحقيقه، ولكن أيضًا الفخر بما تمكنت من نقله».

«إنك لا تفهمين والدتك حقًّا إلا عندما تصبحين أنت أمًّا. عندها يأخذ الصمت والحركات والغياب معناه الكامل».

كما تعكس هذه التأملات حساسية خاصة تجاه الروابط العائلية، وهي حساسية نموذجية في كتابات مازارين بينجو.

من دور الابنة إلى دور الأم

تمر مازارين بينجو بشكل سلس إلى موضوع الأمومة، مستوحية تجربتها الخاصة كأم. فتتناول تعقيد العلاقة بين الأم والطفل بأسلوب حميمي. فتسرد لنا بشيء من التأمل في المشاعر والتحديات المتناقضة المتعلقة بالأمومة، وتتطرق إلى التوقعات والتضحيات الشخصية. إنها طريقة لمشاركة بعض تجاربها مع منحها بعدًا أدبيًّا وخياليًّا.

«أن تكوني أمًّا يعني قبول فكرة الذوبان قليلًا كل يوم في عيون الآخرين، ونسيان نفسك للسماح لهم بابتكار أنفسهم بشكل أفضل». تتجنّب مازارين عقد أيّ مقارنة بين علاقتها بأبويها وعلاقاتها بأبنائها وتكتفي بعرض تجربتها بشيء من الحكمة الناتجة عن التجربة الشخصية: «هناك لحظات نتساءل فيها عما إذا كنا نعيد إنتاج الإيماءات والكلمات التي رأيناها وسمعناها، دون وعي، وما إذا كانت أمومتنا مجرد انعكاس لمن سبقونا».

«نحن نحب حبًّا لم نعتقد أنه ممكن، لكن هذا الحب لا يخلو من الألم. كل ضحكة وكل ابتسامة طفل تقربنا قليلًا من القلق والخوف من الخسارة».

تكشف بينجو لنا بوضوح كيف تقترب من الأمومة بنوع من التناقض، بين الحب العميق والخسائر الشخصية، وهي القوة العاطفية لهذه السيرة، وهنا تصل السيرة عمقها الإنساني فتنسى أو تتناسى معاناتها الشخصية مندفعة نحو العطاء: «الأمومة ليست مسألة معرفة، إنها وجود، انغماس مستمر فيما لا يمكن التنبؤ به… فأن تكوني أمًّا يعني أن تتخلي تدريجيًّا عن السيطرة على حياتك، وتضعيها في يد كائن أنجبته بنفسك».

«إن مفارقة الأمومة هي الحاجة إلى أن تكون كل شيء بالنسبة للطفل، مع العلم أنه في يوم من الأيام سوف يهرب منا، وأنه سيكون غريبًا عن حبنا». تُظهر هذه المقاطع كيف تستكشف بينجو عمق الأمومة، وتناقضاتها وتخليها عن رغباتها الشخصية وعن الطريقة التي تغير بها الحياة والإدراك الذاتي.

«بمرور الوقت، أكتشف أن الأمومة هي سلسلة من التنازلات، ولكنها أيضًا عبارة عن اكتشافات داخلية، لجوانب من الذات لم نكن ندركها… أنظر إلى طفلي وأعلم أنني أحبه أكثر من أي شيء آخر، لكنني أكتشف أيضًا أن هذا الحب يفضحني كما لم يحدث من قبل، ويجعلني ضعيفة وقوية في الوقت نفسه».

الكتابة وسيلة للتحرر

«أكتب حتى لا أنسى، حتى لا أُنسى».

تتطرق مازارين بينجو لدور الكتابة قي حياتها منذ الطفولة، فهي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالبحث عن الهوية والذاكرة والمواجهة مع الماضي. تصبح الكتابة، طوال الكتاب، وسيلة للاستكشاف الشخصي والتعبير عن المشاعر الخفية. تستخدم الطفلة والمراهقة والشابة الكتابة؛ لفهم تاريخ عائلتها المعقد والتصالح معه. «الكتابة سرّ نمنحه لأنفسنا، وسيلة لنقول لأنفسنا ما لا نجرؤ على قوله للآخرين». من خلال الكتابة، تدعونا مازارين بينجو إلى التعمّق في فجوات الذاكرة، حيث الذكريات مجزأة، وغير واضحة، وغالبًا ما تكون مشوبة بما لم يُقل: «الكتابة هي أفضل ما وجدته لأعرف من أنا».

