قررت لجنة الاختيار لجائزة الملك فيصل للغة العربية والأدب حجب الجائزة هذا العام 2025م، وموضوعها: «الدراسات التي تناولت الهوية في الأدب العربي»؛ نظرًا لعدم وفاء الأعمال العلمية المرشحة بمتطلبات الجائزة. أما جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام، فسيُعلَن عن الفائز في نهاية...
المقالات الأخيرة
هومي بابا: درس في الشغف
القراءة بطبيعتها فعالية منظمة لها قصدية واضحة. لا نتوقع أن يمضي المرء حياته وهو يقرأ من غير توجه مخصوص، ولو فعل هذا فسيضيع في متاهة فضاء لا نهائي من العناوين في شتى تلاوين المعرفة. القراءة المنتجة يتوجب بالضرورة أن تكون لها قصدية معرفية منذ البدء حتى لا تستحيل خبطًا عشوائيًّا غير منتج.
في غابة الكتب الأمازونية الرقمية
ما أيسر أن يتيه المرء منا في الغابة الأمازونية في أيامنا هذه. لستُ أقصدُ غابة الأمازون الاستوائية المطيرة؛ بل غابة الأمازون الرقمية الخاصة بالكتب. كثيرون منا جربوا البحث عن كتاب فيها، وعرفوا كيف أن هذه التجربة ستقودهم إلى عناوين شتى كل منها سيقود إلى عناوين أخرى في متوالية لا نهائية، ولو أن أحدنا لم يتخذ قرارًا صارمًا بالاكتفاء بكتابه فربما ستقتنصه غواية العناوين وأسماء المؤلفين. أظن أن غابة الكتب الأمازونية الرقمية هي التجسيد الأمثل لمكتبة (بورخس) التي رآها فردوسًا لا نهائيًّا من الشغف والبهجة والرهبة أيضًا إزاء حجم المعرفة المخبوءة فيها.
سأحكي هنا عن تجربة شخصية لي مع غابة الكتب الأمازونية. كنتُ قبل بضع سنوات أبحثُ في موضوعات محددة في نطاق ما يدعى بأدب ما بعد الكولونيالية، ويعرف المهتمون بهذا الأدب أن هومي بابا هو أحد الآباء المؤسسين لهذا الحقل البحثي إلى جانب إدوارد سعيد وغياتري سبيفاك. تطلبت حاجة بحثية مني مراجعة شاملة لكتب هومي بابا؛ فدلفتُ كما هو متوقعٌ إلى موقع أمازون بحثًا عن كتبه. أسَرَني -بين عناوين عديدة له أو شارك فيها أو مكتوبة عن أعماله- عنوانٌ بدا لي مثيرًا لم يكن من مرجعيات كتب بابا التي يشارُ إليها في مصادر أدب ما بعد الكولونيالية.
كان عنوان الكتاب «بابا وهواجسه المثيرة» (منشور عام 1994م، تأليف: جي فينكاتارامان)، وكان مؤلفه يشير إلى مرجعية هندية. حصلتُ على نسخة إلكترونية من الكتاب، ومضيتُ أقرأ فيه، ثم عرفتُ بعد بضعة سطور أنني عثرت على هومي بابا آخر، تشارك مع هومي بابا منظر الأدب ما بعد الكولونيالي هنديته؛ لكنه اختلف معه في نطاقه البحثي ومسيرته المهنية. يحكي الكتاب عن هومي جَيْ بابا، الفيزيائي الهندي الذي عاش بين عامَي 1909-1966م، وإليه يعود الفضل في تأسيس البرنامج النووي الهندي ووضع اللبنات الأولى لمعهد البحوث الأساسية الهندي الذي صار عقب وفاته يسمى (معهد بابا للبحوث الأساسية). ربما أحد الدروس العرضية التي يتعلمها المرء عند دخوله المتاهة الأمازونية هو ضرورة كتابة اسم المؤلف كاملًا مع الحرف الوسطي له حتى لا يختلط مع أسماء أخرى نظيرة له.
تعجبني هذه اللعبة السرنديبية التي يأتيك فيها كتابٌ لم تسعَ إليه بل هو ما سعى إليك. يشعر المرء حينها وكأن لعبة القدر أرادتك أن تقرأ الكتاب (أو أن تعرف شيئًا عنه وعن كاتبه أو الشخوص المقصودين فيه على الأقل)، وهذا ما فعلته مع هذا الكتاب. قرأتُ مقدمته وفصلين منه، وثمة درسٌ عظيم في الكفاح من أجل الشغف في الحياة نتعلمه منه.
أن يتبع المرء شغفه
ولِد هومي جي بابا عام 1909م لأسرة أرستقراطية هندية عالية الثقافة من جهة الأبوين، وإلى جانب الثقافة كان لها إرث كبير في الصناعة والعسكر والمحاماة والعمل المدني الحكومي. كانت عائلة بابا على جانب كبير من الثراء الذي أتاح للأبوين إيلاء اهتمام استثنائي بولدهما لما عرفاه عنه من ألمعية مبكرة في الرياضيات والفيزياء والموسيقا والأدب. كان بابا في طفولته شديد الولع بالعلم والقراءة حتى إنه لم يكن ينامُ أكثر من ساعتين أو ثلاث ساعات في أحسن الأحوال كل يوم. خافت أمه عليه وعرضته على أطباء هنود وبريطانيين؛ غير أن طبيبًا بريطانيًّا أخبرهم أن ليس من أمر يستوجبُ القلق؛ لأن ابنهم كان يمتلك عقلًا بحثيًّا جبارًا يسعى للتعلم والاستكشاف والمساءلة، ولا يقتنع بالإجابات اليسيرة الجاهزة.
عندما أكمل بابا دراسته ما قبل الجامعية بتفوق واضح كان من البديهي إرساله في بعثة دراسية لاستكمال دراسته الجامعية والعليا في بريطانيا؛ فقد سبق لأبيه أن درس في جامعة أُكسفورد، وأراد لابنه الدراسة في جامعة كمبردج، وهما في هذا الأمر يتشابهان مع نهرو وابنته إنديرا ولكن بأدوار معكوسة؛ إذ درس نهرو في كمبردج ودرست إنديرا في أُكسفورد. كان أمر الحصول على مقعد دراسي في كمبردج ميسرًا بسبب تفوق بابا وقدرة أبيه المالية، فضلًا عن أن عم بابا كان سبق له التبرع بمبلغ مالي قدره 20 ألفًا من الباوندات الإسترلينية للجامعة في عشرينيات القرن الماضي، وهو مبلغ عظيم حينذاك لا يقوى عليه أغلب البريطانيين.
هنا حصلت الإشكالية في مسيرة بابا الدراسية. كانت عائلة بابا سليلة إمبراطورية (تاتا) الصناعية الهندية الشهيرة؛ لذا أراد والد بابا لابنه دراسة الهندسة الميكانيكية ليكمل مسيرة إمبراطورية (تاتا) وليكون قائدًا مستقبليًّا لها؛ غير أن هوى بابا وشغفه لم يكن في الهندسة بل في الرياضيات والفيزياء. لم يشأ بابا سلوك طريق المناكفة الخشنة مع والده؛ بل ارتأى تحقيق رغبة والده في دراسة الهندسة الميكانيكية مع عدم وأد حلمه وشغفه بدراسة الفيزياء. أبان بابا عما يختزنه في عقله وروحه من شغف في رسالة كتبها لأبيه عام 1928م وهو طالب في كمبردج:
«أقول لك بجدية كاملة: إن العمل في قطاع الأعمال أو الهندسة ليس لي. هو غريب بالكامل عن طبيعتي ويتخالف بكيفية أساسية مع مزاجي وآرائي. الفيزياء هي طريقي في الحياة. أعرف أنني سأحقق أفاعيل عظيمة فيها؛ فكل فرد منا يستطيع فعل أفضل ما لديه، وبلوغ طور الإبهار والفعل الاستثنائي المميز فقط في ذلك الشيء الذي ينجذب له بشغف عظيم ويؤمن به، تمامًا مثلما أفعل أنا تجاه الفيزياء. المرء يتميز في الأفاعيل التي له القدرة على إنجازها، والتي يشعر دومًا أنه وُلِد من أجلها وأن مستقبله يكمن فيها وأن سعادته وسلامه الداخلي لا يتحقق إلا معها. لا أرى أن نجاحي في الحياة سيعتمد على ما يراه (س) أو (ص) من البشر فيّ، فضلًا عن أن الهند ليست بالأرض البور التي لا يمكن ممارسة العلم فيها…».
ثم يمضي بابا مسترسلًا في رسالته المثيرة لأبيه:
«أتحرقُ شوقًا لدراسة الفيزياء، وسأفعل هذا؛ بل يجب علي فعله في وقت ما. هو طموحي الأوحد. ليست لي رغبةٌ لأكون رجلًا (ناجحًا) بالمقاييس السائدة أو أن أكون شخصًا قياديًّا لشركة صناعية عظيمة. ثمة أشخاص أذكياء يحبون هذا الأمر ويتوقون له؛ لذا امنحهم الفرصة ليكونوا ما يريدون. أكاد أسمعك وأنت تقول عند قراءة سطوري هذه: (لكنك لستَ سقراط أو آينشتاين)! هذا ما قاله والد برليوز لابنه من قبلُ. عندما كان برليوز شابًّا دعاه أبوه بالموسيقيّ الذي لا تُرتجى منه فائدة. هذه هي حال هكتور برليوز في شبابه؛ لكنه صار اليوم أحد أعظم عباقرة الموسيقا في العالم فضلًا عن كونه معترفًا به بأنه الموسيقي الفرنسي الأعظم. كيف يمكن لأي امرئ منا أن يعلم ما الذي سيفعله ابنه، وفي أي وقت، في المستقبل ما لم ينل الابن فرصة الكشف عن شغفه إلى العلن. ليس من المُجْدي الطرقُ على مسامع بيتهوفن: (يتوجبُ عليك أن تكون فيزيائيًّا لأن الفيزياء شيء عظيم) وهو لم يبدِ أي قدر من الاهتمام بالفيزياء، وكذا الأمر مع سقراط، لن ينفع القول له كل آنٍ: (كن مهندسًا؛ لأن الهندسة عمل الإنسان الذكي). هذا أمر يتخالف مع طبيعة الأشياء ويتقاطع معها على نحو صارخ؛ لذا أطلب إليك بكل الكياسة الممكنة أنْ تدعني أدرسُ الفيزياء إلى جانب الهندسة الميكانيكية».
ظل بابا وفيًّا لشغفه، وفي الوقت ذاته حقق رغبة أبيه. حصل بابا على المراتب الأولى المميزة في الهندسة الميكانيكية والفيزياء معًا، ثم عاد إلى الهند ليحقق المنجزات العظيمة التي جعلت منه بطلًا قوميًّا يُنظر إليه بإعجاب وتقدير. نحن اليوم نذكر هومي بابا، الفيزيائي اللامع الذي حقق منجزات عظيمة للهند. تخيلوا معي المشهد لو شاء بابا قتل شغفه والاستمرار في عمله مهندسًا ميكانيكيًّا. كانت الهند حينها ستخسرُه، وقبل هذا -بل الأهم من هذا- كان هو سيخسر نفسه.
القانون الأساس هو أن يتبع المرء شغفه، ولو قُتِل هذا الشغف فستكون خسارة قاسية مؤكدة؛ لكن في الوقت ذاته على المرء أن يجد مسالك لتحقيق أهدافه وشغفه، وألّا يركن للخضوع والاستسلام. قاتِلْ من أجل شغفك: هذا هو الدرس الثمين الذي نتعلمه من هومي بابا الذي توفي شابًّا في حادث طائرة على قمة جبال الألب عام 1966م. لم يغادر بابا عالمنا بشغف مقتول، وهذا عزاءٌ مقبول لحياته القصيرة.
المنشورات ذات الصلة
المرأة والفلسفة… قضية منجز أم قضية ثقافة؟
يُعَدُّ حقل الفلسفة من الحقول المعرفية الجدلية بالغة التعقيد؛ ليس لأنه يفتح مجالًا واسعًا للمقارنة بين منجز الرجل...
الفلسفة وإعادة التفكير في الممـارسات الثقافيـة
من الممكن القول في ضوء المشكلات التي تطرحها الدراسات الثقافية، بأن الفلسفة الآن، تنتسب للممارسات الثقافية، بل كأي نص...
اللغة والقيم العابرة… مقاربة لفك الرموز
القيم تَعْبُرُ المجتمعات والثقافات (= عبور عَرَضي)، وهي أيضًا تعبر الأزمان والأوقات (= عبور طولي). هذا العبور مَحُوطٌ...
0 تعليق