قررت لجنة الاختيار لجائزة الملك فيصل للغة العربية والأدب حجب الجائزة هذا العام 2025م، وموضوعها: «الدراسات التي تناولت الهوية في الأدب العربي»؛ نظرًا لعدم وفاء الأعمال العلمية المرشحة بمتطلبات الجائزة. أما جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام، فسيُعلَن عن الفائز في نهاية...
المقالات الأخيرة
إعادة تشكيل الفضاءات العامة والخاصة في جدة بين التراث والحداثة
في العقود القليلة الماضية، نجح التوجه المكاني في العلوم الاجتماعية في إضافة المزيد من الدقة للدراسات المتعلقة بالحياة اليومية في المجتمعات المسلمة. وقد انتقد الباحثون الذين قادوا هذا التوجه الجديد، المقاربات السابقة التي تأسست على توجه مسبق يصور الرجال على أنهم يسيطرون على الفضاء العام، والنساء على أنهن مقيدات داخل الفضاء الخاص؛ بسبب التقاليد الدينية والنظام الاجتماعي الذكوري. ويعد كتاب «العمرانية الإسلامية الجديدة: هندسة الفضاءات العامة والخاصة في جدة، المملكة العربية السعودية» لستيفان مانيفال، والصادر عن دار نشر جامعة كوليدج لندن، عام 2020م، مساهمة لافتة في هذا السياق، فهو يجادل ضد الفرضية الغربية النمطية القائلة: إن الفصل بين الجنسين في المجتمعات المسلمة ينتج عنه فصل واضح بين الفضاءات العامة والخاصة، ويسعى لإثبات أن مفاهيم الخصوصية المختلفة في السياقات الثقافية المتنوعة تؤدي إلى نوع من التشابك داخل الفضاءات العامة والخاصة، حيث يؤدي الفضاء الخاص دورًا كبيرًا في تشكيل الفضاءات العامة النشطة.
الفضاءات الاجتماعية والتنوع السكاني
يقع الكتاب في ستة فصول. يستعرض الفصل الأول كيف ساهمت جدة، بوصفها محطة رئيسة للحجاج المسلمين المتجهين إلى مكة المكرمة، في تطوير النسيج العمراني لمدينة جدة في القرنين التاسع عشر والعشرين. في حين يأخذ الفصل الثاني القارئ في جولة بصرية في المدينة القديمة يستعين فيها الكاتب بالعديد من الصور الفوتوغرافية التي تبرز طبيعة النسيج المديني لجدة في تلك الحقبة وكيف جاءت التصاميم الخارجية والداخلية معبرة عن طبيعة الحياة آنذاك.
يصف مانيفال في هذا الفصل التضاريس المادية والهندسة المعمارية السكنية للمدينة القديمة، وكذلك الفضاءات الاجتماعية والتنوع السكاني الذي شكل هذه الفضاءات. وعبر فحص الهندسة المعمارية للمنازل السكنية والشوارع والأسواق والطبقات الاجتماعية والإثنيات المختلفة التي سكنت هذه الأماكن، يجادل مانيفال بأن الهندسة المعمارية في جدة في النصف الأول من القرن العشرين لم تضع حدودًا فاصلة بين الفضاءات العامة الخارجية والداخلية الخاصة. على سبيل المثال، في المساكن التقليدية ذات الطابقين، كان الرجال يزاولون الأعمال التجارية في الطابق الأرضي أو يخصصونه لإقامة الحجاج، وكان الطابق العلوي مخصصًا للأنشطة العائلية. كانت النساء داخل العائلة أو مع الجيران يتواصلن، مشكلات جمهورًا نشطًا من خلال تنظيم التجمعات الاجتماعية للاحتفال بالمناسبات، ومناقشة شؤون العائلات، وغير ذلك من الأحداث الاجتماعية. وبالمثل، في موسم الحج، بينما كان العديد من الرجال يعملون في مكة تجارًا ومرشدين للحجاج، كانت النساء يستخدمن الفضاءات العامة بحرية ونشاط، وهو ما يكشف أن الفصل بين الجنسين لم ينتج عنه فصل دائم ومميز بين فضاءات الرجال والنساء.
يوضح الفصل الثالث التغييرات الجذرية في البيئة العمرانية لجدة التي أتاحتها الثروة الناتجة من اكتشاف النفط. فخلال حقبة ما قبل النفط، كانت الهندسة المعمارية السكنية تفي بوظائف مختلفة مثل استقبال الضيوف، وتوفير الإقامة للحجاج، وتنظيم الأنشطة الاجتماعية. ومع ذلك، عملت المواد البنائية الجديدة والابتكارات في تقنيات البناء خلال عصر النفط إلى تغييرات مادية داخل الفضاءات العامة والخاصة، ما أفضى إلى التمايز والاستقطاب المكاني. وقد روجت الهندسة المعمارية السكنية الجديدة التي ازدهرت خلال هذه الحقبة لمفهوم جديد للخصوصية، حيث أصبح المنزل «مكانًا مخصصًا للأسرة بشكل أكبر، وحميمًا، ونسائيًّا»، وتبع ذلك نقل الأنشطة التجارية والتعليمية والترفيهية إلى أماكن خارجية. يعالج هذا الفصل أيضًا تأثير التقنية الحديثة، مثل أنظمة التكييف واستخدام السيارات، في تحويل طبيعة الفضاءات العامة والخاصة في المدينة؛ إذ لم تؤدِّ هذه التغييرات إلى تغيير الهندسة المعمارية للمدينة فقط، بل أيضًا إلى تغيير أنماط التفاعل الاجتماعي. فمع زيادة الاعتماد على السيارات، وتوسيع الطرق السريعة، تقلصت التفاعلات البشرية في الفضاءات العامة، وهو ما أضاف بُعدًا جديدًا للخصوصية في المدينة.
خطاب عمراني جديد
في الثمانينيات، بدأ العديد من المخططين الحضريين المحليين، والأكاديميين، والمهندسين المعماريين في انتقاد الاتجاهات العمرانية التي سادت إبان الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين لتجاهلها المبادئ التقليدية للحياة الاجتماعية في الأحياء، وكذلك مفهوم الخصوصية في الإسلام. وفي أثناء استعراض مانيفال للعديد من أعمال المهندسين المعماريين ومخططي المدن المنتمين لهذه الحقبة، يلحظ تشكل خطاب عمراني جديد في جدة أطلق عليه «العمرانية الإسلامية الجديدة». وفي الفصل الرابع، يجادل بأن ظهور هذا الخطاب يجب أن يفهم ضمن سياق الخطاب الأوسع لإحياء السلفية الذي ظهر في الثمانينيات والتسعينيات، المعروف باسم الصحوة الإسلامية.
يعالج الفصلان الخامس والسادس تأثير خطاب العمرانية الإسلامية الجديدة في الممارسات اليومية والثقافة المادية في جدة على مدار العقود القليلة الماضية. ففي الوقت الذي ركزت الهندسة المعمارية السكنية التي تطورت منذ الثمانينيات بشكل متزايد على حماية الخصوصية كوسيلة لدعم أسلوب حياة يتماشى مع القيم الدينية، قوبل هذا الاتجاه بالترحيب أيضًا من جانب الأشخاص الذين لا يتبعون النمط الديني المحافظ الذي يروج له المصلحون السلفيون، حيث تؤكد الفكرةُ الجديدة للخصوصية أيضًا أهميةَ الحريةِ الفردية، وتَحُدّ من التدخلات الخارجية في المساحات الشخصية. وقد أدى هذا المفهوم الجديد للخصوصية أيضًا إلى ازدهار التجمعات الثقافية الخاصة التي تستضيف فعاليات قد لا يسمح بها في الفضاءات العامة.
استخدم مانيفال مجموعة متنوعة من المصادر الأرشيفية وطرق العمل الميداني؛ لإعادة بناء التاريخ الاجتماعي لمدينة جدة في القرنين العشرين وأوائل الحادي والعشرين، مستكشفًا التفاعل بين «الهندسة المعمارية والتجمعات البشرية والممارسات الاجتماعية والخطاب» في تشكيل الفضاءات العامة والخاصة في المدينة. ومن الناحية النظرية، استلهم مانيفال من التدخلات الحديثة في الدراسات المكانية التي قدمها علماء مثل مارتينا لو ودورين ماسي اللتين تشددان على التشكيل الخطابي للفضاءات الاجتماعية. وقد ساعد هذا النهج مانيفال في مساءلة الفكرة الثابتة للفضاءات العامة الذكورية والخاصة الأنثوية، وتوجيهها نحو الطبيعة العلائقية لتشكيل هذه الفضاءات ضمن سياق ثقافي معين.
ومع ذلك، وبينما يناقش مانيفال في كتابه الاستجابة لخطاب العمرانية الإسلامية الجديدة، لم يُولِ كثيرًا من الاهتمام لتجربة المهاجرين من الطبقة الوسطى من جنوب وجنوب شرق آسيا الذين يشكلون جزءًا مهمًّا من سكان جدة. كان بإمكان مانيفال، وهو ما كان سيثري بحثه بشكل كبير، استكشاف المفاهيم المتصورة للخصوصية والفضاء العام لدى هؤلاء المهاجرين، وكيفية تفاوضهم بشأن هذه المفاهيم داخل تجمعات جدة المعمارية المتغيرة.
تحليل نظري ودراسة ميدانية
يبدو جليًّا أن مانيفال قد استفاد في مناقشة أطروحته من مناهج متعددة في دراسة هذا الموضوع؛ إذ اعتمد على الجمع بين التحليل النظري والدراسة الميدانية، ليقدم رؤية تفاعلية تعكس الطبيعة المتحولة للمدينة. وإضافة إلى ذلك عمل مانيفال على تطوير بعض الرؤى التي قدمها دولوز ودراسات هيك دليتز في علم الاجتماع المعماري، ليطرح بعض المفاهيم الجديدة حول كيفية تشكل الفضاءات الاجتماعية في ظل تأثير التقاليد الثقافية والمادية المتغيرة.
ومن الجوانب التي تستحق التأمل في دراسة مانيفال هو التحدي المنهجي في جمع البيانات وتحليلها في مدينة مثل جدة، فقد تعترض الباحث صعوبات تتعلق بالوصول إلى المصادر المحلية أو إتمام الدراسات الميدانية في بيئة تمتلك خصوصية ثقافية وتقاليد شبه محافظة. هذا التحدي يظهر بشكل خاص عند تناول قضايا حساسة مثل الفصل بين الجنسين، والخصوصية، والفضاءات العامة. ومع ذلك، تمكّن مانيفال من التغلب على هذه العقبات عبر الاستفادة من مجموعة متنوعة من المصادر الأرشيفية، وهو ما أثرى دراسته وزاد من مصداقيتها.
وعند مقارنة عمل مانيفال بما تناوله باحثون آخرون، مثل جون إسبرن في كتابه «المدينة العربية: من التقليد إلى التحديث»، نلحظ أن كتاب مانيفال يتفرد بتركيزه على مدينة «جدة» كحالة دراسية، ويتناول إسبرن المدن العربية عامةً، مع اهتمامه بتأثير التحولات السياسية والاجتماعية في العمارة. يفتح مانيفال بابًا جديدًا لفهم التحولات في الفضاءات الحضرية من خلال التركيز على البعد الثقافي والديني، وهو ما يغفله إسبرن في تحليلاته ذات الطابع الأكثر عمومية.
إن جدة، بكونها مدينة تتقاطع فيها الثقافات وتتعدد فيها الهويات، تقدم نموذجًا جيدًا لدراسة التفاعل بين التراث والحداثة. وقد امتاز تحليل مانيفال في كتابه بقدرته على كسر القوالب الجامدة التي طالما سيطرت على الدراسات المتعلقة بالمدن الإسلامية. وحاول من خلال كتابه الكشف عن تجليات الهوية الثقافية من خلال العمارة، فحلل بشكل منهجي دقيق كيف يعبر التصميم المعماري عن الهوية الثقافية والدينية للأفراد والمجتمعات وكيف يتفاعل مع العولمة والتحولات الحديثة. ومن خلال دمج هذه المفاهيم الفلسفية، يقدم الكتاب فهمًا تحليليًّا ثاقبًا للطرق التي تؤثر بها العمارة على تجربة الأفراد والمجتمعات، وهو ما يجعله مصدرًا مهمًّا للبحث في مجال العمارة الإسلامية.
المنشورات ذات الصلة
العمارة العربية من التقليدية إلى ما بعد الحداثة
إن العمارة العربية بمنتجاتها قد تأثرت وتفاعلت مع ما حولها. وكثير من المشروعات قد نتجت بسبب التفاعل المحلي والغربي أو...
الفراغ العمراني.. حضن للتفاعل الثقافي
تشهد السعودية مؤخرًا وفرة في الفعاليات الثقافية المعززة لبناء مشهد ثقافي شامل. ومع تنوع الوسائط والقنوات التي تصل بها...
العمارة الشرقية في تصاميم لو كوربوزييه
من بين العديد من المعماريين، الذين انتقلت أعمالهم خارج موطنهم وبيئتهم الأم، نال المعماري الفرنسي لو كوربوزييه (1887-...
0 تعليق