وهكذا تصبح الكتابة محاولة لإعادة بناء الماضي، لعالم تبدو فيه الحقيقة أحيانًا بعيدة المنال، وحيث يكون الصمت العائلي ثقيلًا. من خلال الكتابة، تحاول فهم العلاقات الأسرية وفهم الوقت الذي يتسم بظلِّ الأب والأسرار والصراعات التي لم تحلّها. تتيح الكتابة أيضًا استكشاف كيفية نظر الكاتبة إلى نفسها وإلى الآخرين، ولا سيما في سياق التوترات بين الحياة العامة والخاصة: «كل كلمة هي خطوة نحو ما لا أعرفه عن نفسي، نحو ما يفلت مني الذي أتمنى أن أفهمه». تسلط السيرة الذاتية الضوء على تأثير التاريخ الشخصي والسياق العائلي في الطريقة التي تبني بها الفتاة قصتها وترويها. تصبح هذه الكتابة عملية علاجية ومحرِّرة في كثير من الأحيان، وهو ما يسمح للراوية بالتصالح مع ماضيها: «الكتابة هي عملية اكتشاف وفهم، حيث تسمح لك كل كلمة مكتوبة بالكشف عن جزء من نفسك ظل مدفونًا أو بعيد المنال».

أخيرًا، تستخدم مازارين بينجو الكتابة في «11 رصيف برانلي»؛ للتشكيك في مكانة الفن والثقافة في المجتمع المعاصر، ولا سيما من خلال وجود متحف رصيف برانلي، الذي يعد خلفية للتفكير في العلاقة بالتاريخ والذاكرة والهوية. وهكذا بُنِيَت الرواية كنوع من السرديات الكبرى، حيث تصبح الكتابة فعل مقاومة في مواجهة الغموض والشكوك في العالم الحديث.

«هناك ذكريات يجب أن نجبرها على الكلام، وأصوات يجب أن نوقظها، فالكتابة هي وسيلة لإجبار الصمت على التكلم». يعكس هذا الاقتباس قدرة الكتابة على كسر صمت الأسرة، البعيدة أو المدفونة، وإعطاء صوت للقصص والذكريات التي لم تُسرَد بعد. تظهر هذه الاقتباسات بوضوح أن الكتابة، في «11 رصيف برانلي»، هي أداة للذاكرة والتحرّر وطريق للمصالحة مع الماضي المعقّد والمخفي في كثير من الأحيان.

«لكي تكتب، يجب ألا يكون لديك أي دين. لا ندين بأي شيء لأحد. فماذا تفعل بالميراث الذي تُذَكَّرُ به باستمرار؟ هذا الدين يشبه الكرة والسلسلة، وهو ما تريد أن تتحمله أيضًا؛ لأنك لا تستطيع أن تكون جزءًا من المجموعة التي تكره».

قامت مازارين بينجو بنزع الكلمات من ذاكرتها لنقشها بقوة على الورق وفهم علل حياتها كامرأة. حكايتها المهداة لوالدتها محتشمة ومؤثرة ورائعة.

يصبح متحف كيه برانلي، الذي يعد شخصية في حد ذاته، المكان الرمزي لبحثه عن الهوية. وتصف بينجو هذا المتحف بأنه «مساحة يلتقي فيها الماضي بالحاضر، حيث يروي كل قطعة قصة يمكن إعادة تفسيرها». ومن خلال زياراتها، تكتشف البطلة ثراء التنوع الثقافي، وهو ما يشجعها على توسيع رؤيتها للهوية. يصبح كل معرض فرصة للمواجهة والتأمل، وهو ما يسمح له برؤية أن تراثه، على الرغم من أنه مليء بالألم، هو أيضًا مصدر للثروة.

طوال رحلتها، تتعلم كيفية احتضان تراث عائلتها المعقد. يصبح تطور شخصيتها واضحًا: من البحث اليائس، تنتقل إلى قبول أكثر هدوءًا. تكتب: «في بعض الأحيان، بالنظر إلى الوراء، يمكننا المضي قدمًا».

أسلوب مازارين السردي يطغى عليه الشعري والنضج الفكري والعمق. إنها تستخدم استعارات غنية للتعبير عن مشاعرها، وهو ما يخلق جوًّا غامرًا. تضيف الأوصاف المثيرة للذكريات لباريس والمتحف بُعدًا حسيًّا إلى العمل، وهو ما يعزز تأثير التجارب التي عاشتها. تتخلل الكتابة تأملات عميقة حول الذاكرة والهوية، كما هي الحال عندما تدرك البطلة: «ذكرياتنا كنوز، لكنها يمكن أن تكون أيضًا أعباءً».

أشاد النقاد بهذا العمل لعمقه النفسي. وأشارت صحيفة لوموند إلى أن «بينجو نجحت في التقاط جوهر جيل يبحث عن المعنى، مع استكشاف تعقيدات العلاقات الأسرية». وبالمثل، أشار أحد النقاد من تيليراما: إلى أن «المتحف يوضح تمامًا الصراع الداخلي للبطلة، حيث يعمل ملجأً ومرآةً في الوقت نفسه».

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *