قررت لجنة الاختيار لجائزة الملك فيصل للغة العربية والأدب حجب الجائزة هذا العام 2025م، وموضوعها: «الدراسات التي تناولت الهوية في الأدب العربي»؛ نظرًا لعدم وفاء الأعمال العلمية المرشحة بمتطلبات الجائزة. أما جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام، فسيُعلَن عن الفائز في نهاية...
المقالات الأخيرة
جوائز الترجمة العربية… بين المنجز والمأمول
مما لا شك فيه أنَّ الترجمة فعل حضاري بامتياز، ووسيلة ناجعة لتحقيق التنمية المعرفية المستديمة؛ لأنَّها تمكننا من الاطلاع على علوم ومعارف وثقافات الآخر، وتسمح لنا بالتعرُّف، والفهم، ومحاورة الآخر، بشكل مباشر وغير مباشر. وإذا كان التعرُّف والفهم يطرح مشكلات معرفية ونظرية وأيديولوجية خاصة باللغة، والثقافة، والتاريخ، فإنَّ الالتزام بالأخلاقيات العلمية للترجمة، والإرادة السياسية الصالحة يؤديان إلى تجاوز عقبات وحواجز ومعوقات كثيرة تحول دون تحقيق تفاهم حضاري وإنساني بين مختلف اللغات والثقافات والأمم. وبهذا المعنى، فإنَّ الترجمة تُعَدُّ، بلا أدنى شك، فضاءً معرفيًّا تلتقي فيه الهوية أو الذات بغيرها من الهويات، وتمثل خطوة أولية وأساسية نحو الانفتاح على الآخر أو الغير، وعلى استقباله واستضافته في اختلافه وغيريته.
ولا أُجانِبُ الصوابَ إذا قلت: إنَّ الترجمة في الثقافة العربية المعاصرة، تعرف حضورًا فاعلًا ومتزايدًا سواء على المستوى الكمي أو النوعي، يشهد على ذلك المؤسَّسات التي تُعنى بالترجمة في كثير من البلدان العربية، واهتمام دور النشر العربية بنشر الكتب المترجمة، فلا تخلو، تقريبًا، دار نشر عربية من كتب في الترجمة، وإقبال القُرّاء على النصوص المترجمة، رغم ما يُقال عن المقروئيّة في العالم العربي، وتخصيص الترجمة بالجوائز التقديرية المحلية أو القطرية أو العربية، أبرزها جائزة الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمية للترجمة، وجائزة الشيخ زايد للكتاب، وجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي.
ولا غرابة في ذلك، فإنَّ هذا التوجه، يعد في تقديري بمنزلة استمرار وتواصل لما ميَّز الحضارة الإسلامية من بقية الحضارات القديمة، وأعني بذلك، تقديرها للترجمة، وانفتاحها على الآخر انفتاحًا قلَّ نظيره بين الأمم القديمة. يقول ابن خلدون: «لما انقرض أمر اليونان وصار الأمر للقياصرة وأخذوا بدين النصرانية هجروا تلك العلوم… ثم جاء الله بالإسلام، وكان لأهله الظهور الذي لا كفاءة له، فبعثوا الرُّسل لاستخراج علوم اليونانيين وانتساخها بالخط العربي، وبعث المترجمين لذلك، وعكف عليه النُّظار من أهل الإسلام، وحذقوا في فنونها، وانتهت إلى الغاية أنظارهم فيها، وأنَّها (أي عملية الترجمة) عارضة في العمران كثيرة»، وهو ما يعني أن الترجمة العربية القديمة قد حقَّقت أهدافها الحضارية. ومن هنا فإنَّ الرأي الذي يقول: «لو ظلَّت الحضارة العربية الإسلامية في طورها المتأخِّر، منفتحة على الآخر، انفتاحها عليه في طورها المتقدِّم، لَمَا كانت كارثة الانحطاط قد وقعت، أو على الأقل لَمَا كانت أخذت الشكل النهائي الذي أخذته»، وذلك أنَّنا نرى أنَّه مهما كان تقييمنا لهذه العملية الحضارية المتمثلة في ترجمة العلوم والآداب والفنون، فإنَّنا لا نختلف في أنها تُشكِّل مظهرًا من مظاهر نهضتنا الحديثة التي تُسهم فيه المؤسسات ودور النشر والجوائز المحلية والعربية، وقبل هذا وذاك يسهم فيها المترجم العربي الذي يعمل على تقديم المعارف والفنون والعلوم من مختلف لغات العالم مباشرة، من دون المرور بلغة ثانية، إلَّا فيما ندر، وذلك على خلاف ما كان يقوم به المترجم العربي الذي كان ينقل من السريانية واليونانية والفارسية إلى العربية، ولكن في الحالتين أصبح من الثابت أن التجديد الفكري والنهضة العلمية مشروطة بالترجمة، وبتطوير وإغناء العربية، وبخاصة من جهة المصطلح العلمي والفني والتقني.
أولًا- في المنجز
وفي هذا السياق، فإنَّ جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي، مثلًا، تؤدِّي دورًا حضاريًّا رائدًا، وإن احتفاءها بمرور عقد على تأسيسها (2015-2024م)، يؤكِّد تحوُّلها إلى مَعلَمٍ أساسي في مجال الترجمة، تُسهم فعليًّا في إرساء أرضية للتفاهم الحضاري، وذلك بحكم تميزها بسمات كثيرة، منها:
(أ) التركيز على التعدُّدية اللغوية والثقافية التي تشكِّل أفقًا للحضارة العالمية المنشودة، وهذا ما يتجسد في اختيارها لمجموعة من اللغات القومية التي يحتفى بها في كل دورة، سواء من حيث الدراسة أو التقدير بالجائزة، وكذلك من حيث ترجمة نصوصها من العربية وإليها، وهو ما يعني أن الجائزة قد انتقلت من مستوى (الثنائية) إلى مستوى (التعدُّد)، إذا صحت العبارة، وأنها بذلك تعترف وتقدِّر اللغات الإنسانية، مهما كان مستواها وانتشارها، واختلافها وتفردها، وتميزها وأصالتها، ودورها في عملية الربط بين الثقافات، وإغناء الثقافة الهدف، وبذلك تحقق الجائزة شعارها: من العربية إلى البشرية.
(ب) طريقتها التي تتألف من خطوتين متكاملتين؛ تهتم الأولى بدراسة وبحث مشكلات الترجمة في ندوة علمية موسومة بـ: الترجمة وإشكالات المثاقفة، تناقش فيه القضايا النظرية والعملية للترجمة، وتقدِّر وتقيِّم في الخطوة الثانية أعمال المترجمين، بعد تحكيمها، بجائز قيمة.
(ج) الحضور الكمي والنوعي المتزايد للمشاركين في فعاليات الجائزة السنوية، وتخصيص كل دورة من دوراتها للغة من اللغات العالمية، بـ«حيث بلغ عدد اللغات التي اهتمت بها أكثر من أربعين لغة(…)، وكرَّمت (27) مؤسسة ودار نشر من المؤسَّسات التي لها دور مهم في الترجمة، و(157) مترجمًا و(30) مترجمة، حيث فاز كثيرون من مختلف اللغات الحية عبر العالم».
(د) أسهمت الجائزة خلال عقد من الزمان في تعزيز فكرة الانفتاح الثقافي بين شعوب العالم، مستندة إلى الترجمة بوصفها واحدة من أهم أدوات الحد من الانغلاق الثقافي الذي تعانيه بعض الثقافات. ولقد لاحظنا خلال هذه السنوات العشر، إقبالًا كبيرًا من (مجتمع المترجمين) العرب وغير العرب على ترجمة أعمال عربية مهمة، وهو ما يعكس وعيًا واضحًا، واهتمامًا متزايدًا بقراءة الفكر العربي، ورغبة في الاطلاع على الثقافة العربية. ولا يخفى ما للمترجم من دور في تقديم هذا العمل للقارئ الذي بدوره يبحث عن كل ما من شأنه أن يعمل على تعزيز وإثراء الحوار العالمي، وثقافة التعدُّدية الثقافية والاعتراف بالآخر، مثمنا دور الجائزة في تقدير المبدعين من المترجمين، وهو ما يعطي دافعًا لاستمرار العطاء المعرفي والثقافي وقبلها العطاء اللغوي.
ثانيًا- في المأمول
والحق أنّه على الرغم من الإنجازات الكمية والنوعية التي حقّقتها الجائزة، فإنَّ القائمين عليها حريصون كل الحرص على تقديم المقترحات التي تُعَزِّز مكاسب الجائزة، وتستبعد كل ما يحول دون تحقيق أهدافها الثقافية الحضارية، وهو ما يظهر في مخاطبة المشاركين بتقديم المقترحات، وتأكيدهم في تقريرهم العام على «توسيع مدى وصول [الجائزة] وتطوير منهجيتها في تحديد الجهات المستحقة للتكريم والدعم(…) وتوسيع الفرق المتخصِّصة بين اللغة العربية وباقي اللغات، و[الاهتمام] بدور المترجم في علاقته بالذكاء الاصطناعي، وتحقيق التكامل والانسجام بين الذكاء الاصطناعي وعمل المترجم، دون الإخلال بالجانب الأخلاقي وآداب المهنة».
وفي تقديري، أنَّ ثمة جانبًا يمكن تعزيزه بجملة من المقترحات، وأعني بذلك عملية تحكيم النصوص المترجمة التي اقترح أن تدعم بالعناصر الآتية:
أولًا- تتمتَّع جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الحضاري بقدر عالٍ من الشفافية، بحيث أنَّها تعرض معايير تقييمها للأعمال المترجمة في موقعها الرسمي على الشبكة العنكبوتية. وإذا كانت تلك المعايير، وعددها(7)، تفي بالغرض، إلَّا أنَّني أرى ضرورة أن يقدِّم المؤلف والمترجم سيرة ذاتية علمية مفصلة، تكشف عن مكانة الكتاب من المؤلف أو المترجم ضمن مسارهما العلمي، وتسمح للمحكمين من تشكيل صورة دقيقة أكثر عن العمل المترجم، وبخاص من جهة الاختصاص. وإذا كان صحيحًا أنَّ الشبكة العنكبوتية تتوافر على قدر من المعلومات لبعض المؤلفين أو المترجمين، فإنها لا تستوفي الجميع، ولا تكون آنية أو محدثة دائمًا، وقد لا تكون دقيقة.
ثانيًا- يؤكد المعيار الأول والثاني أهميةَ العملِ في الثقافة المترجم منها وإليها، وعلى الاطار العام، وهنا أرى أنَّه من المفيد لو يتعزز بجملة من المعطيات يقدمها المحكمون، ومنها على سبيل المثال ما نُشِرَ من كُتب مماثلة أو قريبة من الموضوع في الثقافتين، بحيث تكون الموازنة والمقارنة قائمة على معطيات محدَّدة.
ثالثًا- بالنظر إلى أنَّ الجائزة تقبل الأعمال المترجمة التي لم تتجاوز خمس سنوات، وهو ما يعني أنَّ بعضها، على الأقل، يكون قد خضع للقراءة والتعليق والنقد؛ لذا أرى ضرورة الإشارة إلى هذه التعليقات وتوثيقها في عملية التقييم؛ لأنَّها من جهة تسمح للجنة بالوقوف على الآراء المختلفة، ومن جهة أخرى تكشف عن مدى مقروئية العمل، واحتسابها وفقًا لآلية حسابية دقيقة، تأخذ في الحُسبان تصنيف المجلة، وعدد الاقتباسات بحسب تقسيم مُعدٍّ سلفًا. وإذا كان صحيحًا أنَّ ثقافتنا العربية لا تتوافر على مجلات علمية وثقافية مختصة في مراجعة الكتب، فإنَّه من الصحيح أيضًا القول: إنَّ ثمة مجلات ودوريات أكاديمية تُخصِّص بابًا لمراجعة الكتب المؤلفة والمترجمة، وتقدِّم حول الكتب المترجمة بشكل خاص دراسات تحليلية ونقدية مفيدة في عملية التقييم.
رابعًا- يركز منهج التقييم على ضرورة الوقوف عند المصطلح، وهو أمر في غاية الأهمية، وبالنظر إلى أنَّ مسألة المصطلح في الترجمة مسألة محورية، وتطرح مشكلات كثيرة، فإنَّني أقترح أن تتقدَّم الجائزة واللجنة المشرفة بتوصية للمحكمين، تدعوهم فيها إلى وضع قائمة بالمصطلحات عامةً، والمصطلحات الجديدة خاصةً، وأن تكون هذه العملية مقدمة لوضع قاموس للمصطلحات المترجمة، وبخاصة المصطلحات الجديدة، وذلك ليس بغرض التوحيد، مع أنَّ هذا مطلب مشروع، وإنَّما بغرض الرصد والإثراء.
خامسًا- إذا كان صحيحًا أنَّ الجائزة تتلقى الأعمال المترجمة التي تستوفي الشروط والمعايير المعلنة، فإنَّه من المفيد أن تشجع الجائزة على ترجمة النصوص العلمية، وأقصد بذلك مجالات العلوم الرياضية والطبيعية والإنسانية والاجتماعية، وذلك خدمة للغة العربية، وللثقافة العربية الناهضة؛ إذ لا أحد منا ينكر ما تواجهه اللغة العربية من تحديات كثيرة تحول دون تمكُّنها من مسايرة الحداثة والطفرات العلمية والتقنية الهائلة التي يعرفها العالم، وتعرفها بعض اللغات العالمية. وإذا كان علماء اللغة واللسانيات يؤكِّدون المؤهلاتِ الفريدةَ للغة العربية، وغِنى معجمها، فإنَّه لا يمكن فصل مشاكل اللغة العربية عن حالة التشرذم والتردد السياسي والعلمي والتكنولوجي المهيمن في كثير من الدول العربية والإسلامية منذ ما اصطلح عليه بالنهضة العربية، وما تواجهه في عصر الرقمنة من مشكلات، والحاجة الماسّة إلى تنمية المحتوى العربي الرقمي. ولعل الشروع في تصميم معجم للمصطلحات المترجمة حديثًا قد يساعد على تجاوز هذه الحالة، ويغني اللغة العربية وثقافتها بمصدر حيوي ومتجدِّد.
المنشورات ذات الصلة
المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت يحتضن احتفاليتها «جائزة الملتقى» تُعلِن قائمتها القصيرة
بنشاط كبير يليق بتاريخ دولة الكويت الثقافي العريق، منارة الخليج العربي، بدأ المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب،...
جائزة الملك فيصل تحجب جائزة «اللغة العربية والأدب» وموضوعها «الدراسات التي تناولت الهوية في الأدب العربي» لعدم الوفاء بالمتطلبات
قررت لجنة الاختيار لجائزة الملك فيصل للغة العربية والأدب حجب الجائزة هذا العام 2025م، وموضوعها: «الدراسات التي تناولت...
تحتفل بمرور 10 سنوات على انطلاقها جائزة حمد للترجمة والتفاهم الدولي تواصل جهودها لنقل منارات الثقافة العربية وإسهاماتها في الحضارة الإنسانية
لا يبدو أن قضايا الترجمة والتحديات التي تواجه المترجمين العرب وسواهم، من المحدودية بحيث يمكن حصرها في أمور عدة، والعمل...
0 تعليق