كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
خوليو كورتاثر كما عرفته
كانت آخر مرة رأينا فيها بعضنا هي يوم الجمعة 20 يناير 1984م، في غرفته الصغيرة بمشفى سان لازار في باريس، على مبعدة زهاء مئة وخمسين مترًا في خط مستقيم من شقته في شارع مارتيل. لا أتذكر بالضبط كم كانت الساعة عندما افترقنا. لم يكن هناك سبب يدعو لتدوين هذه التفاصيل، ولكن لا بد أن يكون قد انصرم وقت يجاوز الساعة السابعة مساءً؛ لأنني عندما غشيت الغرفة، قبل نحو نصف ساعة، كدت أرتطم بالشخص المسؤول عن توزيع وجبات الطعام.
كان خوليو وحيدًا، جالسًا على أريكة، وكانت نظرته مستغرقة في تأمل نافذة تطل على فناء داخلي شبه معتم، كما لو كان يصغي إلى وقع المطر. كان يرتدي روب دو شامبر قديمًا، ويبدو أكثر حيوية من الليلة الماضية عندما جئت لعيادته مع زوجتي. في ذلك اليوم، وبحضور صؤول يوركيفيتش(1)، كان قد أخبرنا أنه كان على وشك الموت في أثناء الفحص، الذي خضع له في قسم أمراض الجهاز الهضمي بهذا المشفى، الذي يعد من أكثر المشافي كفاءة في باريس.
قال لنا: «كان نبضي قد توقف، وظن الجميع أني كنت في طور الاحتضار».
ولكن الأمور كانت تبدو، في هذه الجمعة من عشرين يناير، أنها تسير على نحو أفضل قليلًا. كان يتألم مذعنًا: «لقد سئمت هذا الطعام، وهذه الضوضاء التي تحدثها الفتيات في الصباح. يبدو أن الممرضات هنا لا يعرفن سبيلًا إلا نعال المطاط. نسمعهن يضربن الأرض بكعوب أحذيتهن، ويدندن في الممرات وكأن شيئًا لم يكن قد حدث».
كلمات خوليو الأخيرة
أخذنا في أطراف من الحديث مدة نصف ساعة، بيد أني لحظت أنه كان متعبًا. «أود أن أنام، ولكني لا أعرف ما إذا كنت أستطيع إليه سبيلًا. وهذا الطعام أفضل عدم الحديث عنه؛ ليس لأنه طعام سيئ، ولكن عندما أعود إلى المنزل، فإن أول شيء سأقوم به هو أن أعد لنفسي شريحة لحم جيدة، شريحة ثخينة هكذا. على أي حال، سأغادر غدًا. طبيبي، البروفيسور موديلياني -هل تدرك؟ موديلياني! كأن الرسم يلاحقني- أنبأني بالرجوع إلى المنزل، والعودة في الأسبوع المقبل لإجراء ما تبقى من فحوص».
قررنا أنه سيهاتفني حالما ينهي فحوصه في المشفى. نهض ليصافحني، فودّعَ بعضنا بعضًا وانصرفت. قال لي: «عندما أتعافى من مرضي، وأتخلص من كل هذه الأمور، سيتعين علينا الذهاب للتنزه في الغابة. لا حاجة للذهاب بعيدًا: إلى فانسين أو فونتينبلو. ما أوده هو رؤية الأشجار». تركت له صحيفة لوموند التي أجرت، في ذلك اليوم، مقابلةً مع أنطونيو كانديدو(2). قبل مغادرتي رأيت كدسًا من الكتب بالقرب من طاولة سريره، وورقات مكتوبةً بخط اليد.
هذه هي كلمات خوليو الأخيرة، التي أتذكرها: «ما أوده، هو رؤية الأشجار». مات يوم الأحد، 12 من فبراير، بعيد الظهر، ثم واريناه الثرى يوم الثلاثاء 14 فبراير، بمقبرة مونبارنانس، عند الحادية عشرة والنصف صباحًا، في مدفن زوجته كارول دونلوب، التي توفيت في نوفمبر من 1982م.
كان صباحًا باردًا يوشحه إشراق يكاد يكون غير طبيعي بالنسبة لنا نحن الذين اعتدنا على سماء باريس الداكنة والغائمة في الشتاء. كانت الشمس تلمع على الأطراف الرخامية للقبور، وعلى الصفائح البرونزية. وبالكاد تميد غصون الأشجار في نسيم الصباح. وكان الصمت أكثر الأمور إثارةً للإعجاب: فمنذ اللحظة التي انطلق فيها موكب الجنازة عند مدخل المقبرة، وعلى طول الطريق إلى اللحد الذي كان فتح للتو، لا أتذكر أني سمعت كلمةً. كان الصوت الوحيد الذي يشبه صوت البحر على شاطئ يعمره الحصى، هو صوت خطانا تجرجر على طول الممر المركزي خلف عربة نقل الموتى. ثم ألقى كل صديق زهرةً على النعش الخشبي الملون، وغادرنا. أما زوجتي وأنا فقد تريثنا قليلًا. وعندما أصبح ثانية هذا الشطر من المقبرة مقفرًا، ظهر قطان أو ثلاثة قطط ضامرة مقرورة، برزت بين اللحود تنظر إلينا غير مبالية، ونحن نغادر.
كتاب غير عادي
كنا قد التقينا في فبراير 1974م، في معرض للواقعيين الأميركيين المفرطين، بمؤسسة روكفلر في باريس. كان فاحش الطول، ناتئ العظام، مخلع المشية، مثلما يبدو تمامًا في صوره. وبدا أنه وهو يسير ينتابه خوف دائم من التعثر. كان يبلغ من العمر، في ذلك الوقت، ستين عامًا. لكن لم يكن أحد ليقدّر سنه بأزيد من خمسة وأربعين عامًا.
أتذكر أني كنت أنتظر أن ينهي طوافهر-كان بصحبة صديق- كيما أدنو منه. عرفته بشخصي: «صحافي من الأوروغواي حط رحاله للتو بباريس»، وشرحت له لماذا أزعجه. كان كارلوس أونيتي(3) قد اعتقل للتو في مونتيفيديو بتهمة واهية لا تصدق تتعلق بالإباحية، وذلك لسبب وحيد لأنه شارك في لجنة للتحكيم في مسابقة للقصة القصيرة، التي نظمتها أسبوعية مارتشا(4). وأنبأته بأن مدير مارتشا كان قد اعتقل بدوره.
كان يصغي إليَّ بلطف جم، وقال لي: إنه كان على علم بالأمر منذ وقت سابق، لكنه طلب مني بعض التفاصيل الإضافية، وأكد لي أنه سيفعل كل ما في وسعه لإثارة الرأي العام. وقد أوفى بوعده إيفاءً دقيقًا مثلما كان على دأبه دائمًا.
ثم واصلنا رؤية بعضنا الآخر على نحو متواتر، فصرنا صديقين. وفي ديسمبر 1982م، بعد موت كارول، اقترحت عليه إجراء حوار طويل، كتاب يشمل قدر الإمكان -لأنني كنت أعلم جيدًا أن العديد من الأمور ستظل بمنأى عن التناول- حياته بوصفه كاتبًا، ونضاله في سبيل القضايا التي كان يعدها عادلة في العالم، ولا سيما الحركة النيكاراغوية الهشة، التي كانت تشغل باله آنذاك، وكفاحه في سبيل الدفاع عن حقوق الإنسان.
وافق من دون تردد، لكنه أضاف أن هذا الكتاب لا بد أن يكون «كتابًا غير عادي». اتفقنا على أن يوجد عدد غير محدد من الحوارات -ما لا يقل عن عشرة أو اثني عشر- التي سندونها، بالتتابع، بتعيينها في المسافات الفارغة النادرة في مفكرته، حيث لم يكن قد تبقى فيها كثير من الفراغات.
عندئذ، وبينما كنا ننظر إلى هذه الأعمدة الغاصة بالمواعيد، ومعظمها منذور لحياته النضالية، قال لي: «أود أن أجعل من العام القادم عام راحة. أريد أن أنزوي لأكتب روايةً، مهما كلفني الأمر». سألته إذا كان قد شرع في كتابتها من قبل، فأجابني بالنفي: «بضع ملحوظات. لكنها بدأت تستحوذ علي، أراها كأنها سديم».
لقد أخطرني بأننا ربما لن نتمكن من الشروع في العمل قبل الصيف. كان لا بد من أن ينهي، أولًا، الكتاب الذي كان قد تركه معلقًا عند موت كارول «Los autonautas de la cosmopista»، كتاب جميل جدًّا يروي قصة رحلة بين باريس ومارسيليا في مركبة قديمة متداعية- تمت في ثلاثة وثلاثين يومًا من دون مبارحة الطريق السيار، وبمعدل موقفين للسيارات في اليوم، مع الالتزام بالنوم في الموقف الثاني. هذا الكتاب، في الأساس، قصة حب مؤثرة. كان ينوي الذهاب بعد ذلك إلى نيكاراغوا، وعند أوبته إلى أوربا، سوف يرتاح لبضعة أيام عند أصدقائه في إسبانيا.
في بيت خوليو كورتاثر
طفقنا نعمل في مستهل يونيو بمنزله الكائن في شارع مارتيل. كانت شقته تقع في إحدى هذه البنايات العتيقة الباريسية، موصدة بباب حديدي ثقيل ذي قضبان ضاربة إلى الخضرة، صدئة تقريبًا، تطل على ممر واسع يؤدي إلى مجموعة من الأفنية الداخلية.
كانت شقة خوليو كبيرة جدًّا، وكان بها مدخل يمتد حتى سقف خزانة مترعة بالكتب، ثم هناك صالون رحيب ذو نوافذ عالية جدًّا. وعلى اليسار بار من الخشب كان يشطر الغرفة، وكان المطبخ يقع خلف هذا البار. كانت في الصالون أرائك مريحة كما يليق، وجهاز موسيقا بنظام «هي- في»، ورفوف تكتظ بالأسطوانات، وشرائط كاسيت مصفوفة بعناية. كانت الزاوية الأثيرة عند قطة أورورا بيرنارديث(5).
كنا نعمل في مكتب واسع، مطلي بالجير كباقي الشقة. وكانت خزائن الكتب الممتدة من الأرض حتى السقف تملأ حائطين من حيطانه. وعلى طول الحائط الثالث كانت هناك خزانات شاسعة يحتفظ فيها خوليو بملفات مليئة بقصاصات الصحافة، وبمخطوطات، وبنسخ فوتوغرافية لمقالات يبعثها إلى الجرائد أو المجلات، وسيرة غيرية للشاعر الرومانسي الإنجليزي كيتس، التي كان قد كتبها في الخمسينيات في بوينس آيريس، قبل مجيئه إلى باريس للإقامة فيها. لم يكن الهاتف يرن أبدًا؛ كان هناك جهاز آلي للرد على المكالمات، وكان الأشخاص الوحيدون الذين يتحركون في الشقة جيئة وذهابًا، هما أورورا بيرنانديث، التي تكلأ خوليو بكامل عنايتها ورعايتها، وامرأة متحفظة كل التحفظ كانت تأتي لتنظيف البيت، وترتيب أموره. كانت أورورا تغادر في ساعة مبكرة للذهاب إلى عملها في اليونسكو بعد أن تتيقن من أن خوليو لديه ما يحتاجه، وكنت أجدهما أكثر من مرة يتناولان فطورهما.
كنا نشتغل من دون توقف تقريبًا خلال ثلاث أو أربع ساعات متتابعة. وكان خوليو جالسًا على كرسيه الدوار، وظهره إلى نافذة تطل على شارع بارديس. في أثناء جلساتنا الأولى، خلال شهري يوليو وأغسطس، بدا أن خوليو يشعر بالارتياح. لقد ارتضى أمر الحوارات عن طيب خاطر، وينتابني شعور حاصله أنه قبل شيئًا فشيئًا الفكرة التي فحواها أن الكتاب -الذي كانت دار غاليمار قد قبلته منذ وقت سابق- يمكن أن يكون مناسبة سانحةً للإفصاح عن أشياء معينة ظل متكتمًا عليها حتى ذلك الحين.
غالبًا ما كان يصيح: «هذا الشيء، لم أقله أبدًا من قبل»، «وهذا، أقوله للمرة الأولى». وفي أكثر من مرة بدأنا الحوار بالعودة إلى موضوع اليوم السابق، بناءً على طلب خوليو نفسه. كان يقول لي: «أفضل الأجوبة تأتيني عندما تنصرف». ومن بين الموضوعات القليلة التي عزمنا على تركها لوقت لاحق، ولجلسة أخيرة من المراجعة والاستخلاص، كانت الرحلة التي قام بها إلى الأرجنتين في ديسمبر، بعد غياب طويل أكرهته عليه تلك السنوات الحالكة والرهيبة من حكم الدكتاتورية العسكرية، وكتائب الموت، في ليلة الرعب هذه، التي عاناها كثيرًا، ليلة استحوذت عليه، وانعكس عذابها في بعض قصصه القصيرة الأخيرة نحو «الكتابة على الجدران» أو «المرة الثانية».
ومع ذلك، عند عودته تحدثنا قليلًا عن الوضع الذي وجد عليه بلده: «من الواضح أن الأرجنتين تغيرت، وشرعت تخرج من كابوس الدكتاتورية والطغيان. هناك كثير مما ينبغي عمله». بيد أنه ظل حذرًا، وكأنه كان يخشى عودة الشياطين القديمة.
مات من دون أن يدري
كنت أتساءل كثيرًا -غير أنني أتساءل، الآن، على نحو خاص، في هذا الفراغ المؤسف الذي تركه لنا رحيله- عما إذا كان خوليو يحدثه قلبه عن الموت الذي يحوم حوله، مثلما كان يحوم، قبل عامين، حول كارول. وعلى أي حال، لم يتحدث معي أبدًا في هذا الشأن. كان نحيفًا جدًّا، وكانت عظام كتفيه تنتأ من تحت سترته كما لو كانت ستخرق جلده. برزت عظام وجنتيه العريضتين جدًّا، والتهمت لحيته السوداء الكثة وجهه، حاجبةً هزال وجنتيه. وغالبًا ما كان يشكو من حكة مزعجة، وكان يعاني أحيانًا جفافًا في الحلق. وقبل الشروع في العمل، كان خوليو يجلب قنينة ماء معدني وكأسين. ومن حين إلى آخر، كان يشرب ببطء، بينما كنت أطرح سؤالًا عليه، أو أدير كاسيت مسجل الصوت.
في بعض الأحيان، إذ نفرغ من الجلسة، نذهب للجلوس في الصالون للشرب. كان يقول باسمًا: «أعتقد أننا نستحق هذه الكأس». في أثناء هذه اللحظات، لم نكن نأخذ بأطراف الحديث في الأدب، ولا في السياسة، إنما نتحدث دائمًا في الموسيقا. كان خوليو يملك مجموعة مذهلة من الأسطوانات وشرائط الكاسيت، من موسيقا الجاز، والموسيقا الكلاسيكية، والتانغو. وأوضح لي أنه كان يوثر الجلوس للاستماع في الليل إلى أسطوانتين أو ثلاث أسطوانات، وهو يضع سماعة الأذن كي لا يزعج الجيران.
لمرة واحدة، في شهر سبتمبر 1983م، هاتفني لإلغاء موعد، ثم علمت فيما بعد أنه كان مريضًا، وفي مرة أخرى أوقفنا حوارًا لأنني كنت قد أدركت أنه كان متعبًا جدًّا. قال لي في هذا اليوم في أثناء توديعي: «اليوم سارت الأمور على نحو سيئ. ولكن لا يهم، سنستدرك في المرة القادمة». لقد كان قلقًا جدًّا من أن كل شيء كان جليًّا. وقد حدث أكثر من مرة، عندما كان يذكر مؤلفًا أو مقطعًا من أحد كتبه، أنه يقوم لتحصيل الكتاب المعني، والتحقق من الاقتباس.
أخال في آخر الأمر أن خوليو مات من دون أن يدري -من دون أن يرغب في معرفة- أنه كان مشرفًا على الموت. على الأقل كان يبدو أنه لم يتخيل ذلك في المرة الأخيرة، التي التقينا فيها في مشفى سانت لازار. أما زوجته كارول، فكانت تدري ذلك. لكنها ماتت قبله، وآثرت ألا تنبئه عندما كان ذلك لا يزال ممكنًا. واكتفت بانتظاره في رمسها بمقبرة مونبارناس، حيث شاهدة لحدها الرخامية تحمل ببساطة اسمها، كارول دونلوب، تليها هذه العلامة التي تسمى بالفرنسية «صلة الوصل»، التي جاء، الآن، اسم خوليو كورتاثر لينضم إليها.
بالرغم من كل هذه السنوات التي عاشها في باريس، ظل كورتاثر، في المقام الأول، أرجنتينيًّا، وأعتقد أن هذا واضح بما يكفي حتى لا ألح على هذه الحقيقة. يكفي أن يطالع المرء قصصه القصيرة، ورواياته، وقصائده، ليفهمه، وليستغرب من أن بعض الأذهان المحدودة كانت قد لامت عليه، في لحظة معينة، (نزعته الفرنسية).
لقد كان، بالطبع، أرجنتينيًّا صهر في ثقافته كل ما استطاعت أوربا أن تمنحه إياه من أدب، وفن، وموسيقا، وكاتدرائيات عتيقة، وقرون من التاريخ تتجمع في حجر مطحلب يزوره قط، وفي ابتسامة رجل عجوز يحتسي كأس نبيذه في حانة صغيرة، في قرية صغيرة من قرى الجنوب. لكنه كان يعلم، في قرارة نفسه، أن روحه كانت تظل متعلقة، إلى الأبد، بصليب الجنوب(6).
في ميلونجا(7) وضع إدجاردو كانتون موسيقاها، فيما بعد، يتغنى خوليو بحنينه الجارف، الذي لا يغيض، إلى بوينس آيريس:
«بي شوق إلى صليب الجنوب/ حين يحملني الظما على أن أرفع رأسي/ كيما أشرب نبيذك الأسود لمنتصف الليل/ فأتحسر على زوايا الشوارع ذات الحوانيت الوسنانة/ حيث ترتعش رائحة المتة في إهاب الريح/ وأدرك أن كل شيء بقي هناك/ كما في جيب تفتش فيه اليد كل لحظة/ عن المال، والمبراة، والمشط/ اليد التي لا تكل لذاكرة غامضة/ اليد التي تحصي موتاها».
الثورة من الداخل والخارج
كان كورتاثر ثوريًّا في أدبه، مثلما كان ثوريًّا في عمله السياسي. في مقالة نشرت بعيد موته في الملحق الأدبي لنيويورك تايمز، كتب كارلوس فوينتس ما يلي: «يمكن تلخيص مواقفه السياسية، وفنه الشعري على هذا النحو: الخيال، والفن، والشكل هي عناصر ثورية، تحطم التقاليد البالية، وتعلمنا كيف ننظر، ونفكر، ونحس على نحو جديد». نشأ كورتاثر على هامش السوريالية. وكان عزمه أن يبقي ما أسماه «الثورة من الخارج، والثورة من الداخل» متحدتين.
لم يكن ساذجًا كما ادعى بعضٌ، ولم يخدع بالمظهر عن الجوهر، أو يخطئ على نحو فادح وبليد. كان يدرك جيدًا الأخطار التي تحدق بالمآلات الثورية، أي ما كان يسميه «التصلب»، الذي كان يشجبه ويستنكره متى استطاع إلى ذلك سبيلًا، وكلما كان يعتقد أن من واجبه القيام بذلك. وليس ليضم صوته إلى زمرة التائبين، الذين يقرون بالذنب فيعتذرون جهارًا، وإنما ليحذر المسؤولين من هذه المآلات، ويساهم في إنعاشها بقدر المستطاع، ويدرأ البيروقراطيات الجشعة دائمًا من أن تستقر في بؤر بعيدة ومريبة تحاك فيها الدسائس، يتعذر على الشعب بلوغها. (…)
وكان يختتم على هذا النحو: «أمام هذا المنظور، أنا لا أومن إلا بالاشتراكية بوصفها بديلًا بشريًّا. لكن هذه الاشتراكية ينبغي لها أن تكون طائر فينيق يتجدد باستمرار، وتتجاوز نفسها في عملية متواصلة من التجديد والابتكار، ولا ينال هذا الأمر إلا من خلال نقد ذاتي تكون فيه هذه الملحوظات مجرد شظايا صغيرة مبهمة».
كان خوليو كورتاثر مناضلًا مشغوفًا بالقضايا اللاتينية- الأميركية، متحمسًا لها، التي كان يعدها قضايا عادلة، بيد أنه كان يمقت أن ينعت بالكاتب الملتزم بما يستلزمه ذلك من خضوع وانصياع. (…)
لقد التقينا أكثر من مرة، خلال هذه الشهور الأخيرة، في اجتماعات تضامنية، وفي العديد من هذه اللقاءات لم يكن خوليو يعتلي المنصة، وإنما كان ضمن الجمهور، بين حشد من المناضلين المجهولين، الذين كانوا يتعرفون إليه في آخر الأمر، ويدنون منه، حتمًا، لمصافحة يده الكريمة.
في هذا الحوار الطويل -الذي أفضل أن أعده كتابًا كتبته أربع أيادٍ- كان كورتاثر يعود، في الغالب، إلى الذكريات القديمة، ذكريات طفولته، ومراهقته، ولقد وصف موقفه هذا، وصفًا ساخرًا، بأنه متعلق «بالشيخوخة»، غير أني أعتقد أن الأمر يتجاوز ذلك بكثير، يتعلق الأمر بالبحث عن نبع لا ينقطع أبدًا عن التدفق على نحو خفي في جميع أعماله الأدبية، إنه نبع الشعر.(…).
بخلاف ما يحدث مع الكتاب الآخرين -أفكر على نحو خاص في غابرييل غارثيا ماركيز- لم يكن كورتاثر يحب التحدث كثيرًا عن طفولته. وعندما كان يفعل ذلك، كان يشير إلى وقائع ملموسة جدًّا. هناك مجالات لم نتناولها أبدًا، ومع ذلك أنبأني في بداية هذا الحوار أنه لن يكون هناك «مجالات محظورة». لم نتحدث عن أبيه، على سبيل المثال. كانت طفولته -كما أشرنا من قبل- تظهر، فجأة، عندما يتذكر مرحلة بانفييلد، طفولته التي تتحول في ذكرياته إلى فردوس.
عن مدة تدريسه العابرة
ولم يكن يبدو أنه يولي أهميةً أيضًا للمدة التي أنفقها في التدريس، في تشيبيلكوي، وفي بوليفار في مقاطعة بوينس آيريس، التي دامت سبع سنوات، من 1937م إلى 1944م. في حوار مع لويس هارس أواخر الستينيات، قال ما يلي: «عشت في البادية في توحد تام، وفي عزلة كاملة. لقد عالجت هذه المشكلة، تقريبًا، بفضل حالة مزاجي، لقد عشت دائمًا منغلقًا على نفسي. كنت أقيم في مدن كان فيها القليل من الأشخاص المهمين، وبالكاد كان يوجد فيها شخص مهم. كنت أنفق يومي في غرفتي بالفندق أو بالبنسيون، أطالع وأدرس. وكان هذا يعود عليَّ بالنفع، وفي الوقت ذاته، كان جالبًا للخطر: كان نفعه يتجلى في أنني التهمت آلاف الكتب. وكل المعلومات المتعلقة بالكتب التي أمكنني تحصيلها، إنما حصلتها خلال تلك الأعوام. وكانت خطورته البالغة تكمن، بلا شك، في أنني حرمت من مقدار كبير من الخبرة المباشرة للحياة»(8).
ولم يقل شيئًا ذا بال عن مدة تدريسه العابرة بجامعة كويو بميندوثا. «في تلك السنوات انخرطت في النضال السياسي ضد البيرونية. وعندما فاز بيرون في الانتخابات الرئاسية، كنت أفضل التخلي عن دروسي بدلًا من أن أجبر على الخضوع للظروف مثلما كان كثير من زملائي مكرهين على فعل ذلك، فآثروا الحفاظ على مناصبهم»(9).
يلقي أحد طلابه في ذلك الوقت، كلاوديو صوريا(10)، بعض الضوء على هذه المدة من حياة كورتاثر. كتب عن مقرر التدريس قائلًا: «كان مخصصًا للتعليق على الأعمال الأدبية للكتاب الإنجليز والألمان. وكان الاهتمام ينصب أساسًا على الرومانسية الإنجليزية، على وليم بليك، وكيتس، وشيلي، وكولريدج، ووردزورث، وعلى الشعراء الألمان، أو شعراء اللغة الألمانية، هولدرلين، وراينر ماريا ريلكه».
على هذا النحو يتذكر صوريا المقرر: «في القاعة، ونحن جالسون أمامه، أذهلتنا، في البداية، هيئته الغريبة التي تشبه هيئة يافع، وقامته الفارعة التي تحملك على الشعور عندما كان يجلس أنه كان ينثني إلى أقسام طويلة، وعيناه الواسعتان اللتان تحجبهما رموش كثيفة. لكن أسلوبه في التعامل كان أكثر فرادةً، أسلوبًا قويمًا، وبسيطًا، ومتواضعًا، على عمق وسعة معارفه التي قدمها لنا».
رحل خوليو كورتاثر، وفجأة ينتابنا إحساس بالفقد يجل عنه الوصف، على الرغم من أنه ترك لنا آثارًا أدبية حسبها أن تكون كافية على نطاق واسع، لتبوئه مكانة بين أعظم كتاب عصرنا، آثارًا سترافقنا دائمًا.
لكننا سنفتقد مصافحته الصادقة والودية، وابتسامته المرحبة. وسنفتقد، في المقام الأول، احتضانه للصديق أو الغريب التعس. سنعدم يده التي تمتد من دون أدنى تردد للدفاع عن أنبل القضايا، قضايا الشعوب التي تقاوم، قضايا المضطهدين، والمهانين على هذه الأرض.
خلال مقامه الأخير بإسبانيا في متم نوفمبر 1983م، في برنامج تلفزيوني عن نيكاراغوا، قال هذا الكلام الذي يختم التعريف به: «ينبغي ألا نضحي بالأدب من أجل السياسة، ولا نفسد السياسة لصالح مذهب الجمالية الأدبية. لن أومن بالاشتراكية بوصفها مصيرًا تاريخيًّا لأميركا اللاتينية إذا لم تكن بواعث الحب تغذيها».
المرجع: « فتنة الكلمات»: حوارات أجراها عمر بريغو مع خوليو كورتاثر. 1986م، غاليمار.
(1) صؤول يوركيفيتش: (1931- 2005م) شاعر وناقد أدبي وأستاذ جامعي أرجنتيني، أقام في فرنسا منذ 1966م إلى حين وفاته. (المترجم).
(2) أنطونيو كانديدو: (1918- 2017م) باحث، وأستاذ جامعي مختص في الأدب المقارن، يعد من أشهر النقاد الأدبيين في البرازيل. (المترجم).
(3) خوان كارلوس أونيتي (1909- 1994م)، روائي شهير من الأورغواي. المترجم.
(4) مارتشا: أسبوعية يسارية أسسها كارلوس كيخانو في مونتيفيديو عام 1939م.
(5) أورورا بيرنانديث هي زوجة كورتاثر الأولى.
(6) صليب الجنوب (كناية عن الأرجنتين): كوكبة صغيرة تشمل نجومًا قوية الضوء، وتشاهد في الجزء الجنوبي من الكرة الأرضية. (المترجم).
(7) ميلونجا: نوع موسيقي ريفي نشأ في سهول البامبا الأرجنتينية. (المترجم).
(8) Luis Harss, Los Nuestros , Ed. Sudamericana,pp.261-26,2,Buenos Aires,1969.
(10) صحيفة Los Andes، 25 ـ مارس ـ 1984.
المنشورات ذات الصلة
عن قتل تشارلز ديكنز
عشت الثلاثين عامًا الأولى من حياتي ضمن نصف قطر بطول ميل واحدٍ من محطة ويلسدن غرين تيوب. صحيح أني ذهبت إلى الكلية -حتى...
الأدب الروسي الحديث.. الاتجاهات، النزعات، اللغة
يشير مصطلح «الأدب المعاصر» إلى النصوص التي كتبت منذ عام 1985م حتى الوقت الحالي. إنه تاريخ بداية عملية البيرسترويكا،...
شخص ذو ثلاثة أنهار
الحياة والزمن هما الشيئان الأكثر تشابكًا في الوجود، تمامًا مثلما هو تشابك الكرمة والأشجار، دائمًا ما يصعب على المرء...
0 تعليق