المقالات الأخيرة

جائزة الملك فيصل تحجب جائزة «اللغة العربية والأدب» وموضوعها «الدراسات التي تناولت الهوية في الأدب العربي» لعدم الوفاء بالمتطلبات

جائزة الملك فيصل تحجب جائزة «اللغة العربية والأدب»

وموضوعها «الدراسات التي تناولت الهوية في الأدب العربي» لعدم الوفاء بالمتطلبات

قررت لجنة الاختيار لجائزة الملك فيصل للغة العربية والأدب حجب الجائزة هذا العام 2025م، وموضوعها: «الدراسات التي تناولت الهوية في الأدب العربي»؛ نظرًا لعدم وفاء الأعمال العلمية المرشحة بمتطلبات الجائزة. أما جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام، فسيُعلَن عن الفائز في نهاية...

المرأة والفلسفة… قضية منجز أم قضية ثقافة؟

المرأة والفلسفة… قضية منجز أم قضية ثقافة؟

يُعَدُّ حقل الفلسفة من الحقول المعرفية الجدلية بالغة التعقيد؛ ليس لأنه يفتح مجالًا واسعًا للمقارنة بين منجز الرجل ومنجز المرأة، وإنما لأنه من الحقول النخبوية الشاقة في عالم الفكر وصناعة المعرفة، نظرًا للنُّدرة التي نلحظها في نسب المتفردين والمؤثرين المشتغلين فيه،...

الفلسفة وإعادة التفكير في الممـارسات الثقافيـة

الفلسفة وإعادة التفكير في الممـارسات الثقافيـة

من الممكن القول في ضوء المشكلات التي تطرحها الدراسات الثقافية، بأن الفلسفة الآن، تنتسب للممارسات الثقافية، بل كأي نص آخر من النصوص الأخرى المتعددة التي تنشغل بها الدراسات الثقافية، وفق المفهوم الجديد للثقافة بوصفها «جملة من الصفقات والعمليات والتحولات والممارسات...

اللغة والقيم العابرة… مقاربة لفك الرموز

اللغة والقيم العابرة… مقاربة لفك الرموز

القيم تَعْبُرُ المجتمعات والثقافات (= عبور عَرَضي)، وهي أيضًا تعبر الأزمان والأوقات (= عبور طولي). هذا العبور مَحُوطٌ بالعديد من الأسرار والإشكاليات من جهات تأسيسية عديدة، ومن تلك الجهات دور اللغة. وفي هذا النص المختصر، نقدم مقاربة مكثفة للإجابة في قالب أولي عن هذا...

الصورة: من المحاكاة إلى البناء الجمالي

الصورة: من المحاكاة إلى البناء الجمالي

يعد اللسان أرقى أنساقِ التواصل وأكثرَها قدرةً على وصف وتأويلِ ما يأتي من المنافذِ الحسية، فلا يُمكننا استخراج القواعدِ التي تحتكم إليها منتجاتُ هذه المنافذ، في اشتغالها وفي إنتاجِ دلالاتِها، إلا بالاستنادِ إلى ما تَقولُه الكلماتُ عنها. إن اللسان يُعين ويسمي ويَصف...

مسار أنثروبولوجي فرنسي في اليمن

بواسطة | يناير 1, 2025 | مقالات

أود أن أشير، بداية، إلى أنني منذ أبحاثي الأولى في اليمن في ثمانينيات القرن العشرين، أجريت معظم دراساتي في البلدان الناطقة بالعربية أو حيث توجد جاليات عربية ملحوظة، بما في ذلك أبحاثي الأخيرة في تركيا، التي ركزت على المشهد الإعلامي والثقافي العربي في المنفى. وقد تناولتُ موضوع المجتمعات الحضرية العربية، والعلاقات بين المدن والإنتاج الثقافي، منذ بدايات عملي على أسواق صنعاء، عاصمة اليمن، وصولًا إلى أبحاثي عن عدن وبيروت وإسطنبول.

واليمن لا يمثل بالنسبة لي بلدًا غريبًا، فهو جزء لا يتجزأ من حياتي ومترسخ في نفسي كأنه وطن آخر، أُعْنى بمصيره وأتابع ما يحدث له. فشبابي متعلق باليمن؛ إذ ذهبت لأول مرة إلى هناك في ديسمبر ١٩٧٩م، لأعمل في البعثة الطبية الفرنسية بالمستشفى الجمهوري في تعز، وكان عمري آنذاك ٢١ سنة. أقمت في تعز سنة ونصف سنة، وجرى اختياري للعمل في البعثة الطبية بسبب دراستي اللغة العربية، وتنقلت في تلك المدة بين تعز، وصنعاء، والحديدة حيث كنت أُجرِي تخليصًا للأجهزة الطبية والأدوية، وعملت أيضًا مترجمًا لدى البعثة الطبية. وغالبًا ما كان سكان مدينة تعز يدعوننا إلى بيوتهم التي كانت تحفل بالمسامرة والتحادث، وبأداء مغنين وعازفين محليين.

وعندما عدت إلى باريس قررت أن أكمل دراستي للغة العربية، واخترت موضوع ماجستير متعلقًا باللهجات اليمنية، فترجمت بمساعدة صديق يمني من تعز بعض أغانٍ شعبية يمنية، ودخلت في متاهات الشعر الحميني الذي هو مزيج من اللهجة الصنعانية واللغة الفصحى. وفي إطار الماجستير اخترت موضوعًا ثانيًا متعلقًا بسيرة حياة العالم اليمني الكبير أبي محمد الحسن الهمداني الذي ولد في عام ٨٩٣م في مدينة صنعاء، وبفضل هذه الدراسة أصبحت أكثر وعيًا برهانات كتابة التاريخ اليمني، الذي لا تزال آثاره قائمة إلى اليوم في الصراعات السياسية، وتحديد الهوية الوطنية.

اليمن في الدراسات الأنثروبولوجية

سأروي هنا مساري بصفتي أنثروبولوجيًّا في اليمن، وشاهدًا على مرحلة انفتاح اليمن بعد انتهاء الحرب في عام ١٩٧٠م، وعلى موقع اليمن في مشهد العلوم الاجتماعية، وبخاصة الأنثروبولوجيا. وسأبدأ بذكر ما كتبه المثقف اليمني الكبير المرحوم هشام علي بن علي في كتابه «رؤية اليمن، قراءة في الكتابات الاستشراقية والأنثروبولوجية»، المنشور في عام ٢٠١٠م في دار نشر جامعة صنعاء:

«يبدو اهتمام الباحثين الأنثروبولوجيين ببعض الظواهر التي تؤكد انقسام المجتمعات وانشطارها إلى أشلاء، أو أقليات أو قبائل، أو غيرها من الظواهر التي تصدم الاتجاه الأيديولوجي أو القومي الذي يرى وحدة المجتمع ولا يلحظ أية تكوينات انشطارية داخل الوحدة، هذه الحالة التشطيرية أو التراتبية التي تنال اهتمام الباحث الأنثروبولوجي؛ لأسباب لا يعلن عنها في الغالب، هي ذاتها التي تضع علامة استفهام أمام اختيار البحث. وفي ظل غياب البحث الأنثروبولوجي في الجامعات ومراكز البحوث الوطنية…، فالشك الناشئ عن هذه الاختيارات، يجعل علم الأنثروبولوجيا في مجتمعاتنا غريبًا ومثيرًا للأسئلة والارتياب».

لكن الأستاذ هشام علي، الذي تشرفت بمعرفته عندما كان وكيل وزارة الثقافة في صنعاء، ساهم كثيرًا في إزالة هذا الارتياب في كتابه المذكور؛ إذ قدّم بصورة نقدية وعميقة أهم البحوث الأنثروبولوجية التي أجريت في اليمن في المرحلة التي كنا نعدّها المرحلة الذهبية للبحث العلمي عن المجتمع اليمني، بين منتصف السبعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

وينبغي هنا أن نسهم في الجواب عن أسئلته، حول اختيارات الأنثروبولوجيين في بحوثهم عن اليمن، بالتنبيه إلى المكانة الخاصة التي كان يحتلها آنذاك اليمن في مجال الدراسات الأنثروبولوجية. أذكر في هذا الصدد المقال الشهير للأنثروبولوجية الأميركية ليلى أبو لغد الذي نشر في عام 1989م، والذي حددت فيه ثلاثة محاور رئيسة تهيمن على البحوث الأنثروبولوجية عن العالم العربي باللغة الإنجليزية، وهي: النظم القبلية، والدراسات النسوية والإسلام، كما سلطت الضوء على منطقتين مرموقتين لتطور النظرية الأنثروبولوجية فيما يتعلق بهذه المنطقة: المغرب العربي، واليمن الشمالي.

إن كثيرًا من الأنثروبولوجيين الأجانب اختاروا أن يقوموا بدراسات ميدانية في المناطق القبلية لليمن الشمالي، لا الأجانب فقط؛ إذ نذكر بعض الباحثين اليمنيين الذين كرسوا أبحاثهم في إطار تحضير رسالة الدكتوراه في دراسة النظم القبلية، وأذكر هنا على سبيل المثال رئيس مجلس القيادة الرئاسي الدكتور رشاد العليمي وكتابه «القضاء القبلي في اليمن» الصادر في ١٩٨٦م، والدكتور فضل أبو غانم وكتابيه «البنية القبلية في اليمن» الصادر في عام ١٩٨٥م، و«القبيلة والدولة في اليمن» الصار في ١٩٩٠م. فهذه الكتب لا تزال مراجع مهمة لفهم مكانة النظام القبلي في المجتمع اليمني.

ويُعَدُّ الأنثروبولوجي الفرنسي من أصل سوري جوزيف شلحود من أوائل الذين قاموا بدراسات ميدانية في اليمن الشمالي في بداية السبعينيات، وأشرف على كتاب جماعي ذي ثلاثة مجلدات، عنوانه: «العربية الجنوبية»، وقد صدر في ١٩٨٥م، و١٩٨٦م ومثّل مرجعًا أساسيًّا في اللغة الفرنسية لمعرفة المجتمع اليمني، في مدة طويلة حتى زاد عدد الدراسات حول اليمن.

القبيلة ومركزيتها

إن موضوع القبيلة كان لافتًا للانتباه؛ بسبب أهميته الاجتماعية والثقافية والسياسية في المجتمع اليمني، وبسبب مركزيته في النظريات الأنثروبولوجية المتعلقة بالعالم العربي. وباستثناء البحوث التي أجراها باحثون بريطانيون في حقبة الاحتلال البريطاني في جنوب اليمن، مثل الأستاذ روبرت سرجانت، وباحثين روس في حقبة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، فإن الدراسات عن الجنوب وعن المحافظات الجنوبية في اليمن الشمالي السابق كانت أقل وفرة من تلك التي تناولت المرتفعات الشمالية، ولم تبدأ في التطور إلا في تسعينيات القرن الماضي بعد قيام الوحدة اليمنية.

بعيدًا من المناقشات الأكاديمية حول النظم القبلية في اليمن، ومنها الجدل بين الأنثروبولوجي البريطاني بول دريش والأنثروبولوجية الأميركية مرتا موندي، يبدو أن البلاد غالبًا ما كان يُنظر إليها من المرتفعات الشمالية كما لو أن بقية اليمن أقل «أصالة»، كما لو أن اليمن الحقيقي في الشمال. ينبع هذا النوع من التمثيل من الهيمنة السياسية المتمركزة في صنعاء، ولكن أيضًا من مجموعة من الصور النمطية التي تربط بين القبائل والهضاب العليا والهوية اليمنية.

وتستمر هذه التمثلات بين بعض المتخصصين في البلاد، ويرجع ذلك إلى عدد من العوامل: تقسيم البلاد حتى عام 1990م واستحالة إجراء البحوث في الجنوب حتى ذلك التاريخ، والانبهار بالبنية القبلية والطابع التقليدي للمجتمع اليمني المرتبط بالشمال.

وفي نظري أن هذا التصور أفضى إلى إهمال كثير من المناطق التي لا تتميز بهذه السمة القبلية أو بصورة أقل، وبالأخص المراكز الحضرية، وهذا يعود أيضًا إلى تطور الأنثروبولوجية الحضرية البطيء داخل الأنثروبولوجية، بصورة عامة. وباستثناء الأنثروبولوجي الأميركي برنكلي ميسيك، الذي درس دراسة ميدانية عن مدينة إب لرسالة الدكتوراه التي نوقشت في عام ١٩٧٨م، فإن المدن اليمنية لم تلفت كثيرًا اهتمام الباحثين اليمنيين والأجانب الذين يدرسون المجتمعات المعاصرة. فمثلًا نشر الأنثروبولوجي برنكلي ميسيك كتابين مهمين عن النصوص الإسلامية والشريعة في اليمن، لكنه لم ينشر رسالته للدكتوراه، كأنه لم يعد هذه الدراسة، التي تعنى بمركز حضري، تستحق النشر أو أنها ستثير الانتباه.

والجدير بالذكر أن المشهد العلمي قد تغير بعد ربع قرن من دراسة ليلى أبو لغد عن اتجاهات البحث الأنثروبولوجي في العالم العربي، وقد أشارت لارا ديب وجيسيكا واينجار في مقال عن الأنثروبولوجية الأنغلوسكسونية، نُشر في عام 2012م، إلى أن أغلبية الدراسات الأنثروبولوجية عن هذه المنطقة تتم في العواصم وفي مصر بشكل رئيس، يليها لبنان وفلسطين، مع ظهور دول الخليج موقعًا مفضلًا لإجراء الدراسات الاستقصائية. وهكذا تحول تركيز البحوث من البيئة القبلية إلى السياق الحضري، وهو ما أدى أيضًا إلى تجديد في المناهج والإشكاليات.

فلو أن الدراستين المذكورتين لمتابعة اتجاهات الأنثروبولوجيا في العالم العربي أخذتا في الحُسبان الدراسات باللغة الفرنسية، ناهيك عن الدراسات باللغة العربية؛ لاكتشفتا أن بعض الدراسات الميدانية في المدن أجريت في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، في اليمن وفي العالم العربي، وهذا يعود بالنسبة للحقل العلمي الفرنسي إلى إرث أكاديمي متمثل في الدراسات الحضرية في المغرب وفي الشرق الأوسط.

أسواق صنعاء والتراتبية الاجتماعية اليمنية

عند إقامتي الثانية في اليمن، حيث قضيت ثلاث سنوات في صنعاء بين ١٩٨٣م و١٩٨٦م لمباشرة بحث رسالة الدكتوراه، اخترت موضوع أسواق صنعاء والمجتمع الحضري. فكما ذكرت، كانت معظم الأبحاث الأنثروبولوجية تُجرى في البيئة القبلية وفي الهضاب العليا، في شمال اليمن الذي كان مقسمًا آنذاك إلى شطرين.

كانت مسألة التراتبية الاجتماعية اليمنية هي أول ما أثار اهتمامي؛ بسبب مركزية موضوع التراتب الاجتماعي في الأنثروبولوجية، وقادتني إلى العمل الميداني عن أسواق صنعاء. ولذلك ركزت أبحاثي في البداية على العلاقات بين المهن والتراتبية الاجتماعية، وعلى مسألة الحراك الاجتماعي.

كان المرجعان الأساسيان لدراستي هذه بحث الأنثروبولوجي النمساوي ولتر دوستال عن أسواق صنعاء الذي نشر في الكتاب الجماعي «صنعاء مدينة عربية وإسلامية» الصادر في ١٩٨٣م، وبحث الأنثروبولوجي الأميركي كليفورد غيرتز عن سوق صفرو في المغرب الذي صدر في عام ١٩٧٩م. أثارت اهتمامي نظرية هذا الأخير حول «نظام التصنيف المحلي الذي يعرف الناس من خلاله أنفسهم بالنسبة لعائلتهم وقريتهم وقبيلتهم ومدينتهم»، ومعرفة مجالات الممارسة التي يمكن للمرء أن يتفاعل فيها.

في صنعاء تعلمت أن أكون باحثًا أنثروبولوجيًّا، أن أستمع إلى حكايات الناس، وأن أتعرف بصورة أكثر عمقًا إلى طبيعة العلاقات الاجتماعية في مدينة كانت تعيش تحولات مهمة بتوسعها، وتدفق المهاجرين من الأرياف ومن المدن الأخرى. فاعتبرت أسواق صنعاء كنوع من مرصد لهذه التحولات الاجتماعية والاقتصادية؛ إذ إن الأسواق كانت تعكس نوعًا من الصراع بين نظام اجتماعي قديم لا يزال يؤثر في الروابط والتمثلات الاجتماعية ونظام جديد كان يؤثر فيها؛ بسبب الفرص الجديدة التي حلت بالمجتمع بفضل انتشار التعليم والهجرة إلى البلدان المجاورة.

البحث الميداني في اليمن لا يمكن أن يستغني عن التمعن في المصادر المكتوبة، ونظرًا لأهمية المراجع التأريخية اليمنية، ولا سيما التي تتعلق بمدينة صنعاء، فإن البحث الأنثروبولوجي يقتضي دمج مستويات مختلفة من الملاحظة، ومن تنويع المصادر الشفوية والمكتوبة، ومن تحليل الإرث التاريخي والثقافي في الأشكال المختلفة للتعبير؛ لذلك كرست جزءًا من بحثي لدراسة المركزية السياسية للسوق، من خلال تسليط الضوء على حدث تأريخي وقع في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في وقت فراغ سياسي، عندما برز حكم ذاتي في المدينة، وتنظيم إداري خاص لها، وظهور شخصيتي التاجر أحمد الحيمي والعاقل وتاجر قشر البن محسن معيض اللذين أقاما سلطة مستقلة في المدينة.

استطعت أن أبين بعض الخصائص الاجتماعية للمجتمع الصنعاني التي كانت مبنية على شعور الانتماء إلى هذا المجتمع، وعلاقته المزدوجة مع محيطه القبلي؛ إذ إنه كان يمكن أن نَعُدُّ السوق عتبة الدخول إلى المدينة، والبوابة الداخلية للمدينة بالنسبة للمحيط القبلي، بينما كان جزء كبير من السكان الحضريين يدعون أنهم من أصل قبلي.

لقد لحظت خلال معاشرتي المجتمع الصنعاني قوة شعور الانتماء إلى المدينة المتمثل في الحفاظ على بعض العادات والتقاليد الصنعانية، ناهيك عن اللهجة الصنعانية. وبالطبع المدينة التي عرفتها في ثمانينيات القرن المنصرم حتى بداية سنة 2000م تغيرت كثيرًا في نسيجها الديمغرافي والاجتماعي، وأثرت تداعيات الحرب في مجالها الثقافي بالمعنى المتعدد الجوانب لمفهوم الثقافة.

التنوع الثقافي اليمني

صارت رسالة الدكتوراه كتابًا ترجم إلى اللغة العربية بعنوان: «شيخ الليل: أسواق صنعاء والمجتمع الحضري». ومن تجربتي البحثية الأولى في مدينة صنعاء أصبحت متخصصًا في أنثروبولوجيا المدن، ودراستي لأسواق صنعاء جعلتني أتمعن في تحليل مفهوم المدينية الذي طورته فيما بعد عندما أعددت دراسة أخرى عن عدن وبيروت، التي قدمتها في كتاب آخر مترجم إلى اللغة العربية بعنوان: «مدن متنازعة: بيروت، صنعاء، عدن». يجمع هذا الكتاب دراسات تتناول هذه المدن، وتستند إلى مفهوم المدينية على أنها مصدر هويات أو نموذج تماهٍ وتصنيف. والكتاب الثالث المترجم إلى اللغة العربية مكرس للدور الثقافي لبيروت، وعنوانه: «الكتاب والمدينة: بيروت والنشر العربي».

لقد أخذت في الحسبان في دراساتي المصادر التأريخية المحلية والدراسات المعاصرة للباحثين العرب؛ لكي أتجنب التطبيق الأعمى لنظريات مستوردة، ولأنها أيضًا موضوع الدراسة، مثل مفهوم «ترييف المدينة» الذي يستخدمه بعض علماء الاجتماع العرب، والذي يربط المدينة بنموذج ثقافي واجتماعي قوامه الانفتاح، وبنموذج سياسي ديمقراطي قد يستوحي تجارب محلية مثل التجارب البرلمانية السابقة في الشرق الأدنى في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وهذه الرؤية المثالية للمدينة تسلط الضوء على ميل راسخ لربط التمدن بالمدينة والمواطنة.

وفي صنعاء كنت أسكن في المركز الفرنسي للدراسات اليمنية، وكنت أشتري لمكتبة المركز الإصدارات الجديدة التي كانت تنشر في اليمن، فصرت أتعرف أكثر وأكثر إلى الثقافة المكتوبة في اليمن، بينما كنت أتعرف على الثقافة الشفاهية الغنية، فاهتممت كثيرًا بالتنوع الثقافي اليمني، حيث لا يزال جزء كبير من التراث حيًّا ومبدعًا؛ من الزوامل القبلية إلى الشعر الحميني، مرورًا بفن البناء وزخارفه، والطقوس الاجتماعية التي تعبر عن الروابط الاجتماعية والعائلية.

أريد أن أشير هنا إلى بحوث أنثروبولوجييْنِ فرنسييْنِ ساهَمَا كثيرًا في التعريف بالتراث اليمني والحفاظ عليه؛ هما الدكتور بول بوننفان الذي كرّس حياته لدراسة الفن المعماري اليمني، سواءٌ في صنعاء أو في زبيد، والدكتور جان لامبير الذي درس الموسيقا اليمنية، ولا سيما الغناء الصنعاني، والذي تعلم الغناء وعزف العود الصنعاني المسمى القنبوس أو الطرب. ويمكن القول: إنه بينما كان معظم الأنثروبولوجيين الأنغلوسكسونيين يوجّهون دراساتهم الميدانية إلى الريف والمحيط القبلي، كان الأنثروبولوجيون الفرنسيون يوجهون أبحاثهم إلى المجتمع الحضري.

في كلتا الحالتين نلحظ أن الدراسات الأنثروبولوجية عن اليمن، منذ ثمانينيات القرن العشرين، لم توسع فقط المعرفة بظواهر مهمة من المجتمع اليمني في الأوساط الأكاديمية، بل حوّلت اليمن إلى أرض خصبة للنظريات والمقارنات العلمية، فساهم البحث العلمي في كسر العزلة التي كان يعانيها اليمن لأسباب تاريخية وسياسية. والدليل على ذلك إدخال الحالة اليمنية في المشروعات البحثية المعنية بالتعريف بالعالم العربي والشرق الأوسط، أو مناقشة بعض النظريات الخاصة لهذه الدائرة الثقافية أو الخارجة عنها.

وقد أجريتُ عملية فرز اعتباطي لأهم الدراسات في العلوم الاجتماعية والإنسانية، فوجدت أنها في كل الحقول العلمية؛ من دراسات النقوش والممالك العربية الجنوبية القديمة، وتأريخ اليمن في حِقبه المختلفة، وتكوين الوطنية اليمنية، مرورًا بالدراسات الأنثروبولوجية أو السياسية عن القبيلة، المدينة، الروابط الأسرية، التراث الشفوي والمكتوب وخصائص النظام السياسي. فالباحثون أدخلوا اليمن في الخريطة العلمية من خلال المقارنة العلمية التي تطور المعرفة والنظريات العلمية، وهذا انطلاقًا من الحالة اليمنية.

الترجمة ممارسة أنثروبولوجية

إقامتي الثالثة والأخيرة في اليمن كانت بين عامَيْ ١٩٩١م و١٩٩٧م، حين أصبحت مديرًا للمركز الفرنسي للدراسات اليمنية بصنعاء. وبينما قضيت السنوات 1983-1986م في بيئة يغلب عليها الطابع الصنعاني، فإن المدة بين 1991-1997م عرّفتني العديد من أبناء الجنوب، سواء في صنعاء أو حضرموت أو عدن، حيث كنت أسافر كثيرًا. كانت هذه المرحلة حاسمة بالنسبة لليمن؛ إذ تزامنت مع السنوات الأولى للوحدة التي أُعلنت في 22 مايو 1990م.

وقد كرست جهودي في تطوير التعاون العلمي مع المؤسسات اليمنية، مثل الهيئة العامة للآثار، ودور الكتب والمتاحف، ومركز الدراسات والبحوث اليمني، والهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية والجامعات اليمنية. فلم يكن هذا العمل ينحصر في البعد الإداري فقط؛ إذ أتاح لي الفرصة كي أشاهد تحولات أشكال الحكم والإدارة في اليمن بعد الوحدة وبعد حرب ١٩٩٤م.

فإلى جانب استقبال البعثات الأثرية الفرنسية، التي تكاثرت في هذه المدة، وتنظيم أعمالها قضيت وقتًا طويلًا في تنسيق الترميم لمسجد عباس في أسناف بالتعاون مع الهيئة العامة للآثار اليمنية. وهذا العمل الذي أشرفَتْ عليه من الجانب الفرنسي الأستاذةُ ماريلين باري استغرق نحو خمس سنوات من عام ١٩٩٢م إلى عام ١٩٩٦م، ونال جائزة آغا خان للعمارة في عام ٢٠٠٤م. وفي هذه المدة بدأت مسيرتي الطويلة، والمستمرة حتى اليوم، والمتمثلة في إنشاء مشروعات للترجمة بين اللغتين العربية والفرنسية في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية. حرصتُ على أن تترجَم الأبحاث المكتوبة بالفرنسية عن اليمن، وعلى أن تترجَم الأبحاث المكتوبة بالعربية إلى الفرنسية. وكانت مشروعات الترجمة هذه استجابةً لالتزامٍ بضرورة استعادة المعارف المنتَجة عن المجتمعات التي تستضيفنا، بما يتيح وضعها في سياق السجال الثقافي والنقدي الدائر في المجتمع.

ومن ضمن الكتب اليمنية التي ترجمناها إلى اللغة الفرنسية؛ أذكر من بين الكتب الأولى: «هجر العلم ومعاقله في اليمن» للقاضي إسماعيل الأكوع، و«رحلة حايم حبشوش مع جوزيف هاليفي في اليمن» المترجم من اللهجة الصنعانية. ومن اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية: «شبوة عاصمة حضرموت القديمة» لجان فرنسوا بريتون، و«فن الزخرفة الخشبية في صنعاء» لجييميت وبول بوننفان. ناهيك عن عدد من كتب باللغة العربية لباحثين يمنيين. وإذا عدنا إلى عمل الترجمة، فإنها أيضًا ممارسة أنثروبولوجية؛ لأن الترجمة مثل الأنثروبولوجيا؛ إذ تعتمد على التحقيق في العلاقة بين المعاني والسياقات الثقافية.

وكما كانت إقامتي الأولى في تعز قد أنشأت علاقة خاصة بهذه المدينة وسكانها، وأوجدت أبحاثي وإقامتي الطويلة بصنعاء روابط بيني وبين أهلها؛ فإن زياراتي الكثيرة إلى عدن أدخلتني في نادي محبي هذه المدينة التي تمثل محطة خيالية وأدبية لليمنيين والعرب والغربيين بغض النظر عن ركائزهم المرجعية. فإقامة الشاعر الفرنسي رامبو، الذي أمضى فيها 45 شهرًا ما بين 1880-1891م، أدخلتها في الخيال الأدبي الغربي، وكذلك كتاب عدن العربية للكاتب الفرنسي بول نيزان الذي أقام في عدن في ١٩٢٧م.

ونذكر في هذا الصدد بيت رامبو، اسم المركز الثقافي الفرنسي اليمني الذي افتتح رسميًّا في عام ١٩٩١م والذي أغلق في عام ١٩٩٧م، والذي كان أصلًا معملًا للتاجر الفرنسي باردي. وقد أعددتُ دراسات عن البعد الخيالي والأسطوري لعدن، مثل مقارنة الأسس الأسطورية لصنعاء وعدن، وموقع عدن في الخيال، والشهادات الأوربية والعربية. حاولت أيضًا أن أحدد كيفيات تشكل الكوزموبوليتية العدنية، وطابعها الاستعماري والتراتبي.

في وضع اليمن الراهن

في عدن برز من هذه الكوزموبوليتية الكولونيالية مجتمع مدني جديد على ضفاف المحيط الهندي في «الجنوب العربي»، على ما سماه البريطانيون من أجل تمييزه عن اليمن الشمالي، الذي وقع تحت الهيمنة العثمانية، ومن ثم الإمامة الزيدية. وعلى وقع تغيرات اسم اليمن والتحولات التاريخية المترتبة عليها، تغيرت مكانة المدينة ونسيجها الاجتماعي وشكلها، ونماذج التماهي وصلتها بالآخر القريب والبعيد. فليس مصادفة أنه في العام نفسه، أي في ٢٠١٤م، نشرت روايتان مهمتان لكاتبين يمنيين كبيرين؛ «ستيمر بوينت» لأحمد زين، و«بخور عدني» لعلي المقري. فهما قد استعادا خيال عدن في الحقبة البريطانية؛ ليجعلا هذه المدينة مكانًا لروايتيهما، وموضعًا للتأمل في الحداثة والهوية.

وأريد أن أشير هنا إلى أنه في وضعنا الراهن، حيث لا نستطيع أن نسافر إلى اليمن لإعداد دراسات ميدانية بسبب هذه الحرب المدمرة، يمكن للباحثين المختصين باليمن أن يستخدموا تجاربهم الحياتية والمعرفية السابقة لمتابعة الإنتاج الثقافي والمعرفي اليمني، وبخاصة في بلدان المنفى؛ ليوصلوا هذه الأصوات الجديدة إلى الفضاء العام والمجال الأكاديمي، من خلال الترجمة أو من خلال التعاون الجامعي. فعلى سبيل المثال، أود أن أذكر إنجازين حديثين يمثلان هذا الاتجاه: تحضير ملف عن الأدب اليمني المعاصر مع الصديق اليمني الكاتب علي المقري، وقد نُشر هذا الملف في عدد من مجلة «Arabian Humanities» المتخصصة بشبه الجزيرة العربية، التي يصدرها المركز الفرنسي للأبحاث في شبه الجزيرة العربية. إضافة إلى ترجمة نصوص يمنية عن الثورة والحرب في اليمن إلى اللغة الفرنسية، ونُشر هذا الكتاب بعنوان: «يمن كتابة الحرب».

أتاحت لي هذه الإقامة الأخيرة في اليمن، لمدة ست سنوات، أن ألعب دور المشاهد المتميز لمرحلة أساسية في تاريخ اليمن دشنها إعلان الوحدة، وأتذكر أنني كنت أتجول في صنعاء لشراء الصحف الجديدة التي صدرت في التسعينيات، وقد وثَّقتُها في المركز الفرنسي للدراسات اليمنية، ومع الأسف لم يستطع مدير آخر، هو المؤرخ ميشال توشرير، أن يكمل مشروع رقمنتها؛ لأنه اضطر إلى ترك اليمن في ٢٠١٣م. وكنت أشعر في هذه المدة أن تلك الصحف، في تنوعها، كانت تمثل كنزًا وثائقيًّا لا بد من الحفاظ عليه للمؤرخين القادمين.

فمن خلال شهادتي على الأحداث، ومتابعة الصحافة اليمنية المتنوعة والمزدهرة في هذه المدة، توسعت آفاق اهتماماتي الأنثروبولوجية، ولا سيما ما يخص الموروثات التاريخية للخصوصيات الإقليمية في اليمن وبناء مجتمع الوحدة اليمنية. ودرستُ أنثروبولوجية تأريخية عن هذا الموضوع، نشرت مقدمةً لكتاب «اليمن المعاصر» الذي شاركت في الإشراف عليه وترجمه إلى اللغة العربية الدكتور علي محمد زيد. ويحتوي هذا الكتاب على دراسات عن التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي حلت في السنوات الأولى لليمن في ظل الوحدة، وتلاه كتاب جماعي آخر نشر في عام ٢٠١٢م شاركت أيضًا في الإشراف عليه، وعنوانه: «يمن المنعطف الثوري» وترجمه باحثون يمنيون إلى اللغة العربية، وأود أن أشير إلى أن الكتابين يحتويان على دراسات لزملاء يمنيين.

وبعد عشر سنين من انطلاق الحرب في اليمن، يمكننا الآن أن نتساءل عن تأثير الحرب والمنفى في الإنتاج الثقافي والفكري اليمني في محاولاته بناء نظم تحليلية وسرديات جديدة لفهم هذا الواقع المأسوي، ولاستعادة القدرة على تشكيل المعنى ومواجهة تفكك الوطن واضمحلال آفاق الأمل. فهناك كثير من المؤشرات التي تقودنا إلى الاعتقاد بوجود فضاء ثقافي وفكري يمني يربط مراكز المنفى والداخل، ويتجسد في كثير من المبادرات التي تسعى إلى توثيق الوقائع، وكذلك في إبداع أدبي يتناول مواضيع حساسة للمجتمع اليمني. وعلى الباحث المهتم بالشأن اليمني الآن أن يتعمق في هذا الحقل الفكري والثقافي، وأن يرصد ويدرس هذا الإنتاج الثقافي. فهذه النشاطات الفكرية والثقافية كلها تثبت حق المجتمع في الإبداع، وفي إيجاد أجوبة للأسئلة التي تثيرها هذه الحرب، وفي إعطاء معنى للأحداث.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *