المقالات الأخيرة

اليوتوبيا ونهاية العالم: القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم:

القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي

من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي عوالم شعرية بسيطة

«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي

عوالم شعرية بسيطة

يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات الإنسانية عامة والعربية خاصة. للحجيلي ديوان آخر بعنوان: «قامة تتلعثم» (شرقيات)، وهو من خلال إنتاجه الشعري يجرف التقليدي والمعايش؛ لكسر نمطية النص،...

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

بواسطة | نوفمبر 1, 2024 | مقالات

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى… ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية والتجريد والإبستمولوجيا… وهذا ما فعله جاك دريدا. فبين الكتب السبعة والسبعين التي كتبها، نجد كثيرًا من العناوين التي تتعلّق بحيثيّات الحياة المعاصرة. ومنها تمثيلًا لا حصرًا: «الحقيقة في فن التصوير» (1978م)، «السير الشخصية» (1984م)، «نار الرماد» [عن النساء] (1999م)، «دراسة عن جيمس جويس» (1987م)، «ما الشعر؟» (1997م)، «سياسات الصداقة» (1995م)، «أصداء التلفزيون» (1996م)، «مقاومات. في التحليل النفسي» (1996م)، «في الضيافة» (1997م)، «مذكّرات أعمى» (1990م)، «في الانتحار» (1999م)، «نهاية العالم» (2003م)، «زعران» (2003م)، «مفهوم 11 سبتمبر» (2004م)، «فن العيش أخيرًا» (2005م)، «الحيوان الذي هو أنا في المحصّلة» (2006م).

واهتمّ دريدا خصوصًا بالكتّاب والفنانين الرجيميين، مثل: جان جينيه وفان غوغ وأنطونان أرتو. وكتب عن هذا الأخير كتابين هما: «دراسة مكرّسة لرسومات ولوحات أنطونان أرتو» (غاليمار، 1986م) و«أرتو الموما: حروف النداء» (غاليليه، 2002م)، ومقالين طويلين: «الكلام المهموس» (مجلة تيل كيل، العدد 20، 1065) [وفيه أطلق على أرتو لقب «الرجل الصاعقة»] و«مسرح القسوة وإغلاق العرض» (مجلة كريتيك، العدد 230، 1966م) [والمقال هو في الأصل محاضرة ألقاها دريدا في مدينة بارما الإيطالية، في مهرجان دولي حول المسرح الجامعي].

مسرحة الحياة

ويذكر دريدا أن مدينة الجزائر قد أصبحت بُعَيْدَ الحربِ العالمية الثانية العاصمةَ الثقافيةَ الفرنكوفونية بعد باريس، وأنه في سني مراهقته راح يتولّع بكتابات أرتو الذي كما قال: «لم يقبل بأن يملى عليه شيء، وإن المسرح والتمثيل كانا يجذبانه» (بينوا بيترز: دريدا، فلاماريون، 2910، ص 42). ويشير أيضًا في رسالة إلى أستاذه ميشيل فوكو قال له فيها: «يجب عليّ أن أعيد قراءة أعمال أرتو وأن أتمعّن فيها» (ص 166). وبعد أن نشرت دار غاليمار الأعمال الخمسة الأولى من مؤلفات أرتو عام 1965م، كتب مقالته الأولى عن أرتو ونشرها له فيليب سوليرز في مجلة «تيل كيل» التي كانت منبر الحداثيين والبنيويين. وأشار فيها إلى أن أرتو أراد أن «يقوّض تاريخ الماورائيات الثنوية: الروح والجسد، القول والوجود، النص والجسد. أراد أرتو أن يمنع كلامه المهموس من الابتعاد عن جسده» (ص 197). فأعجبت بالمقالة المشرفة في دار غاليمار على نشر الأعمال الكاملة لأرتو، باولا تيفينيان، وكتبت له رسالة قالت له فيها: إن أعمال أنطونان أرتو هي من أهمّ الأعمال التي عرفها عصرنا؛ وصرحت له بأنها حصلت على وثائق ونصوص كثيرة لأرتو بُعَيْدَ وفاتِه. وتعرّف دريدا في صالون هذه السيدة على فرنسيس بونج وميشيل ليريس وعلى الموسيقي بيير بوليز، وخصوصًا جان جينيه.

جاك دريدا

وفي كتاب «الكتابة والاختلاف» (1967م) أدرج دريدا نص المحاضرة التي ألقاها في بارما (إبريل 1966م)، وحلّل فيه مسرح القسوة، بناء على كتاب أرتو الشهير «مسرح القسوة»، 1948م). ورأى دريدا أن المسرح الغربي هو لوغوس عُبِّر عنه منذ البدء: «في البدء كان الكلمة»، يبدأ إنجيل يوحنا. وانطلاقًا من هذه «الكلمة» يتبدّى عجزنا وهلعنا مما يهدّد المسرح الغربي؛ ويساهم في هذا اللوغوس كل من الممثلين والجمهور في آنٍ؛ ذلك أن المشهدية المسرحية الحقيقية لا تعني الفرجة والفصل بين الركح والصالة، بل هو تواشج بينهما يسري على الزمان والمكان معًا. ورأى دريدا أن أرتو قد حرّرهما من التاريخ والجغرافيا التقليديين فحوّلهما إلى حيّزين مفتوحين على كثير من الاحتمالات والتفاعلات. وقال: إن أرتو كان يطمح إلى مسرحة الحياة الأوربية؛ لإنقاذها من صدئها ورتابتها. وأراد أن يخلّص المسرح الغربي من طغيان المؤلّف والنص، بتركيزه على الصوت. فالنص ليس كل شيء؛ إذ يجب أن يتفاعل مع النص المنطوق والمتموّج والمنبور.

ركّز أرتو على النص الصوتي onomatopée، فنادى بالمسرح التصويتي المتفاعل مع العناصر البصرية والتصويرية والتشكيلية. وهذا ما يُدانِي فضاء المسرح من الأحلام، كما قال فرويد. ويستشهد دريدا بعبارة لفرويد تقول: «تتحوّل الأفكار عندئذ إلى صور بصرية بخاصة (ص 353 من نص دريدا)، فتصبح الكلمات لوحات هيروغليفية.» يقول أرتو في معرض حديثه عن لغة الركح: «هذا لا يعني أننا نلغي الكلام المنطوق، بل إننا نعطي الكلمات المكان الذي تشغله في الحلم» (ص 314). فمسرح القسوة هو بالتالي مسرح الحلم بأشتاته وانتظاماته في آنٍ؛ غير أن هذا لا يعني أنه مسرح اللاوعي (الفرويدي): «لا قسوة دون وعي»، كما قال (ص 316). ورأى دريدا صلة قربى بين كتابي أرتو «المسرح وقرينه» و«مسرح القسوة». وعاد إلى رسالة كتبها أرتو إلى جان بولان في 15 يناير 1936م شرح له فيها ما قصده بكلمة «قرينه»، قال: «المسرح يضاعف الحياة، والحياة تضاعف المسرح الحقيقي… فعلى خشبة المسرح يتواصل الفكر مع الحركة والفعل» (ص 363). وفيها تكمن الخيمياء المسرحية. وأنهى دريدا بحثه هذا بتصريح صادم لأرتو يعود إلى عام 1946م: «إنني عدوّ المسرح، وكنتُ دائمًا عدوّه. وبقدر ما أحب المسرح، بقدر ما أعاديه» (ص 366).

أرتو الفنان

أما الكتابان الآخران عن أرتو فمكرّسان لرسومات ولوحات أرتو. لقد ألّف دريدا عام 1986م دراسة فنّية عنوانها: «دراسة مكرّسة لرسومات ولوحات أنطونان أرتو» (غاليمار)، ضمّت دراسة أخرى لبولا تيفينيان الآنفة الذكر. وعام 1996م، ألقى محاضرة بالإنجليزية في «متحف الفن الحديث» النيويوركي عن أرتو كفنّان تشكيلي، تحوّلت لاحقًا إلى كتاب بالفرنسية عنوانه: «أرتو الموما: حروف النداء»؛ وكلمة موما مقتبسة من الاسم الاختزالي للمتحف الذي نظّم المعرض.

المعروف عن أرتو أنه كان يرسم منذ شبابه، ولكنه بعد انتمائه إلى الحركة السوريالية شُغل بالكتابة المسرحيّة والتمثيل المسرحي والسينمائي، فانقطع جزئيًّا عن التصوير. ولكنه في السنوات الثلاث التي سبقت وفاته (1948م)، عاد بكثافة إليه، فصارت ريشة الرسّام هي المعبّر الأكبر عن عبقريته. صدر كتاب دريدا وتيفينيان عن دار غاليمار بحلّة ألبومية فاخرة، في حين أن الكتاب الثاني صدر عن دار غاليليه التي أصدرت معظم كتبه.

من المعروف ان أرتو كان يتمتّع بصوت ساحر وإلقاء آسر، بحيث يفضّل الجمهور أن يصغي إليه على أن يقرأ نصوصه. وكان دريدا أيضا ممثلًا سينمائيًّا أُنتجت عنه بعض الأفلام التي ساهم فيها. ومنها فِلْم «رقصة الأشباح» للمخرج كين ماكمولين (1983م)، وفِلْم «D’ailleurs Derrida» للمخرجة المصرية الفرنسية صفاء فتحي (2000م)، وفِلْم «Derrida» لـ آمي زييرينغ كوفمان وكيربي ديك (2002م). وسجّل بصوته بعض نصوصه، ومنها كتاب «النار والرماد» عن الموت والفناء وكتاب «اعتراف إحاطي» عن وفاة أمه.

لقد حلّل دريدا بعض رسومات أرتو المأساوية، وربط بين الكتابة والفن التشكيلي مركّزًا على اللوحات التي ماهى فيها أرتو بينه وبين فان غوخ. وتوقّف عند الرسومات الكثيرة التي رسم فيها أرتو وجهه مقابل وجه فان غوخ، مؤكّدًا الأُخُوّةَ التي جمعت بين هذين المنبوذَين. وأصدرت مجلة «الأزمنة الحديثة» التي أسّسها جان بول سارتر عددًا خاصًّا عن أرتو عنوانه «اللغز» (2016م، بجزأين) ساهم فيها دريدا ودولوز وفوكو وبلانشو، وأدرجت في العدد مجموعة من رسومات أرتو. وكذلك فعلت مجلة Europe عام 2002م، وساهم دريدا في العدد.

أرتو بلسان دريدا

أما كتاب «أرتو موما» الآنف الذكر فهو كناية عن محاضرة ألقاها دريدا بمناسبة افتتاح معرض Antonin Artaud Works on Paper، واستمع الجمهور في نهايتها إلى تسجيل لنص كان أرتو قد قدّمه عام 1947م، بعنوان: «كي نتخلّص من الحكم على الله»، وهو ما أثار صخبًا كبيرًا في أوساط الحضور. وحلّل دريدا في كتابه 55 لوحة ملوّنة لأرتو. ويقع الكتاب في 113 صفحة. ماذا سيقول دريدا عن هذه اللوحات التي تنظر إليه بعيونها المطفأة؟ بعد أن أنعم النظر فيها وجد أن شخوصها المؤبلَسين يحدّقون فيه بحقد؛ لأنهم لا يريدون أن يكونوا روبوتات في هذه الحضارة الغربية الآليّة. ويشير دريدا إلى أن هذه اللوحات رُسمت عام 1939م عندما كان أرتو يعالَج في مصحّة فيل إفرار. وترسم اللوحات بخاصة وجه ذاك العليل العائد من القبر الذي أُطلِقَ عليه بعض السورياليين لقب الـ momo، التي تعني في الفرنسية الشعبية «المختل»، بعد أن انضمّ أرتو إلى تجمّعهم ذات يوم. أراد دريدا، على لسان أرتو، أن يقول للناس: لا تتفرّجوا على عالمي كمتلصّصين يدينونني أنا وشخوصي. استبدلوا بعيونكم كمتفرّجين سلطويين عيونًا أكثر دماثة وإنسانية. لم أشأ في لوحاتي البدائية إلا أن أفجّر فيكم نوازع جديدة تفتح لكم آفاقًا سحريّة لم تخطر ببالكم، أن أزوّدكم بلغة مدوّية كالصاعقة توقظكم من خدَركم وسباتكم. هذا العالم زائف ومنافق. ابحثوا عن عالم آخر أكثر ودًّا وصدقًا.

أراد أرتو، ودريدا من بعده، أن يصدم جمهوره النيويوركي الزئبقي برسمه على قطع ورقية مشقوقة أُخذت من دفاتر مدرسية بالية، يصعب أن تسمّى بلوحات فنية محترمة، رسوماتٍ تحمل سمات العنف والقسوة والاحتجاج. أراد أرتو أن يدفن الحضارة الغربية ويزجّها في حفرة القبر ويهيل عليها التراب، متطلّعًا إلى حضارة أخرى بديلة تعيد إلى الإنسان آدميته المفقودة التي دمّرتها الحروب الطاحنة.

وأراد دريدا في هذه المحاضرة أن يفكّك الحضارة الغربية بدوره، آملًا التوصّل إلى لغة راعدة وصاعقة، استنبطها من أجواء المصحّات الأرتوية المأساوية ومن كوارث الحرب العالمية الثانية.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *