قررت لجنة الاختيار لجائزة الملك فيصل للغة العربية والأدب حجب الجائزة هذا العام 2025م، وموضوعها: «الدراسات التي تناولت الهوية في الأدب العربي»؛ نظرًا لعدم وفاء الأعمال العلمية المرشحة بمتطلبات الجائزة. أما جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام، فسيُعلَن عن الفائز في نهاية...
المقالات الأخيرة
جماليات البيت وسردية الخواء… قراءة في روايات علاء الديب
تبدو دراسة التشكيل الجمالي للمكان في روايات الروائي المصري علاء الديب ضرورية لفهم طبيعة شخوص رواياته، وبخاصة شخصية المثقف التي تحتل مكانة مركزية في رواياته كلها. سيتوقف هذا البحث عند دراسة جماليات المكان في هذه الروايات، محاولًا استكشاف أمكنة المثقف، وعلاقته بها، ومدى تناغم هذه الأمكنة مع التكوين النفسي لشخصية المثقف، وتعبيرها عن رؤاه ووجهات نظره؛ إذ «أحيانًا يمكن للروائي أن يحول عنصر المكان إلى أداة للتعبير عن موقف الأبطال من العالم»، وسيتوقف البحث تحديدًا عند جماليات البيت، وكيفية صوغه وتشكيله جماليًّا؛ ليكون معبرًا عن البنية النفسية والشعورية للشخوص، وموقفهم الوجودي من العالم.
البيت
ربما يكون أكثر الأماكن المغلقة شيوعًا، وأهمها، هو البيت، نظرًا لما له من أهمية قصوى في حياة الإنسان؛ إذ إن «البيت هو ركننا في العالم. إنه، كما قيل مرارًا: كوننا الأول، كون حقيقي بكل ما للكلمة من معنى». فالبيت هو القوقعة التي يحتمي بها الإنسان من العالم، من تقلبات الطقس، من أعين الغرباء، المكان الذي يستريح فيه، ويكون على طبيعته، ويمارس حياته فيه بأريحية، وفي الوقت نفسه يكون الإنسان قادرًا على تشكيل المكان بطريقته الخاصة، بغض النظر عن حالة المكان المادية ومدى الرفاهية المتاحة فيه، وأيًّا كانت الطبقة الاجتماعية التي ينتمي لها الشخص، أو الفئة. كما أن البيت يكون معبرًا عن طبيعة الشخص وظروفه المادية.
يفتتح السارد وصف مكان البيت/ الغرفة التي يسكنها المروي عنها (عبدالخالق المسيري) في رواية «زهر الليمون»، بوصف يدل على فقرها وخلوها من الأثاث؛ ليقدم تمهيدًا ليس فقط للمكان، ولكن لطبيعة الشخصية وموقعها الاجتماعي وأحوالها المادية «ضوء صيف باتر، سريع، يلامس أطراف الأثاث القليل ويملأ فراغ الغرفة الخالية التي يسكنها عبدالخالق المسيري» (ص77).
بعد وصف الغرفة وفقرها، يتوقف السارد قليلًا عند وصف محتوياتها، هذه المحتويات الدالة على طبيعة تكوينه العقلي والثقافي، فإذا كانت الغرفة خالية من أي مظاهر للبذخ، فإن بها ما يشير لطبيعة النشاط العقلي ووعي الشخصية المروي عنها، فالمكان «قطعة شعورية وحسية من ذات الشخصية نفسها».
يعمد الراوي لوصف تفاصيل الغرفة ومحتوياتها، ومستوى الإضاءة الخافتة التي تتناغم مع الظلام النفسي الذي يسكن داخله «وفي عتمة الغرفة التي جلبها إغلاق النوافذ، راح يعيد ترتيب الكتب المتناثرة، وكأنه يطمئن عليها. دواوين الشعر العربي القديم، وروايات مترجمة، وكتب قليلة أهداها إليه الزوار وبعض الأصدقاء القدامى. وقف أمام صورته الكاريكاتيرية التي رسمها له زميل قديم وهو يمسك سيفًا وعلى كتفه مخلة من قماش ملون» (ص80).
هكذا نتعرف بشكل أعمق إلى شخصية البطل المثقف عبدالخالق المسيري من خلال وصف السارد لغرفته/ بيته، بل نتعرف كذلك إلى دوائر أصدقائه، وعوالمهم التي يعيشون فيها، فأصدقاؤه القدامى يهدونه كتبًا، وبين أصدقائه فنان تشكيلي يرسم له كاريكاتيرًا معبرًا عن حقيقة شخصيته. هذه الشخصية التي سنراها تتجسد أمامنا على مدار الرواية بعد ذلك. إنه يحارب مستخدمًا سيفًا، وكأنه قادم من عالم آخر، يخوض الحروب الآنية بأدوات قديمة لن تسعفه، ومن ثم فإن صديقه يتوقع له -بشكل مضمر- أن ينهزم في هذه الحرب/ الحياة، ومن خلال هذه الوصف لمحتويات المكان وديكوره، نتعرف أيضًا إلى طبيعة الجلسات التي تجمعه وأصدقاءه في هذه الغرفة، وكذا إلى رؤاهم الفلسفية والوجودية «إنما الناس سطور كتبت لكن بماء».
يتوالى وصف البيت/الغرفة، ويتوالى مع ذلك تعرفنا إلى المسيري، ذلك الشخص الحائر الممزق بين الاختيارات، منذ أبسط اختيار يواجهه يدخل معه في حيرة تبدو معها أزمته، حتى لو كانت هذه الحيرة في قرار بسيط مثل فتح نافذة من النافذتين الموجودتين في الغرفة. «عاد يسأل نفسه: أي النافذتين أفتح: الكبيرة الغربية التي تطل على السطح، أم العالية الصغيرة الشرقية التي تطل على الخليج وجبل عتاقة. هو لا يرى المنظر إلا عندما يتسلق الكرسي لكي يفتح الشباك. يراه للحظات قصيرة ثم يهبط من على الكرسي فلا يرى شيئًا. يظل المنظر في خياله فقط» (ص78).
بيت داخل البيت
يبدو وصف النوافذ في المقطع السابق بداية الانفتاح على العالم والخروج من الغرفة، فعين السارد تبدأ الانتقال من وصف الغرفة إلى وصف منافذها على الخارج. ثمة نافذتان، الكبيرة تطل على السطوح، أما الصغيرة العالية فتطل على منظر طبيعي لجبل عتاقة وخليج السويس. نحن أمام منظرين متناقضين، مشهد الخراب الممثل في السطوح وما به من قبح، ومشهد المنظر الطبيعي للجبل والخليج، لكن -للمفارقة- النافذة المطلة على السطوح/ الخراب كبيرة وفي مستوى المسيري، أما المطلة على الجمال فتبدو صغيرة وعالية، ومن ثم فإنه لا يتمكن من رؤية هذا المشهد والاستمتاع به، ليظل المنظر في خياله فقط.
يتحول السارد إلى وصف المشهد من نافذة السطح، ثم وصف السطح ذاته وما به من قبح وموات وجفاف للزرع، ثم ينفتح أكثر لوصف المدينة كلها، المدينة من سطوحها القذرة التي لا تختلف كثيرًا عن سطح غرفة المسيري، «نافذة السطح الكبيرة، تطل على سطح فقير أجرد تنبعث منه رائحة حرارة وغبار. وفي الأطراف مجموعة من صفائح وفخار مات الزرع فيها وجفت العيدان. باب غرفة أم يسري جارته مغلق، عليه حدوة حصان كبيرة، ورسوم ملونة بالطباشير، وبعد السطح على مدى البصر تربض المدينة ساكنة. أسطح قذرة ونوافذ مغلقة صماء» (ص78).
هكذا يبدو مكان المثقف، عبدالخالق المسيري، منعزلًا، بعيدًا، لا يشاركه فيه أحد، ويكتفي بمراقبة العالم من علٍ، يطل على القبح من بعيد، محاولًا عدم التورط مع العالم أو فيه، فقد اختار العزلة أو دُفع لها دفعًا.
لا يختلف حال أمين الألفي، بطل رواية «أيام وردية» عن المسيري كثيرًا، فعلى الرغم من أنه يعيش مع زوجته (شادن) وأبنائه (بسمة وبهجت)، فإنه يعيش منعزلًا ومتوحدًا أيضًا، بعد أن اصطنع لنفسه مكانًا يعزله عن زوجته وأولادهما، «توجه في تصميم إلى محارته الحميمة، أعز مخترعاته العلمية وأقربها إلى قلبه، إلى البلكونة الصغيرة التي أغلقها بالخشب والزجاج الخشن، فصارت عشه الوحيد، والسنتيمترات التي يملكها، يستطيع فيها أن يغلق على نفسه بابًا ويتنفس» (ص184).
هذه البلكونة لم تعد مجرد مكان مغلق، بل مكان داخل المكان، أو بيت داخل البيت، قوقعة خاصة بأمين الألفي، عالمه الخاص، تعزله عن كل ما حوله، المكان المنعزل الذي يستطيع فيه أن «يتنفس»، وكأن لا حياة له خارج هذه المحارة، محارة وحدته وانعزاله وقطيعته مع العالم وما يحدث فيه من تحولات. هذه البلكونة تشبه «الفقاعة التي يعيش الفرد بداخلها ويحملها معه أينما ذهب. وقد يشعر الناس، في بعض المجتمعات، أن مجاوزة هذه الفقاعة هي، في الواقع، اعتداء على حرية الفرد» وإن كان الاعتداء على بلكونة الألفي، ليس فقط اعتداء على حريته، بل على وجوده بالأساس. ولا تختلف محتويات البلكونة كثيرًا عن محتويات غرفة المسيري؛ إذ يوجد فيها «كل ممتلكاته الإنسانية، كتب قليلة يعرف بعضها، أشرطة كاسيت قديمة وجديدة، وأوراق. مجلات قديمة. صور لناس قديمة يقلب فيها أحيانًا ثم يعيدها إلى ظروفها البيضاء» (ص184).
إذا كانت الغرفتان، غرفة المسيري وغرفة الألفي، تتشابهان في محتوياتهما، الكتب والمجلات القديمة، وذكريات وصور من الماضي، فإنهما كذلك تتشابهان في الأجواء المقبضة المعتمة. فغرفة المسيري يقدمها السارد معتمة ومقبضة، بعد إغلاق النوافذ، في حين يقدم سارد «أيام وردية» غرفة أمين الألفي قائلًا: «في أركان البلكونة، وتحت سقفها المائل الخانق القريب، ساعات ممتدة من الوحدة، وأطنان من أثقال وهموم» (ص185). المثقف في الحالتين يعيش في ظلام وأجواء مقبضة، تتناسب مع ما يسكن داخله من ظلام وتخبط وانهيار، ويبدو أن العالم يضيق عليه، فجبل عتاقة والأسطح القذرة يحكمان الخناق على المسيري، وسقف البلكونة المائل يحكم الخناق على الألفي، فالعالم -في الحالتين- يكاد ينهدم على المثقف ويبتلعه داخله.
أماكن خانقة
في «أطفال بلا دموع»، يقيم «منير عبدالحميد فكار» في غرفة بنسيون ضيقة أيضًا، ويملؤها الظلام، بل إن هذا الظلام يشمل البنسيون كله، وليس غرفته فقط: «لا أستطيع أن أبقى طويلًا في غرفة البنسيون، أصعد وأنزل درجات السلم المظلمة العريضة، كلما ألمح المصعد المعطل، قبل الدور الثالث، أفكر أنني فيه، أنا في داخله محبوس» (ص267). المثقف هنا -كسابقيه- يعاني الظلام والوحدة؛ إذ يتحول المكان إلى سجن اختياري، يصنعه المثقف بنفسه، نتيجة فساد العالم، أو فساده هو، ففي الأحوال كافة ليس ثمة تواصل مع ما ومن حوله، بل إن «فكار» يرى انحباسه ويصرح به، كما يشعر بأن المكان يحكم الخناق عليه «الجدران تتحرك تجاهي خانقة» (ص268). الجدران هنا تؤدي الدور نفسه الذي يؤديه جبل عتاقة مع «المسيري»، أو سقف البلكونة المائل مع «الألفي»، فالأمكنة تضيق بالمثقف وتكاد تخنقه دومًا.
لا يختلف منير فكار عن سابقيه في العيش داخل مكان مظلم، حتى الضوء الذي ينسرب للغرفة يراه مخيفًا «باب غرفة البنسيون يشف عن ضوء غامض، بعيد، لا أستطيع أنا أن أخرج، لن يدخل أحد، لا صوت في المكان، مع أنني أعرف أنهم جميعًا هناك، هي مؤامرة ناجحة ضدي، سينطفئ النور» (ص268). بصيص الضوء يبدو للمثقف هنا غامضًا، فالمسيري يشك في كل من حوله، ويرى أن الجميع يتآمرون عليه، ومن ثم يتجلى موقفه النفسي هذا في المكان وإضاءته الخافتة والمظلمة أحيانًا، حتى الضوء الذي ينسرب له رغمًا عنه يتلقاه تلقيًا سلبيًّا بوصفه مؤامرة. يمكن القول: إن الظلام الواقعي في الغرفة بمنزلة تجل للظلام الذي يعشش داخل ذاته.
في رواية «القاهرة» تبدو شقة فتحي، على الرغم من اتساعها، شديدة الضيق، فتبدو كمكان خانق أيضًا، يعزل نفسه فيها عن العالم «في هذه الشقة، هذه العلبة التي يريد أن يغلق على نفسه فيها، كل الأشياء تتسرب، تدخل من الخروق. إنها علبة دودة القز، الخروق التي فيها للتنفس. ومن الخروق يتسرب كل شيء» (ص20) فهي -سرديًّا- تتحول إلى علبة، ويتحول ساكنها، من ثم، إلى دودة قز، فاقدًا وجوده الإنساني.
البيت القديم
بخلاف البيت الراهن، الذي تسكن فيه الشخصية، يظل هناك دومًا بيت قديم، أو بيت أول، بيت الطفولة والذكريات، والذي يظل رابضًا ومقيمًا في مكان ما داخل الذاكرة، لما له من حميمية وألفة، ففيه تسكن الذكريات الأولى، ومن ثم أي محاولة لاستعادة الماضي وتذكره لا بد من استعادة مكانها، فبيت الطفولة هو بيت الذكريات وموطنها الرئيس: «يصبح بيت الذكريات معقدًا سيكولوجيًّا. ويرتبط بزوايا وأركان العزلة، حجرة النوم وحجرة المعيشة التي تنتشر فيها الشخصيات الرئيسية». هذا التعقيد السيكولوجي للبيت القديم، بيت الطفولة والذكريات الأولى، يجعله حاضرًا طوال الوقت، وثمة رغبة دائمة في العودة إليه كمدخل للعودة إلى براءة الطفولة، ومن ثم يظل حاضرًا كطيف يداعب خيال الإنسان، يعيش معه دائمًا، ويقفز له في أحلامه وأحلام يقظته معًا؛ «لأن ذكرياتنا عن البيوت التي سكناها نعيشها مرة أخرى كحلم يقظة، فإن هذه البيوت تعيش معنا طيلة الحياة».
ثمة ملمح آخر يتصل بهذا الحضور الطاغي للبيت القديم؛ إذ يمثل «تجسيدات ما لأواصر الدم، وذكريات عن دفء القربى وملاذ الحصن واللعب واللهو، والبراءة، والتعرف والاكتشاف». هذه التجسيدات لهذه المعاني، تجعل البيت القديم، رغم ابتعاد المثقف منه مكانيًّا وزمنيًّا، تجعله «لا يزال قريبًا، ماثلًا، وأحيانًا ملاحقًا ملحاحًا» كما أن هذا الحضور الطاغي والملحاح يوازي «حنين العودة إلى حضن الأم، أو إلى رحمها، وموازية أيضًا للتوق إلى الفردوس الأول المفقود».
العودة للبيت القديم، بيت الطفولة، أو استعادته في الخيال، وتذكره الدائم، ليس مجانيًّا، بل مشحونًا بدلالات، ويعبر عن رغبة مُلِحّة في الهروب من الواقع وانهزاماته، إنها خطوة للوراء الآمن، هربًا من حاضر مخيف. عودة لماضٍ دافئ، هربًا من واقع بارد ومتفسخ.
هذا الحضور الطاغي لبيت الطفولة يبدو حاضرًا طوال الوقت في رواية «زهر الليمون»، ومن ثم تحتاج العودة إليه استعدادات خاصة وتأهبًا نفسيًّا «عليه الآن أن يهدأ، وأن يستعد للذهاب إلى بيت العائلة. المكان أقوى في الذهن منه في الواقع» (ص142)، هكذا يتأكد ما ذهب إليه باشلار من أن أمكنة الطفولة «نعيشها مرة أخرى كحلم يقظة»، وأنها «تعيش معنا طيلة الحياة»، فالسارد يؤكد أن بيت العائلة القديم له وجودان؛ أحدهما واقعي ملموس، والثاني ذهني متخيل في وعي المروي عنه، وهو الأقوى تأثيرًا والأكثر طغيانًا على شخصية المسيري.
بيت الطفولة
عند الإطلال على بيت الطفولة ذلك، نجده يتآكل ويتضاءل، كما تآكلت طفولته وأحلامه القديمة «كان البيت قديمًا قصيرًا. تحيط به مبانٍ حديثة وعمارات عالية. دور واحد، ترتفع فوقه بعض الأعمدة الخرسانية والطوب الأحمر، في مشروع لم يكتمل لدور ثانٍ» (ص143). إن السارد هنا يقدم لنا مكان طفولة المسيري، وفي الوقت نفسه يقدم لنا شخصية المسيري ذاته: الصغر والضآلة وسط عالم متغير، ومشروع بناء مجهض لم يكتمل. إنه -البيت وكذلك المسيري- حلم العائلة المجهض، والبناء الذي لم يستطع أن يواكب التغيرات من حوله، فأصبح منزويًا، علامة على زمن وأحلام كانت موجودة، لم تمت تمامًا، ولكنها لم تواصل المخطط لها، فظلت محض أطلال.
وينتقل السارد من اتساع البيت إلى محدودية الغرفة، غرفة المسيري في طفولته، التي أصابها التآكل هي الأخرى، أو على وجه الدقة تآكلت ملكيته لها «هذه الغرفة كانت غرفتي: الخلوة، ومهبط الوحي ووكر الملذات، ليس له فيها الآن سوى صندوق حديدي تحت السرير، وذكريات أيام معلقة في الهواء» (ص157). إن وصف الغرفة يقدمها بوصفها «الخلوة، ومهبط الوحي، ووكر الملذات»، وصف يشي بأن الطفل الذي كان يسكنها صاحب رسالة، منذور لتغيير العالم، ونشر رسالته، لكن أحلامه ورسالته القديمة لم يبقَ منهما سوى صندوق حديدي تحت السرير، وذكريات أيام معلقة في الهواء، فأحلامه ورسالته أصبحا قبض الريح.
في مقابل إطلال المسيري من الخارج على البيت، فإنه يطل -أيضًا- من البيت، وتحديدًا من نافذة غرفته، على العالم: «أطل من النافذة. ومن هناك رأى ما تبقى من شجرة الليمون، كانت ذابلة محصورة بين العمارات، لم يكن يظهر منها سوى ساق غليظة قديمة خشنة، وأوراق مصفرة ذابلة» (ص145). لم تختلف شجرة الليمون، عن البيت، وأصابه ما أصابه من تآكل وضآلة وذبول، وسط ما يموج به العالم من تغيرات، فهي الأخرى محصورة بين العمارات الحديثة، مخفية، لا يظهر منها سوى ساق قديمة خشنة، وأوراق مصفرة ذابلة، موشكة على الموات.
وإذا كان بيت طفولة المسيري ينبئ عن طفل صاحب أحلام ورسالة، فإن بيت أمين الألفي، مثقف «أيام وردية»، يشي بانضغاط وقهر يصاحبه منذ طفولته: «بيتهم القديم كان مزدحمًا عالي السقف، أو هكذا كان يشعر لأنه أصغر إخوته، ضائع بين سيقانهم، مضغوط في أماكن وهدوم ضيقة» (ص221). الألفي هنا مضغوط و«ضائع» منذ البداية، ليس مضغوطًا في المكان والغرف فقط، بل في الملابس أيضًا التي تعد المكان الأقرب للجسد، فالملابس هي المكان الأول الذي يحوي الجسد الإنساني، وقد كان الألفي منذ البدء مضغوطًا في «هدوم ضيقة».
لا يختلف بيت طفولة الألفي عن بيت المسيري، فكلاهما ابن الطبقة المتوسطة، وكلا البيتين منسي وضئيل، فالألفي عندما يرجع إلى بيت الطفولة: «يجده مكانًا صغيرًا منسيًّا غرب الأرض، يراه مكانًا مثيرًا للشفقة والرثاء» (ص247). فالبيت القديم مثير للشفقة والرثاء، كما كانت طفولته مثيرة لهما، وكما هي حاله في الكبر، مقيم في «بلكونة» صغيرة وضيقة ومنسية، ومثيرة للشفقة والرثاء.
يبدو بيت الطفولة، دائمًا، كشاهد قبر، وعلامة على البؤس، سواء البؤس الذي كان موجودًا وحاضرًا منذ البدء، أو البؤس الذي آل إليه، وضياعه وسط المباني والعمارات الحديثة، بؤس دالّ على حال الطبقة المتوسطة، ومثقفيها، وما أصاب هذه الطبقة مع ما شهدته مصر من تحولات سياسية واقتصادية، وعدم قدرتها على التماشي مع الانفتاح الاقتصادي الذي شهدته مصر في نهاية السبعينيات. فبيوت المثقفين التي عاشوا فيها طفولتهم في الخمسينيات والستينيات، يرونها في الثمانينيات ضئيلة وضائعة، تمامًا كما ضاعوا هم في غمرة التحولات التي عصفت بهم وبأحلامهم، ولم تَعُدْ تمثل لهم «تجسيدات ما لأواصر الدم، وذكريات عن دفء القربى وملاذ الحصن واللعب واللهو، والبراءة»، بقدر ما تمثل الانسحاق والضياع.
المنشورات ذات الصلة
نجوان درويش.. تجربة فلسطينية جسورة تليق بالشعر الجديد فاز بالجائزة الكبرى للشعر الأجنبي في فرنسا
ينتمي الشاعر الفلسطيني نجوان درويش (مواليد القدس 1978م) إلى التجربة الراهنة في مسيرة قصيدة النثر الفلسطينية...
«أغنية للعتمة» لإيمان حميدان… ماتريوشكا الحكايات والأنساب تشطر التاريخ في صعودها نحو الأغنية
الحياة لعبة سرد، مثلما أرادت نساء «أغنيات للعتمة» لإيمان حميدان، والسرد أول الزمان. فالحياة إذًا، لَعِب زمني؛ هكذا...
قراءة في تجربة العماني عوض اللويهي بين العتمة والماء يتشكل العالم
الشاعر العماني عوض اللويهي يقترح نصًّا مغايرًا، يبتعد من المألوف من خلال مجموعاته الشعرية: «العتمة تفر من ظلالها»،...
0 تعليق