كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الريادة والحداثة
عن السياب والبياتي في شعر (الحب) و(الموت) و(المنفى)
مرَّ، هذا العام، ربع قرن على رحيل عبدالوهاب البياتي، شاعر المنفى والحب والثورة، الذي سيصدر ديوانه عن (دار الشؤون الثقافية- بغداد) قريبًا، ويقع في ثلاثة مجلدات، وهي أول طبعة مكتملة لأعماله حيث تتضمن مجلدًا جديدًا من الأعمال التي لم تضمها الطبعات السابقة الصادرة عن (دار العودة) و(المؤسسة العربية للدراسات والنشر) كما أنها أول طبعة لديوان البياتي تصدر في العراق الذي قضى معظم حياته بعيدًا منه.
بين هاتين المناسبتين سانحة نقدية لمراجعة سؤال (الريادة والحداثة) في الشعر العراقي من خلال هذا المقال.
منذ ديوانه الثاني «أباريق مهشمة» – (1954م) أحدثَ عبدالوهاب البياتي (1926-1999م) تحولًا نوعيًّا وانعطافًا حادًّا ليس في تجربته الشعرية الخاصة، بل في مستوى التعبير الشعري لشعر الحداثة. فهو الشاعر الوحيد -بين ما عرف بـ(جيل الروَّاد)- الذي أنقذ تجربته مبكرًا من الإيغال في الرومانسية التي ظهرت في ديوانه الأوَّل «ملائكة وشياطين»- (1950م) وعلى الرغم من التأثر الواضح بالفلسفة الوجودية وكثافة ظلالها التي تغطي مساحات واسعة من موضوعات «أباريق مهشمة»: كالسأم، واللاجدوى، والمصير القسري للإنسان، والجحيم الدنيوي، ومشاكل الحرية، فإن معظم قصائده تزخر بلغة جديدة، وتوظيف تفاصيل الحياة وبلاغتها اليومية واللغة الحية في القصيدة، بما فتح آفاقًا رحبة للقصيدة العربية الحديثة.
وقد أشار إحسان عبَّاس إلى هذا الانعطاف الذي أحدثه البياتي وتميزه عن السياب ونازك(1). لكن نهاد التكرلي، كان أول من انتبه إلى حداثة البياتي وتميزه فنيًّا عن جميع مجايليه(2) وبهذا الفهم لن يعود سؤال الريادة سؤالًا زمنيًّا بحيث يجري تحديدها من خلال الأسبقية. فقصيدتا «الكوليرا» لنازك و«هل كان حبًّا» للسياب تبدوان الآن تقليديتين رغم أسبقيتهما الزمنية، بينما احتفظت قصائد البياتي بحداثتها لتميزها بدقة معمارها، وعصرية لغتها، وفرادة أسلوبها حتى حين يقارب الموضوع ذاته أو الغرض الذي سبقه إليه أقرانه. فثمة موضوعات معينة عالجها كلٌّ من السياب والبياتي في قصائد تحمل عناوين متقاربة غالبًا ومتطابقة أحيانًا: «السوق القديم» و«المخبر» و«ثعلب الموت» للسياب. و«سوق القرية» و«المخبر» و«الثعلب العجوز» للبياتي.
الأسبقية الزمنية لجميع هذه القصائد للسياب، لكن طبيعة المقاربة والمستوى الفني (الحداثي) ترجح فيها كفة البياتي في جميعها، بيد أن من النقاد والشعراء العرب، من لا يزال يجد في الأسبقية الزمنية مرجعًا أساسيًّا في ترجيح ريادة السياب أو نازك.
فبينما تبدأ قصيدة «السوق القديم» للسياب بمستهل للسوق في الليل في غياب الناس، وهو مستهل لا يخلو من رومانسية ظلت مهيمنة على مجمل تجربته، يليه تصوير للدكاكين المغلقة، والبضائع المكدسة، و«الريح التي تعبث بالدخان» في تصوير لا يختلف كثيرًا على المستهل الطللي في القصيدة العربية القديمة. سيخرج السياب بالقصيدة من موضوعها، إلى استذكار قصة حب عاثر، كما عهدناه لدى الشعراء العرب الطلليين. أما قصيدة البياتي فتبدأ من لحظة أخرى مناقضة تمامًا، من النهار الصارخ، وازدحام الناس وضجيج الحياة وأصوات البشر والحيوانات، وعلى الرغم من أن القصيدتين من البحر نفسه (الكامل)، فإن إيقاعات جُمَل البياتي تبدو وكأنها ترجيعًا لاختلاط أصوات الباعة والمتبضعين في السوق. وأية قراءة داخلية لعناصر كل من القصيدتين ستضعنا حقًّا في مواجهة ثنائية الأسبقية الزمنية، وأهمية الأثر والتأثير بين القصيدتين(3).
لن يخرج الأمر عن هذا النطاق عندما نضع قصيدة «المخبر» للسياب إزاء قصيدة لاحقة للبياتي بالعنوان نفسه، فالسياب يستعير صوت المخبر معبرًا عنه بضمير المتكلم ليبوح بالهواجس الشعورية الداخلية الآثمة لهذه الشخصية الوضيعة. بينما يستخدم البياتي في قصيدته ضمير الغائب، الذي يتيح مستوى تعبيريًّا أكثر فنًّا في شعر الحداثة، ليرسم صورة كاريكاتيرية تسخر من هذا النموذج البشري، الرقيب الذي لم يرصد جيدًا في تراث الشعر العربي قبل ثورته الشعرية الأولى. وكذا الحال عند مقارنة قصيدة «ثعلب الموت» للسياب مع قصيدة «الثعلب العجوز» للبياتي.
نساء السياب وعائشات البياتي
ما يجمع بين السياب والبياتي أن صورة المرأة مرتبطة لديهما بفكرة الموت والرحيل، لكن صورة المرأة لدى السياب كثيرًا ما تتجلى في مرآة الحرمان. فخلال دراستهما بدار المعلمين ببغداد عرفا النساء نفسهن تقريبًا. وكثيرًا ما وقع السياب في حب الزميلات! حب من طرف واحد باستمرار، حصيلته قصائد تفيض باللوعة والحرمان والتوسل:
«أَحِبِّيني/ لأنّي كُلُّ مَنْ أَحْبَبْتُ قَبْلَكَ لَمْ يُحِبُّوني»(4).
إلا أن للسياب تجربة مختلفة في البصرة، مع قريبته (وفيقة) التي ماتت وهي شابة، كان ينبغي أن يطورها لتصبح فرصته لخلق رمز شعري للمرأة في تجربته، وفي الواقع لم يكن لدى السياب مثل هذه الفرصة فقد أحبطت بالموت في ذروة نضوجها؛ إذ بدأ متأخرًا فيما يشبه اكتشاف هذا الرمز من خلال قصائد «شباك وفيقة1» و«شباك وفيقة» و«حدائق وفيقة»(5)، ولا سيما ربطها باستكشاف العالم السفلي وتموز وعشتروت.
(وصال الحب) لدى السياب لا يكاد يتحقق إلا في عالم ما بعد الموت حين يلتقي (الخيال بالحقيقة) أما في العالم الأرضي، فالتجربة أقرب للتوهُّم، وكل ما بقي من نساء السياب (أسماء):
«هَالَتِي تِلْكَ أَمْ (وَفِيْقَةُ) أَمْ (إِقْبَالُ)/ لَمْ يَبْقَ لِي سِوَى أَسْماءِ/ مِنْ هَوى مَرَّ كَرَعْدٍ فِي سَمَائِي»(6).
أما البياتي فقد أسعفه امتداد التجربة، ليبتكر رمزًا شخصيًّا للمرأة في شعره. فولد رمز عائشة في شعر البياتي، في ديوان «الذي يأتي ولا يأتي»- (1966م) وهي عادة ما تظهر في هذا الديوان بصورة مركبة من الموت والحياة:
«عَائِشَةٌ مَاتَتْ، وَلَكِنِّي أَرَاهَا تَذْرَعُ الْحَديقَة»(7).
ومن هنا استمد فكرة الرحيل بما يتطلبه من بحث عن عائشة: حيث تعيش في كل العصور وتقترن بالرحيل والفقد بشتى أنواعه.
مصدر البياتي في هذا الاكتشاف رواية «حياة عمر الخيام» (1934م)(8) للمؤرخ والروائي الأميركي «هارولد لام» الذي يعتمد في أعماله على كتابة التاريخ، ولا سيما تاريخ الشرق، روائيًّا، فيعمد إلى إضفاء الخيال على الوقائع أكثر من اهتمامه بتوثيق تلك الوقائع، فيخترع أحداثًا، ويتلاعب بالشخصيات، ويختلق شخصيات أخرى غير موجودة تاريخيًّا. ومنها تلك الحادثة التراجيدية عن محبوبة الخيَّام «ياسمين» التي أجبرت على الزواج من تاجر حلبي ثري، أخذها معه من «نيسابور» ثم طلَّقها بعد أن مرضت وتركها وحيدة. فأرسلت عن طريق مسافر إلى نيسابور قطعة من حليها إلى الخيام الذي لحقَ بها واصطحبها عائدًا بها إلى «نيسابور» لكنَّها أصيبت بالطاعون وتوفيت في الطريق. فدفنها على تلة تحت إحدى الأشجار. وانعكست هذه الحادثة على نماذج معينة من الأدب العربي، ولا سيما لدى البياتي في ديوان «الذي يأتي ولا يأتي» واكتشافه الأساسي لرمز «عائشة» التي تعيش في كل العصور. وكذلك في مسرحية «محاكمة في نيسابور» التي هي صياغة مختصرة لعمل (لام) حيث اقتبس فيها البياتي كثيرًا من العبارات من ذلك العمل.
في رواية (لام) هناك ثلاث فتيات أحبهنَّ الخيَّام وأضاعهن بالتتابع لأسباب مختلفة، فبعد (ياسمين) أحبَّ (زُوي) السبية الرومية من القسطنطينية، فخيَّره الحسن الصبَّاح بين البقاء معه في القلعة، وبالتالي العيش مع زوي، أو الذهاب لأصفهان لبناء المرصد الفلكي، لكنه هرب من قلعة (ألموت) خلسة، وفي قلبه حسرة على حبيبته (زوي).
أما (عائشة) فجارية جلبت في أثناء غزوات السلطان السلجوقي (ملك شاه) وبِيعتْ في سوق الرقيق بنيسابور، فلفتت نظر الخيام حيث ادعت أنها تنحدر من نسب كريم لقبيلة عربية من حوران، وذكَّرته بحبيبته الميتة ياسمين، لكنها رحلت عائدة لديارها وفق رواية (لام) لهذا يكمل البياتي رحلة البحث المزدوجة عن حبيباته- حبيبات الخيام الضائعات في شتى الأسماء وشتى البلدان ابتداءً من نيسابور. ولا سيما أنَّ صورة الفتاة الفارسية، ترتبط بحب مبكر لزميلة أيام الدراسة بدار المعلمين العالية اسمها (فروزنده) وهي ابنة دبلوماسي إيراني عمل مستشارًا في السفارة الإيرانية ببغداد لسنوات؛ لذلك أكملت دراستها الثانوية والجامعية في العراق. وقد كتب عنها قصيدة عمودية ضاعت ولم يعد يتذكر منها سوى مطلعها:
لَطَمَ الْوَرْدُ فِي الْحَدِائِقَ خَدَّهْ مُذْ رَأَى فِي سَمَائِهِ فروْزَنْدَهْ(9).
غير أن البياتي لم يقف عند تخوم اكتشافه الأول، فأضفى على عائشة هالة الحبيبة (الطاهرة) التي يلتقيها في دمشق، وتولد هذه المرة في صورة فتاة فارسية عند ضريح محيي الدين بن عربي. كانت تلك الصورة هي الحافز لكتابة قصيدته عن دمشق «عين الشمس أو تحولات محيي الدين بن عربي في ترجمان الأشواق».
ومنذ تلك القصيدة بدأ البياتي ينحو نحو رسم صورة صوفية متعالية للحبيبة، فيقترب من وصف ابن عربي لمعشوقته (نظام) في مقدمته لديوان «ترجمان الأشواق» ويقتبس منه: «فكل اسم أذكره في هذا الجزء فعنها أكني، وكل دار أندبها فدارها أعني». ومثلما تعددت في «ترجمان الأشواق» الأسماء لمسمى واحد: تهامة، هاجر، وليلى، زينب، تعددت في شعر البياتي أسماء حبيبته: لارا وخزامى وهند وصفاء. وبقيت عائشة هي القناع والإطار اللازمني المفتوح لصورة الحبيبة:
وفي ديوان «بستان عائشة» يقدم تفسيرًا شعريًّا لهذا التعدد:
«قَالَتْ: مَنْ هِي (لَارَا) هَلْ هِي (عَائِشَة)/ أَمْ هِيَ هَذَا الْأُفُقُ المَوْصُود؟/ قُلْتُ: هِي الْحُبُّ الضَّائِعُ وَالزَّمَنُ الْمَفْقُود»(10).
من هنا ارتبط قناع عائشة في شعر البياتي، بثنائية الحضور والغياب، فهي ما إن تظهر حتى تختفي كبرق سماوي أو وعد غيبي لا يكاد يتحقق، فغالبًا ما يصادفها في أمكنة عابرة: قطار أو حانة أو مقهى، أو في شارع بليلة ممطرة، وهو على وشك السفر إلى مدن أخرى. فتصبح قصيدة الحب مزيجًا من بحث وفقد واستدعاء، وهكذا شكل الرحيل المبكر تراجيديا الحضور- الغياب التي رسخت فكرة الموت المجازي في شعر البياتي. فعائشة اسم فاعل ينوس بين الاسم والصفة، لكن ميزة اسم الفاعل أنه لا يرتبط بزمن معين فيشير أحيانًا للحدوث، وأحيانًا لاستمرار الحدوث، كما أن الفعل عاش في الأصل، من الأفعال النادرة في العربية التي تأتي لازمة للفاعل ومتعدية للمفعول. ولعل هذا الاشتقاق اللغوي بما يحمله من دلالة لغوية متشعبة هو ما دفع البياتي إلى قراءة مفهوم الموت، والعيش، أعمق وأبعد من المعنى المباشر، وفتح الطريق أمامه لهذه الفكرة المتقدمة عن بقية الرواد، في مقاربة جدلية الحياة-الموت.
ومن «حياة عمر الخيام» أيضًا ولدت فكرة (الموت في الحياة) في الديوان التالي للبياتي الذي حمل هذا العنوان.
فكرة الموت في الحياة
منذ قراءتي المبكرة لشعر الرواد، لحظتُ أن موضوع الموت، يرتبط بالموت الفيزيقي (الجسدي). كان السياب (شاعر المرض) بامتياز فقد أوهنه حتى أودى به، وهو لا يزال في السابعة والثلاثين، فكتب تجربته المريرة بغنائية زاخرة بالتشكي والابتهال كما في «سفر أيوب» (في أجزائها العشرة)، وحين يحاول إضفاء بُعد ميتافيزيقي على الموت فإنه يربطه بالانبعاث، على طريقة ما سماهم جبرا (الشعراء التَّموزيين) لكن هذا التخريج بقي مرتبطًا بالمفهوم الديني في القيامة والحشر. ولعل قصيدته (النهر والموت)(11) وهي من عيون شعره نموذج مناسب لرصد هذا الفهم.
أما لدى نازك فستبدو فكرة الموت أكثر تقليدية ورومانسية حين تقاربه شعرًا ونقدًا، فتتحول إلى ندب كما في أشهر قصائدها (الكوليرا)، أو تعبير عاطفي رومانسي كما في مقالها «الشعر والموت»(12).
فيما لحظتُ، في المقابل، تحولًا لاحقًا عن هذا الفهم لدى البياتي، ابتداءً، من ديوانه «الموت في الحياة» بعنوانه اللافت الكفيل وحده بإعادة النظر حول الفهم التقليدي لفكرة الموت.
وكنت قد ناقشت معه هذه الفكرة(13)، فأجاب: «الإنسان يموت من الحياة ولا يموت من الموت… فالذي يبلغ الثلاثين معناه أنه مات ثلاثين عامًا، وهكذا. وكنت أظن أن هذه الفكرة جديدة، لكنني اكتشفت الوعي بهذه الحقيقة لدى بعض الشعراء العرب القدامى».
كان البياتي يشير إلى بيت لطرفة بن العبد من معلقته قاربَ فيه فكرة (الموت في الحياة أو من الحياة): «أَرى العَيشَ كَنزًا ناقِصًا كُلَّ لَيلَةٍ*** وَما تَنقُصِ الأَيّامُ وَالدَهرُ يَنفَدِ».
وتتجلى هذه الفكرة بوضوح أكثر لدى الرصافي: «أرى العُمرَ مَهْما ازدادَ يزدادُ نقصُهُ إذًا نحنُ في نَقْصٍ من العمر دائمُ»
وهكذا كُلَّما أوغل في الحياة، وتقدم به العمر، اقترب أكثر من الموت بل تصبح الحياة نفسها رحلة نحو الموت. فيكتب وقد بلغ الستين: «سِتُّونَ عَامًا عُمْرُ مَوْتِي/ هَكَذَا مِتُّ مِنَ الْحَيَاةِ»(14).
لكنَّ (شهوة الحياة) تُبقي الشاعر طفلًا: «مِتُّ مِنَ الْحَيَاةِ/ لَكِنَّنِي/ مَا زِلْتُ طِفْلًا جَائِعًا/ يَبْكِي»(15).
في هذا المقطع الذي يحاول إنكار التقدم في السن، يتضح مفهوم البياتي الدقيق للموت: (فالإنسان لا يموت من الموت، بل يموت من الحياة): «كَدُودَةٍ تَقْرِضُ تُفَّاحَةً/ كَانَ هُوَ الْمَوْتُ/ وَكَالْسِّيْركِ»(16).
وفي الواقع يمكن استبدال كلمة (الموت) هنا بكلمة (العمر) ليتحقَّق تفسير المعنى العميق للفكرة.
هذه المقاطع، عينات من قصائد كثيرة تؤكد تميز البياتي عن بقية تجارب جيل الرواد بخصوصية فهمه ومقاربته لفكرة الموت، وتحرير قصيدته من مفهوم الموت الفيزيقي، وتخليصها كذلك من عبء التعبير الرومانسي والغيبي عن فكرة الموت الذي ساد في الشعر العربي ما بين الحربين العالميتين، وامتد لتجربة الرواد شعرًا ونقدًا، فقدم بذلك مفهومًا فلسفيًّا للموت، أبعده من سطحية الغرضية، ورسم له صورة تنكرية فهو: «للثعلب العجوز، الملتحي بالورق الأصفر والرموز» «الْمَلِكُ الْوَحِيدُ فِي مَمْلَكَةِ الْأَحْيَاء» الذي «يلعبُ نردًا مع الشيطان» و«يقرأ في كل اللغات كتب الفلسفة الجوفاء» هذا «الثعلب العجوز» الذي مر (سكران) تتبعه «عجائز القرية والأطفال».
ومن المهم هنا الإشارة إلى قصيدة السياب «ثعلب الموت»(17)، وهي في الغرض ذاته، لكنها لا تتخطى حدود النظرة التقليدية للموت العضوي.
«ثَعلبُ المَوْتِ فارسُ المَوْتِ عِزْرَائيلُ/ يَدْنو وَيَشحذُ النَّصْل».
وابتداءً من (موت عائشة) كان هذا التناقض على مستوى المفردتين: الموت-عائشة، يقود البياتي إلى ترسيخ مفهومه عن الموت خارج الفهم التقليدي لهذه الفكرة التي نقلها من كونها معطى حياتيًّا، إلى مبنى فلسفي مترسخ في مرجعيته الأساسية: الحياة.
المنفي والغريب
عاش جميع الشعراء الروَّاد، شطرًا من حيواتهم خارج العراق، وتوفي أربعتهم بعيدًا من الوطن: بلند في لندن، عام 1963م حيث دفن هناك. والبياتي أنهى رحلة منافيه بدمشق، ودفن فيها عام 1999م. ونازك في الكويت فالقاهرة، ودفنت فيها عام 2007م. بينما نُقِلَ جثمان السياب بعد وفاته من الكويت ليدفن في مقبرة الحسن البصري، بالزبير، عام 1964م.
كان السياب أقلهم عَيشًا خارج العراق، والبياتي وبلند أكثرهم، وما ميزهما أنَّ معظم سنوات منفيهما ارتبطت بمواقف معارضة؛ لهذا نجد أن فكرة المنفى تتضح، وإن بتفاوت لديهما أكثر من السياب ونازك.
فقد نشر بلند الحيدري ديوانه «خطوات في الغربة»- (1965م) بعد مغادرته العراق إلى بيروت. وفيه القصيدة التي حملت عنوان الديوان. لكن المنفى بصورته الصريحة تجلَّى بوضوح أكثر في آخر دواوينه «دروب في المنفى»- (1996م) الذي كتبه في منفاه بلندن، وصدر قبل رحيله بشهرين.
في الواقع إن منفى السياب يكاد يكون مجازيًّا، فهو كناية عن ستة أشهر أمضاها في الكويت التي لا تبعد من قريته جيكور نصف ما تبعده جيكور من بغداد، وعلى الرغم من أن المنفى لا يتحدد بمكان بعينه أو بزمن محدد، فإن السياب يصف منفاه في قصيدته «غريب على الخليج» بأنه التيه «تحت شموس أجنبية».
هذه هي الصورة الشخصية التي يرسمها السياب، للمنفي، أو الغريب كما يسميه، صورة تثير الشفقة، فهو مريض، رث الثياب، مُحتقرٌ، منبوذٌ، يستجدي النقود ليعود!
وقريبًا من المدة التي غادر فيها السياب العراق لإيران ثم الكويت، غادر البياتي إلى دمشق وبيروت. وفي دمشق كتب ديوانه الرابع «أشعار في المنفى»- (1957م)، ولا أعرف أن هناك في الشعر العربي من سبقه إلى مثل هذا العنوان. كما حفل شعره برؤية عميقة للمنفى وهو أحد بضعة شعراء اتسمت تجربتهم بحضور وجودي للمنفى. فقبل هذا الديوان كان البياتي قد استشعر البعد الوجودي، لا المكاني للمنفى، مبكرًا: فهو يستهل قصيدته «مسافر بلا حقائب»(18): «مِنْ لَا مَكَان/ لَا وَجْهَ، لَا تَارِيخَ لِي، مِنْ لَا مَكَان».
ويختتمها: «سَأَكُونُ! لَا جَدْوَى، سَأبْقَى دَائِمًا مِنْ لَا مَكَان».
ليعبر عن دائرة مغلقة في الفهم الوجودي للمنفى اللامكاني.
وكان قد كتب قصيدة «في المنفى» -التي نشرها في مجلة الثقافة المصرية، نوفمبر 1951م-(19)، وهي نموذج مبكر عن المنفى بوصفه مهمة سيزيفية شاقة، وعقاب البطل التراجيدي وهو يكابد أهوال مصيره في العالم السفلي.
وفي قصيدة «عُشّاقٌ في المنفى» يصف المنفى بنوع من الانتظار العبثي.
«نَبْقَى وَنَبْقَى فِي انْتِظَارْ/ مَنْ لَا يَعُود/ لَا شَيْءَ يَنْبِضُ بِالْحَيَاة».
والمنفى بالنسبة للبياتي مركَّب، فهو يتجلى كمنفى داخلي: «وَطَنِي الْمَنْفَى/ مَنْفَاي الْكَلِمَات»(20).
وهو عزلة وانقطاع اجتماعي، وقسوة روحية: «مَا مِنْ أحَدٍ يَعْرِفُ فِي هَذَا الْمَنْفَى أَحَدًا. الْكُلُّ/ وَحِيد/ قَلْبُ الْعَالَمِ مِنْ حَجَرٍ/ فِي هَذَا الْمَنْفَى الْمَلَكُوت»(21).
بل إن العالم بأسره خريطة هائلة للنفي كل فرد فيه شريد بلا أمل: «الْعَالَمُ مَنْفَى فِي دَاخِلِ مَنْفَى وَالنَّاسُ رَهَائِن/ يَنْصُبُ بَعْضٌ مِنْهُمْ لِلْبَعْضِ كَمَائِن»(22).
ليست مواضيع الحب والموت والمنفى، سوى معالم محددة من خريطة أوسع لتميز البياتي، فهناك خصوصية تجربته مع المدن والأمكنة، والتصوف الذي نقله من الطقوس اللغوية اللاهوتية إلى ميدان الفقر والثورة، إضافة إلى طبيعة ومستوى لغته الشعرية، التي هي الأكثر حداثة وتأثيرًا. والواقع أن لغة الشعر العربي الحديث مدينة للبياتي أكثر من نازك والسياب.
كذلك ثمة ترابط لافت بين تجربة البياتي الشعرية وسيرته الحياتية، بل هو من حرص بإصرار على تحقيق هذا الترابط بينهما، بما جعل تجربته أصيلة وفريدة. فقد قرر أن يقيم عامه الأخير في دمشق، التي كانت أول مدينة عربية يزورها منذ ولادته ببغداد، لينهي حياته فيها مقتديًا بشيخه محيي الدين بن عربي الذي جاب الآفاق من المغرب إلى المشرق، ليختتم رحلته بدمشق حيث مثواه الأخير. ولئن لم يختر البياتي مكان ولادته قرب ضريح (الباز الأشهب) الشيخ عبدالقادر الجيلاني في بغداد، فإنه خطط واختار مكان موته بدمشق وأوصى أن يدفن على سفح قاسيون قرب ضريح (الشيخ الأكبر) محيي الدين بن عربي، وتوليت بنفسي تنفيذ وصيته، على الرغم من بعض الاقتراحات أن يدفن بجوار الجواهري ومصطفى جمال الدين وهادي العلوي وآخرين، في مقبرة الغرباء بالسيدة زينب في ضواحي العاصمة السورية.
(1) «اتجاهات الشعر العربي المعاصر» (سلسلة عالم المعرفة-الكويت 1978م) ص:45.
(2) في مقاله: عبدالوهاب البياتي المبشر بالشعر الحديث، المنشور في مجلة (الأديب): 1 ديسمبر 1953م. وكان يفترض أن ينشر كمقدمة لديوان (أباريق مهشمة).
(3) ممن تناولوا القصيدتين بالمقارنة إحسان عباس في كتابه «اتجاهات الشعر العربي المعاصر»- (1978م) ومدني صالح في كتابه «هذا هو السياب» دار الرشيد – بغداد 1981م وزاهر الجيزاني في كتابه «عبدالوهاب البياتي في مرآة الشرق: الحداثة والشعرية)» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر-1997م).
(4) ديوانه المجلد الثاني ص 378.
(5) من ديوان «المعبد الغريق» ديوانه المجلد الثاني ص 210.
(6) قصيدة «جيكور أمي» ديوانه المجلد الثاني ص 391.
(8) ترجمها محمد توفيق مصطفي وصدرت عن دار القلم (مصر) 1961م.
(9) راجع «بكائية إلى حافظ شيرازي» -دار الكنوز الأدبية- بيروت-1999م، لعبدالوهاب البياتي. وملحقاتها لكاتب هذه السطور، والدكتور قاسم البريسم، والدكتور سامي الصفار.
(10) قصيدة (بانوراما (أصيلة) 5-الموت في الشعر).
(11) من ديوان «أنشودة المطر»- (1960م) ديوانه -طبعة دار العودة 2005م، المجلد: 2 ص 103.
(12) نازك الملائكة «الشعر والموت» مجلة الآداب عدد تموز 1954م. وهي مقارنة بين أربعة شعراء (عربيين: أبي القاسم الشابي ومحمد الهمشري، وإنجليزيين: روبرت بروك وجون كيتس) ما يجمع بينهم موتهم المبكر.
(13) في حواري معه عام 1995م بدمشق في أثناء حضوره لتكريم الجواهري من قبل الحكومة السورية وتقليده وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة، ونشر بجريدة السفير اللبنانية بتاريخ 11-8-1995م.
(14) (الشاعر والقصيدة) «كتاب المراثي».
(15) في قصيدة «شهوة الحياة» «كتاب المراثي».
(17) ديوان السياب طبعة دار العودة 2005م (المجلد الثاني ص 98).
(19) ضمها لديوان «أباريق مهشمة»- (1954م).
(20) قصيدة «الموت والقنديل» ديوان «سيرة ذاتية لسارق النار»-(1974م).
(21) قصيدة «أولد وأحترق بحبي» ديوان «قمر شيراز»- (1975م).
(22) قصيدة «العراء» ديوان «مملكة السنبلة»- (1979م).
المنشورات ذات الصلة
محمد علي لقمان.. الذات والمدينة والريادة المنسية
في أقصى نقطة من جنوب الجزيرة العربية، حيث مدينة عدن التي كانت البوابة البحرية المشرعة على العالم الخارجي بمختلف...
خواطر وأفكار عن المشهد الثقافي في تونس
بعد انهيار نظام ابن علي، في الرابع عشر من شهر يناير 2011م، كثر اللغط والحديث في وسائل الإعلام بمختلف أنواعها، وأيضًا...
بواكير الأدب المغربي الحديث.. مفاهيم وتمثيلات
أحتاج في مدخل هذه المقالة إلى وضع وترتيب بعض المحذورات المنهجية، ولتدقيق ولو عابر لمصطلحات تحُوزُ قوة المفهوم وتستقل...
0 تعليق