كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
المؤرّخ اللبناني مسعود ضاهر: مشروع الشرق الأوسط الجديد يحلّ محل
نظيره سايكس بيكو القديم
الدكتور مسعود ضاهر أحد أبرز المؤرّخين العرب في لبنان والعالم العربي اليوم. هو صاحب مدرسة في الكتابة التاريخية تتميز بالدقة والعمق واستخلاص الحقائق وتحليلها في ضوء حركة التاريخ نفسها ودور الشعوب، لا الأفراد فقط، في صنع مساراتها المتباينة النتائج.
ويرى الدكتور ضاهر أن علم التاريخ هو من أكثر العلوم الإنسانية تعقيدًا؛ لأنه يطول جميع نشاطات الإنسان من خلال علاقته بالمكان والزمان. وشدّد الدكتور ضاهر على تقديم التاريخ العربي عبر سرديّات علميّة مبتكرة، وبعيدة من الإملال، وتعتمد التحليل المعمّق، والانتقال بمضمون السرد من التاريخ العبء إلى التاريخ الحافز. على مستوى آخر يرى الدكتور مسعود ضاهر أن تاريخ العرب الحديث ارتبط ارتباطًا وثيقًا بولادة وتطور المشروع الصهيوني الحديث في المشرق العربي؛ وأنه يجري اليوم، مثلًا، تعديل خريطة سايكس بيكو القديمة لإحلال مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي يتضمّن فيما يتضمّن، قيام خريطة جغرافية مضخّمة لإسرائيل يسمّونها «إسرائيل الكبرى» كما رسم حدودها المؤرّخ البريطاني برنارد لويس.
ويذكر المؤرّخ ضاهر أنه أتيحت له الفرصة للحوار مع برنارد لويس في مؤتمر دولي في إسطنبول، كان يتحدث خلاله بفوقية الباحث الذي يرى نفسه من صنّاع التاريخ وليس من كتّابه.
الدكتور مسعود ضاهر من مواليد بلدة الشيخ طابا، شمال لبنان عام 1945م. حائز دكتوراه دولة في التاريخ الاجتماعي من جامعة السوربون– باريس الأولى. يمارس التدريس الجامعي في الجامعة اللبنانية منذ عام 1973م. عيّن عضوًا في المجلس العلمي الاستشاري للجامعة اللبنانية عن كلية الآداب والعلوم الإنسانية. دعي أستاذًا زائرًا إلى جامعات يابانية وصينية، وإلى جامعة جورج تاون في واشنطن. شارك في أكثر من ثلاثمئة مؤتمر عربي ودولي. إضافة إلى لغته العربية الأم يتقن مؤرّخنا اللغات: الفرنسية والإنجليزية مع إلمام لا بأس به بالروسية واليابانية. نال جائزة عبدالحميد شومان للعلماء العرب الشباب في عام 1983م، وجائزة أفضل كتاب عربي في مجال الإنسانيات من مؤسسة الكويت للتقدم العلمي عن سنة 2000م. شغل منصب الأمين العام المساعد لشؤون البحث العلمي في اتحاد المؤرّخين العرب. انتدب خبيرًا في الأمم المتحدة لشؤون التنمية في عام 2004م. وفي عام 1993م نال وسام المؤرّخ العربي، ثم وسام التاريخ العربي في عام 1966م من اتحاد المؤرّخين العرب. منحه إمبراطور اليابان الوسام الذهبي من رتبة «الشمس المشرقة» لنشر الثقافة اليابانية بتاريخ 29 إبريل 2010م. وفي عام 2011م اختير واحدًا من خمسة عشر مؤرّخًا عالميًّا هم أعضاء شرف في الجمعية الأوربية لكتابة التاريخ ما بعد الأزمات.
أصدر الدكتور مسعود ضاهر 26 كتابًا في التاريخ الاجتماعي الحديث والمعاصر عن لبنان والعالم العربي واليابان، منها: «تاريخ لبنان الاجتماعي»، و«لبنان الاستقلال والميثاق والصيغة»، و«الجذور التاريخية للمسألة الطائفية اللبنانية»، و«تاريخ لبنان الاجتماعي المعاصر خارج القيد الطائفي»، و«المشرق العربي المعاصر: من البداوة إلى الدولة الحديثة»، و«الهجرة اللبنانية إلى مصر»، و«مشكلات بناء الدولة الحديثة في الوطن العربي»، و«النهضة العربية والنهضة اللبنانية: تشابه المقدمات واختلاف النتائج»، و«النهضة اليابانية المعاصرة والدروس المستفادة عربيًّا»، و«اليابان بعيون عربية»، و«تاريخ اليابان الحديث: التحدي والاستجابة»، و«اليابان والوطن العربي: العلاقات المتبادلة والآفاق المستقبلية»، و«المجتمع والدولة في تاريخ اليابان المعاصر»، و«تطور الدراسات العربية في اليابان».
التقيناه مؤخرًا وكان هذا الحوار الخاص بـ«الفيصل»:
مدرسة التاريخ الجديد
● الدكتور مسعود، ماذا تقول في مسألة تجديد الكتابة التاريخيّة إجمالًا؟ وهل تخطّى المؤرّخون الجدد (من عرب وأجانب) مبادئ «مدرسة الحوليّات» الفرنسيّة التي كانت أول من استخدم مصطلح «التاريخ الجديد» في عام 1930م على أيدي مؤرّخيها الروّاد من طراز: لوسيان فيفر، ومارك بلوك، وفرناند بروديل.. وغيرهم؟
■ أسّست الثورة الصناعيّة في أوربا لولادة نظام عالمي جديد أسّس بدوره لولادة التاريخ العالمي الذي تميّز بتمدّد الاستعمار الأوربي على المستوى الكوني. وامتدح الفيلسوف الألماني هيغل النظام الرأسمالي العالمي الذي أدخل مختلف شعوب العالم بالعولمة الطوعيّة أو القسريّة لهيمنة الحضارة الغربيّة؛ وعدّ التاريخ الأوربي قلب التاريخ العالمي؛ لأنه بُني على نظام سياسي واقتصادي كان الأرقى على المستوى الكوني، بداعي تبنّيه الديمقراطية ومقولات الثورة الفرنسيّة في الحرية والعدالة والمساواة، ومن ثمّ التعاون بين القطاعين العام والخاص وحماية المبادرة الفردية وبناء المؤسّسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية والصحية، وعَدّ الشعب في المحصّلة مصدر السلطات جميعًا.
على جانب آخر، استفاض الفيلسوف الألماني لودفيغ فويرباخ في تحليل المادية التاريخية وأثرها في تطور المجتمعات أو الشعوب. وقدّم هيغل تحليلًا فلسفيًّا للدروس المستفادة من كتابة التاريخ. وعالج كارل ماركس وفريدريك إنجلز إشكالية الصراع الطبقي على خلفية اقتصادية- اجتماعية تظهر تداخل البناء التحتي والبناء الفوقي. وطوّر ماكس فيبر الكتابة التاريخية في مجال العلاقة البنيوية المتداخلة بين الرأسمالية والأخلاق البروتستانتية، وحلّل بعمق الإرث التاريخي المستمر للدولة الباتريمونيالية. ورسم جورجي بليخانوف بدقة دور الفرد البارز في التاريخ ومدى تأثيره في تغيير الوقائع التاريخية.
تأسّست مدرسة التاريخ الجديد في فرنسا على أيدي لوسيان فيفر ومارك بلوك وآخرين. ويُعَدُّ فرناند بروديل مؤسّس ومدير المجلة التاريخية «الحوليّات الاقتصادية والاجتماعية» التي اضطلعت بدور مهم في تطوير كتابة التاريخ الجديد في فرنسا وأوربا ونقلها من المستوى السياسي والحوادثي الوحيد الجانب، إلى التاريخ الشمولي الذي يستند إلى جميع العلوم الإنسانية. نشر بروديل كتبًا عدة مهمّة منها: «المتوسط والعالم المتوسطي في عصر فيليب الثاني»، و«قواعد لغة الحضارات»، و«الحضارة المادية والاقتصاد والرأسمالية»؛ شدّد فيها على البعد المكاني في كتابة التاريخ، واستنبط مقولة المدى الزمني الطويل. وأكّد أن التاريخ هو نتاج التراكمات البطيئة وغير المحسوسة في أغلب الأحيان للمكان والمناخ والتقنية وتأثيرها في أفعال البشر. نال بروديل عام 1985م أعلى تتويج يمكن أن يحلم به مثقف فرنسي وهو دخول الأكاديميّة الفرنسية في صف «الخالدين»؛ لكنّه توفي في السنة نفسها؛ وصدر له بعد وفاته كتاب «حركيّة الرأسمالية»، وكتاب «هوية فرنسا»، وأعيد نشر كتابه المرجعي «قواعد علم الحضارات» الذي ترجم إلى لغات عدّة منها العربية. وقدّم المؤرخ عبدالعزيز الدوري دراسة مميزة عن «التكوين التاريخي للأمة العربية» مع التركيز على تداخل العامل الديني، والعامل القبلي، والعامل الاقتصادي في ذلك التطور.
تلك مؤلفات رائدة في مجال «التاريخ الجديد»، كانت الفائدة منها كبيرة جدًّا وتربّى عليها عدد متزايد سنويًّا من المؤرّخين الشباب في مختلف دول العالم. وتضمّنت مقولات نظرية عقلانية تبرز أنواع الكتابة التاريخية بصورة علمية رصينة، وبأبعاد مستقبلية. ورسمت فيها حدود التلاقي والاختلاف بين الوقائع التاريخية كما حصلت على أرض الواقع، والكتابة الروائية المسندة إلى تلك الوقائع. وتمّ التركيز بدقة على علاقة الرواية التاريخية بالتاريخ الحقيقي وبأحداثه الواقعية. وأظهرت الفارق النوعي بين التاريخ العلمي الذي يكتبه المؤرّخ ويدوّن فيه الوقائع التاريخية الموثقة بدقة، وبين الرواية التاريخية التي يطلق عليها «رواية الواقع» التي ترسم صورة الواقع كما تخيلها الروائي من خلال قراءته لكتب تاريخية محدّدة.
لا يتسع المجال هنا للغوص في تحليل الفارق النوعي بين التاريخ الاجتماعي والكتابات المسندة إلى المرويّات التاريخية؛ فهناك فنون أدبية كثيرة تستند إلى التاريخ في أعمالها المميزة، ومنها: المسرح، والأوبرا، والشعر، والقصة القصيرة، والرواية، والأقصوصة، وغيرها. وهناك نماذج كثيرة تظهر أهمية الدلالة في الكتابة التاريخية من خلال أعمال أدبية مسندة إلى وقائع تاريخية موثقة بصورة جيدة.
من الأساطير إلى علم التاريخ
● ولكن ما تعليقك على الرأي القائل: إنّ التاريخ، خصوصًا الحديث منه، يُكتب مرارًا لا مرّة واحدة؟
■ يعتبر علم التاريخ من أكثر العلوم الإنسانية تعقيدًا؛ لأنه يطول جميع نشاطات الإنسان من خلال علاقته بالمكان والزمان. ولعل أبرز أسباب ذلك التعقيد أن ما دُوّن من تلك النشاطات لا يشكّل سوى جزء بسيط من الكم الهائل لأعمال البشر الذين قضوا من دون أن تُعرف أعمالهم ومآثرهم. وعليه، ومع تزايد سكّان الكرة الأرضية من بضعة ملايين عند بدايات تدوين التاريخ المعاصر والحديث، بات حجم سكّان الكرة الأرضية يقدّر اليوم بأكثر من سبعة مليارات نسمة؛ تبدو قدرة المؤرّخين على رصد تاريخ شمولي ودقيق للإنسانية مسألة سجالية؛ فما دُوّن من علاقة الإنسان بالأرض، وعلاقة الجماعات البشرية بعضها ببعض، لا يزيد على أخبار متواترة ومتناثرة تركّز على الشخصيات البارزة من دون سواها، متجاهلة مقولة «تاريخ الناس كل الناس»، وفق مفاهيم ومبادئ التاريخ الاجتماعي الحديث. وما كتب عن نشاط الناس متواضع جدًّا لأسباب عدة، أبرزها نقص في التدوين، وغياب الوثائق أو إتلافها. وما دُوّن من ذلك النشاط هو موضع نقد مستمر؛ لأنه استند إلى روايات شفوية.
كان التأريخ انتقائيًّا وعرضة لكثير من التحيّز والهوى، وتنقصه الدقة والموضوعية والشمولية. وفي مرحلة التاريخ المعاصر والحديث، شهدت الكتابة التاريخية أو عملية التأريخ تحوّلًا مستمرًّا من سرد الأساطير دون نقدها، إلى بناء العلم التاريخي الذي يعتبر أقدم العلوم الإنسانية وأكثرها غنًى وتأثيرًا في أجيال متعاقبة من البشر.
شكّلت الكتابة التاريخية عنصرًا ثقافيًّا بارزًا لتلافي ضياع الذاكرة الإنسانية، ومن أجل تكوين الوعي الجماعي لدى مختلف شعوب العالم، واستخراج الدروس والعبر من أعمالهم الإيجابية. وأصبحت الكتابة التاريخية، وفق منهجية التاريخ الاجتماعي، مختبرًا حقيقيًّا لفهم أبعاد التاريخ، وتدوين الزمن التاريخي، وإظهار حركيّة التاريخ، واستخلاص فلسفة الأحداث، والتعلّم من دروس التاريخ وغيرها؛ فتزايد عدد المؤرّخين بصورة مذهلة من خلال اعتماد مراجع ثانوية في الكتابة التاريخية، وفي سرد الأحداث من دون تحليلها، وعدم القدرة على استخلاص دروس التاريخ.
وغالبًا ما كانت تلك الدراسات تتناول سيرة بعض الشخصيات البارزة، حتى الثانوية، ومرويّات المحاكم الشرعية، والأديرة، ووثائق البلديات، والمؤسّسات الحكومية وكثير غيرها. ومعظمها مؤلفات فردية نشر كل منها في كتاب واحد دونما حاجة لمجلدات أو أجزاء متعدّدة. كانت الفائدة منها محدودة جدًّا، ولا تقدّم أنموذجًا علميًّا رصينًا يعبّر عمّا وصلت إليه منهجية التاريخ الاجتماعي التي تبنّتها نخبة متميّزة من المؤرّخين الشباب في مختلف دول العالم. وكثرت الدعوات النقديّة لوقف هذا السيل من المرويّات التاريخية قليلة الفائدة، واعتماد التأنّي في اختيار موضوعات تاريخية تتضمن جوانب سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وتربوية، وثقافية وفنية متداخلة.
وبات المؤرّخ الاجتماعي مطالبًا بالإيجاز في الكتابة التاريخية؛ لأنها اليوم ضرورة ثقافية مُلِحّة؛ فالأجيال الشابة تُعرِض عن قراءة المجلّدات الكبيرة والمتعدّدة الأجزاء، وهي منصرفة إلى اكتساب الثقافات المتداولة يوميًّا عبر وسائل الاتصال الحديثة. ولم يعد بمقدور من تبقّى من دُور النشر التي كانت كثيرة العدد، ثم تضاءل وجودها بصورة ملحوظة، أن تتحمّل نفقات الطباعة لمرويّات تاريخية تكتب على غرار مسلسلات تلفزيونية استهلكت التاريخ لكثرة تكرارها، وباتت عائقًا كبيرًا أمام التجدّد الثقافي والإعلامي على المستوى العالمي.
تعتمد ثقافة التسلية الاستهلاكية الإطالة المملّة وغير المبررة، في حين تشكّل ثقافة الإيجاز العلمي في الكتابة التاريخية قاعدة صلبة للتطوير الثقافي، وبناء مجتمع المعرفة على امتداد العالم العربي والعالم. وبات الرأي السائد أن يكتب المؤرّخ مجلّدًا واحدًا في موضوع جديد، ويستعيض عن كتابة مجلّدات أخرى ملحقة بأن يضيف ما يستجدّ عند الضرورة على الكتاب الأول؛ لتصبح الطبعة الجديدة مزيدة ومنقحة. وهناك كتب كثيرة ذات طابع أكاديمي رصين عالجت تاريخ العرب المعاصر والحديث بإيجاز مكثف مع الحرص على إعطاء الأولوية لتطوير المعرفة في مختلف المجالات الثقافيّة ومنها الكتابة التاريخية؛ فالتطويل غير مبرّر، ولم يعد مألوفًا أن يعالج مؤرّخ واحد موضوعًا واحدًا أو تاريخ بلد واحد في أجزاء عدّة كانت تتجاوز سابقًا العشرين مجلدًا في بعض الأحيان؛ إذ غالبًا ما تقود الإطالة في سرد الأحداث إلى مَغَالِطَ كثيرة تُخرِج الكتابة التاريخية من دائرة البحث العلمي الرصين، وتدخلها في دائرة السرد الممل والمتحلّل من أي ضوابط تُذكر في الشكل والمضمون والمنهج.
لا بد إذًا من اعتماد الإيجاز في الكتابة التاريخية الموثقة والمُسندة. وتنصح دور النشر بضرورة الاستفادة من الدراسات التاريخية المكثّفة لتحويل المعطيات أو الأحداث إلى نصّ علمي متماسك يجذب القرّاء، ويشكّل مدماكًا صلبًا في بناء مجتمع المعرفة العربي. فالإيجاز علم وفن، هدفه تقديم الحدّ الأقصى من المعلومات من خلال الحدّ الأدنى من الكلمات. مع ما يستوجب ذلك طبعًا من حفاظ على مضمون الرواية التاريخية، وبلورة لجديّتها بعد تعريتها من الشوائب أو ما أطلق عليه ابن خلدون في مقدّمته صِفة «مغالط المؤرّخين».
المطلوب من المؤرّخ العربي
● لنتحدث أكثر عن أزمة الكتابة التاريخيّة العربيّة المعاصرة، والحديثة منها بوجه عام؟ كيف تلخصّها؟ وما هو تقييمك للرأي القائل: إنّ تاريخ الوطن العربي لم يكتب بشكل علمي حتى الآن؟
■ تاريخ العرب المعاصر والحديث حقل واسع جدًّا، شاركت في كتابته مجموعات من المؤرّخين القدامى والمؤرّخين الشباب؛ وهو ما جعل تصنيف إنتاجهم ضمن مدارس تاريخية محدّدة أمرًا بالغ الصعوبة. وفي هذه المرحلة من تاريخ العرب المعاصر، صارت الكتابة التاريخية مختبرًا حقيقيًّا لإظهار حركيّة التاريخ العربي، من الاستعمار، إلى التحرّر الوطني، وبناء الدولة العصرية على امتداد العالم العربي. وذلك يتطلب التعلّم من دروس التاريخ؛ فبات على المؤرّخين العرب اليوم اعتماد منهجية التاريخ الاجتماعي؛ لأنها الأرقى والأكثر حضورًا على المستوى الكوني. ويختزن التاريخ العربي كمًّا هائلًا من الدراسات التاريخية التي كتبها مؤرّخون عرب باللغة العربية وبلغات عالمية، إضافة إلى ما كتبه مؤرّخون مستعربون عن تاريخ العرب من دراسات منصفة ومنشورة بلغات عالمية أو مترجمة إلى اللغة العربية.
والمؤرّخ العربي اليوم مطالب بتقديم التاريخ العربي وفق دراسات علمية جديدة مبتكرة، بعيدًا من السرد الممل واعتماد التحليل المعمق ورسم حركيّة المجتمعات العربية في مرحلة التاريخ الحديث والمعاصر، وتجاوز التأويلات والسرديّات المتسرّعة، وإطلاق مقولات منهجية مبتكرة يتدرّب عليها المؤرّخون العرب الشباب، ويكون هاجسها الانتقال بالتاريخ العربي من مرحلة سرد الأحداث إلى إبراز قدرة العرب على الانتقال من التاريخ العبء إلى التاريخ الحافز، وبناء مستقبل عربي واعد، فيحقق علم التاريخ غايته في كتابة التاريخ العربي على أسس علمية تؤكّد حكمة عربية تقول: «من يدرس التاريخ يضيف أعمارًا إلى عمره». علمًا أن الكتابة التاريخية تختلف عن غيرها من فنون المعرفة الإنسانية من خلال تقديم المعلومات التاريخية عبر تكثيف الأخبار وتحليلها وإبراز الإشكالية العلمية والفرضيات الموضوعية والاستنتاجات الدقيقة، واختيار أفضل أسلوب لغوي يتلاءم مع طبيعة المادة التاريخية من حيث الوصف السردي والتحليل العلمي والإيجاز اللغوي. وتضطلع الصياغة اللغوية الدقيقة بدور أساسي في تنسيق الكلام وحسن تنظيم الجمل اللغوية واعتماد السهل الممتنع في مجال التفسير والتحليل والتعليل والاستنتاج تبعًا لفروع الكتابة التاريخية.
لذا يحتاج المؤرّخ اليوم إلى خبرة واسعة واعتماد الابتكار الذي يظهر قدرته على كتابة نصه وتوظيفه في سياق معرفي، بحيث تتبلور مهارته على القواعد المعتمدة في الكتابة التاريخية وغيرها من أنواع المعرفة التي تتلخصّ بعبارة: «الأسلوب هو المؤرّخ»، أي تجسيد لشخصيته. على أن يمارس المؤرّخ السرد إلى جانب التحليل المعمق. وخير مثال على ذلك ما وصفه ابن خلدون في مقدمته: «التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، لكن في باطنه نظر وتحقيق». وهي مقولة علمية رائدة تحتاج إلى دراسات مستفيضة لشرح أبعادها النظرية ومضامينها غير المحدودة. وأبرز الأهداف المتوخاة من كتابة تاريخ العرب الحديث والمعاصر هي نقل دروس التاريخ من جيل إلى جيل عبر نماذج تاريخية مكثفة جدًّا ومُسندة بالوقائع الدامغة.
ومع تطور منهجية البحث التاريخي، تعزّزت العلاقة بين علم التاريخ وباقي العلوم الإنسانية، ومنها الجغرافيا البشرية، وعلم الآثار، والأدب الاجتماعي، وعلم الاجتماع، وعلم الأنثروبولوجيا، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم السياسة، وعلم الاقتصاد، وعلم الإعلام والتواصل. وتنوّعت مدارس كتابة التاريخ الاجتماعي منذ نشأتها في أوربا، وفي طليعتها مدرسة الحوليّات التي تبنّت مقولات فرناند بروديل عن رؤية التاريخ على المدى الزمني الطويل، واعتماد الامتداد الجغرافي، والتنوّع الحضاري، وتعدّد المناهج الإنسانية لدراسة التاريخ الاجتماعي.
من مستنقع الشرق إلى شرق جديد
● قلتَ مَرّةً: إنّ التخلف الثقافي أسهم في بروز علاقة ملتبسة بين ماضي العرب الذهبي ومستقبلهم الضبابي في عصر العولمة، وعليه فإنّ الوطن العربي يحتاج اليوم إلى بناء حاضره بصورة عقلانية تجعله قادرًا على الانتقال من مرحلة التاريخ العبء إلى منصّة التاريخ الحافز.. هل من توضيح أكثر لمضمون كلامك هذا؟
■ بعد نجاح الفتوحات الإسلامية في زمن الخلفاء الراشدين تأسست الدولة الأموية وعاصمتها دمشق، وامتد نفوذها إلى الأندلس غربًا والهند والسند شرقًا. ثم أعقبتها الدولة العباسية التي بلغت أقصى تجلياتها في زمن الخليفة هارون الرشيد وابنه الخليفة المأمون الذي بنى مكتبة «بيت الحكمة» في بغداد التي اعتبرت أرقى مكتبة ثقافية في العالم. فقد أجزل المأمون العطاء لعدد كبير من المبدعين العرب وغير العرب الذين قدّموا أعمالًا رائدة في مختلف مجالات العلوم والطب والهندسة والأدب والفلسفة والموسيقا وغيرها. وأجزل العطاء للمترجمين الذين ترجموا من اليونانية والفارسية والسريانية وغيرها أعمالًا ثقافية رائدة إلى العربية، فتركت أثرًا كبيرًا في الحضارة الإنسانية. ثم ترجمت تلك الأعمال إلى اللغات الأوربية حيث اضطلعت بدور بارز في النهضة
الأوربية الحديثة.
وصفت تلك المرحلة عند العرب بالتاريخ الحضاري الحافز بوصفهم من بناة الحضارة الإنسانية الأوائل على المستوى الكوني. واستفاد من أعمالهم الطليعية في ذلك العصر الذهبي عند العرب كثير من المثقفين في مختلف دول العالم، ومنهم روّاد النهضة الأوربية الحديثة. لكن عجز الخلفاء العرب عن حكم شعوبهم أوقعهم تحت حكم المماليك، ثم العثمانيين. وعرفت تلك المرحلة بعصر الانحطاط الثقافي، فدخل المثقفون العرب مرحلة تقليد الغرب في مختلف المجالات من دون نجاح يذكر. وبات من أولى واجبات نخبهم السياسية والاقتصادية والثقافية اليوم وَصْل ما انقطع من تاريخهم الحديث والمعاصر مع تاريخهم الحافز في عصره الذهبي.
وبات التاريخ العربي في المرحلة الراهنة يوصف بالتاريخ العبء؛ لأنّ أحفاد عصر العرب الذهبي لم يرتقوا بتاريخهم المعاصر والحديث من نسق التقليد إلى سمت الإبداع. وهم بأمسّ الحاجة إلى صنع تاريخ جديد يعيد للعرب موقعهم الطليعي في الحضارة العالمية. وهذا ما عبّر عنه الشاعر اللبناني خليل حاوي في قصيدته «الجسر»، حين كتب عن تجسير الفجوة بين التاريخ الحافز والتاريخ العبء لبناء نهضة عربية جديدة بقوله:
«يعبرون الجسر في الصبح خفافًا
أضلعي امتدت لهم جسرًا وطيد
من كهوف الشرق من مستنقع الشرق إلى شرق جديد
أضلعي امتدت لهم جسرًا وطيد».
على الرغم من تخلّف المجتمعات العربية وعجزها عن بناء دول عصرية، فإنّ ثمة نخبًا ثقافية عربية تنويرية سعت وتسعى إلى ممارسة الحرية والإبداع في مختلف المجالات، وعلى رأسها مبدأ استعادة العرب لحافزيّة المقدرة على رسم وتسجيل وقائع تاريخية مغايرة، يطمح إليها الملايين من بني جلدتنا؛ إذ مع الأسف لا يزال بعض المؤرّخين عندنا يكتب التاريخ العربي بخلفيّة الإسهاب في تاريخ الزعماء وكبار المتنفّذين الذين أبقوا الشعوب العربية أسرى التاريخ العبء. ومن هنا ضرورة أن يتحوّل المؤرّخون العرب الشباب نحو تسجيل تاريخ الشعوب، وليس تاريخ الزعماء والقادة فقط.
ثمة كم هائل من الدراسات التاريخية السردية التي أساءت إلى تاريخ العرب في مختلف مراحله؛ فهي تركّز على مذكّرات قادة الانقلابات العسكرية، ورموز منظومة الفساد والإفساد التي سيطرت على مقدّرات الشعوب العربية، وتستغل الطبقات الفقيرة والوسطى، وجماهير القوى المنتجة؛ فهجرت النخب الثقافية والفنية والإدارية والمهنية إلى خارج الفضاء العربي، ومنعت تنفيذ كل أشكال التغيير والإصلاح بالطرق الديمقراطية السليمة. وهي دراسات سطحية عمّمت الثقافة الاستهلاكية، وحاربت الثقافات الإبداعية في مختلف حقول المعرفة، وفي طليعتها معرفة تاريخ العرب الحديث والمعاصر بالاستناد إلى وثائقه الأصلية التي تبرز دور النخب الثقافية في تطوير المعرفة النقدية، وبناء مجتمع المعرفة العربي.
فما كتبه المؤرّخون المتنوّرون العرب في هذا المجال شكّل مكتبة علمية غنية بالدراسات التاريخية التي رفضت الانجرار وراء المقولات الاستشراقية الغربية التي أسهمت في تشويه تاريخ العرب ونضالات شعوبهم ضد الجهل والتخلّف والتبعيّة للثقافات الغربية الوافدة. انتقد العرب المتنوّرون بشدة القيادات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية التي تقمع الشعوب العربية وتجعلها أسيرة التاريخ العبء. وحذّروا من أخطار قراءة تاريخ العرب بعيون استشراقية غير منصفة قدّمت دعمًا قويًّا لمناصري التاريخ العبء الذي يبقي العالم العربي، على الرغم من طاقاته البشرية والماديّة الهائلة، عاجزًا عن الإصلاح أو بناء دولة ديمقراطية حقيقية، أو تحرير الأراضي العربية المحتلة.
في المقابل، نشر الروّاد من المؤرّخين العرب مجموعات كبيرة من الكتب التاريخية وفق منهجيّة التاريخ الاجتماعي، أبرزت تنامي العلاقات المتبادلة بين الجماعات العربية في مواجهة الصراعات الإقليمية والمخططات الدولية التي أسهمت في ولادة الدول العربية الحديثة في مشرق عالمنا العربي ومغربه؛ وأخصّ بالذكر دراسات قسطنطين زريق، وعبدالعزيز الدوري، وشارل عيساوي، وأدمون ربّاط، وعدنان البخيت، ونقولا زيادة، وعبدالكريم رافق، وعبدالجليل التميمي، وعبدالله العروي، وعلي محافظة، وجورج قرم وغيرهم.. وغيرهم ممن نشروا دراسات تاريخية رصينة تؤكد أن العرب لن يقبلوا بزوال فلسطين، وبانتصار المشروع الصهيوني مهما بلغت التضحيات. وتمسّكوا جميعًا بمقولة «التاريخ الحافز» التي ترى أنّ أصحاب الحضارات الإنسانية، كالحضارة العربية المعترف بها عالميًّا، التي أسهمت في بناء الحضارة الكونية، لن يتخلوا عن دور شعوبهم الفاعل في التاريخ الحضاري في إطار النظام العالمي الجديد، مهما كثرت الضغوط والمعوقات الاستعمارية.
ومع هذا الكمّ المتزايد من الكتب التي تناولت تاريخ العرب المعاصر والحديث بعيون عربية، وليست استشراقية، انتشرت مقولات ثقافية وسياسية عقلانية جديدة تنظر إلى الماضي بعيون الحاضر المفعم بالأمل في التحرر، وبناء مستقبل أفضل؛ فتوسعت حقول المعرفة بتاريخ العرب المعاصر والحديث، وتجاوزت كتابة تاريخ الجماعات القبلية والعشائرية والطائفية السائدة إلى كتابة تاريخ العالم العربي بتنوّع مكوّناته السكّانية وأنظمته السياسية وبناه الاجتماعية والثقافية. وأولت اهتمامًا خاصًّا بالتحوّلات البنيوية التي تشهدها بعض الأنظمة السياسية العربية التي نجحت مؤخرًا في إدخال تغييرات بنيوية كبيرة على المجتمعات التي تدير شؤونها. وانتقدت بشدّة أنظمة سياسية أخرى ما زالت عاجزة عن الإصلاح ونشر الديمقراطية السليمة بعيدًا من الانقلابات العسكرية، وحكم الحزب الواحد أو الزعيم الأوحد. وهي أنظمة تبدو اليوم مترهّلة؛ بسبب الفساد الإداري والمالي، وطاردة للنخب الثقافية والإدارية العربية المتنوّرة إلى خارج الوطن العربي؛ ما أبقى عددًا لا يستهان به من شعوبنا العربية أسرى التاريخ العبء، وأسرى منظّمات سياسية وطبقية متخلّفة بطبيعتها البنيوية ومولّدة للأزمات والحروب الأهلية والثقافة الاستهلاكية.
تعديل خريطة سايكس بيكو
● يبدو أنّ مشروع المؤرّخ البريطاني/ الأميركي برنارد لويس (1916– 2018م) لتقسيم البلدان العربيّة إلى دويلات طائفيّة ومذهبيّة وقبليّة وعشائريّة، هو في أوجه في هذه المرحلة الحرجة من تاريخنا؛ وثمة بلدان عربيّة عدّة هي في حالة احتراب أهلي مؤسف وأزمات داخليّة مستعصية تفتك بها شر فَتْك، وآخر نموذج على ذلك دولة السودان.. ما تعليقك؟
■ ارتبط تاريخ العرب الحديث والمعاصر ارتباطًا وثيقًا بولادة وتطوّر المشروع الصهيوني في المشرق العربي. ويسعى الأميركيون اليوم إلى تعديل خريطة سايكس بيكو القديمة لإحلال مشروع الشرق الأوسط الجديد برعاية أميركيّة مع خريطة جغرافيّة مضخّمة لإسرائيل الكبرى، كما رسم حدودها المؤرّخ برنارد لويس. علما أن مشاريع تقسيم المناطق العربية أكثر من أن تحصى، وأبرزها مشروع بانرمان لعام 1907م الذي أعدّ تحضيرًا لإعلان وعد بلفور، ومن ثمّ لولادة المشروع الصهيوني برعاية بريطانية على أرض فلسطين.
أتيحت لي الفرصة للحوار مع برنارد لويس في مؤتمر دولي في إسطنبول، كان يتحدث فيه بفوقية الباحث الذي يرى نفسه من صنّاع التاريخ، وليس من كُتّابه. كان يحظى باهتمام كبير أينما حل، وكانت غالبيّة مقولاته المكتوبة لا تستند إلى مصادر موثوقة؛ لأنه يرى نفسه المصدر والمرجع فيما يقول وفيما يكتب.
في المقابل، لدى العرب رموز ثقافية كبيرة نشرت مؤلفات تاريخية رصينة، وتضمّنت مقولات ثقافية في حقل تخصّصهم تفوق دقة وموضوعية ما كتبه برنارد لويس. لكن المسألة في جوهرها تكمن في التدمير الذاتي الذي تمارسه بعض القوى السياسية العربية الملحقة تبعيًّا بمشاريع استعمارية خارجية لا مبرّر لها، فأدخلت اليأس من التغيير إلى نفوس شعوبها، بداعي النزاعات الدموية في أكثر من دولة عربية، وتدمير مواردها الاقتصادية وإفقار الناس، فارتفعت نسب الأميّة والبطالة والفقر والمرض بصورة جنونية، وتدنّى مستوى التعليم، وتراجعت أمور العناية الصحية وحماية البيئة الطبيعية. ثم بالله عليكم، لِيَقُلْ لي من يقول، أو بالأحرى يُجِبْنِي عن سؤالي المُلِحّ: هل هناك من مبرّر واحد للحرب الدائرة في السودان؟ وكذلك لماذا اعتمدت الطبقة السياسية الفاسدة في أكثر من دولة عربية سياسة تحويل الطبقة الوسطى (التي هي ركيزة الاستقرار الاجتماعي والازدهار الاقتصادي وطليعة الإبداع الثقافي والفنّي) إلى طبقة فقيرة ومهمّشة؟ فاختار، مثلًا، قسم كبير من أفرادها طريق الهجرة المفتوحة إلى الخارج للعمل والاستقرار. وتهاوت الركيزة الأساسية للتغيير الديمقراطي السلمي في الفضاء العربي.
تاريخ العرب من منظور تفاؤلي
● أمام تسارع الأحداث المعقّدة وتحوّلاتها الخطيرة في منطقتنا العربيّة اليوم، ألا ترى أنه بات من الضروري عقد قمّة خاصة بالمؤرّخين العرب الثقات، تكون مهمّتها العمل على رصد وتسجيل ما يجري لبلدانهم وأمتهم من وجهة نظر موضوعيّة وعلميّة، هذا من جهة.. وتجنّبًا لأن يتولّى الآخرون كتابة تاريخنا وفق أهوائهم السياسيّة والمعتقديّة من جهة ثانية؟
■ الديمقراطية السليمة تولّد الاستقرار الاجتماعي المفضي بدوره إلى الازدهار الاقتصادي، وفق مقولة المفكر الصيني كونفوشيوس. وهي تُبنى على دعامتين أساسيتين هما: الحرية والمساواة. لكن المعطيات الراهنة في العالم العربي تشير إلى غياب الديمقراطية من جهة، وإلى مشروع أميركي دولي خاص بالشرق الأوسط كُشف النقاب عنه بعدما شنّت إسرائيل حربًا دموية مريعة لتدمير قطاع غزّة وفرض حل غير مقبول للقضية الفلسطينيّة برعاية منظومة الدول الغربية الملحقة بها.
لكن هناك معطيات تؤكد أن الأوضاع الإقليمية والدولية لم تعد تسمح بإجراء أي تغيير جغرافي في الشرق الأوسط على حساب العرب الذين تنادى قادتهم إلى التمسّك بحدود دولهم، وبتعدّد أنظمتهم السياسية، أرضًا وشعبًا ومؤسّسات؛ فالخطر الأساسي يكمن في سياسة إسرائيل التوسعية الهادفة إلى تحويل المنطقة العربية المجاورة لها إلى دويلات طائفية وقبلية. وهو ما يعني أن الحرب مستمرة ما لم تندفع الدول العربية إلى التعاون والتوافق على سياسة عربية تكاملية على أسس عقلانية وديمقراطية سليمة، والسعي الجدّي للخروج من دائرة التاريخ العبء إلى التاريخ الحافز؛ حتى لا تُفرَض عليهم حلول من الخارج كما جرت العادة منذ عقود طويلة.
في هذا المجال ترتدي دعوة المؤرّخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، حاكم إمارة الشارقة، إلى تشكيل لجنة من المؤرّخين المختصّين أهمية استثنائية.. على أن يكتب، التاريخ العربي على أسس علمية رصينة، وبأيدي مؤرّخين عرب من ذوي الاختصاص العالي والثقافة الشمولية المتعمّقة بتاريخ العرب الحديث والمعاصر.
هي، ولا شك، دعوة تؤسّس لتيّار ثقافي عربي جديد يكتب تاريخ العرب من منظور تفاؤلي خدمة للقضايا العربية الكبرى. وهو مشروع مبارك وقابل للتنفيذ؛ فإلى جانب نخبة مميزة من المؤرّخين الذين نشروا دراسات تاريخية بالغة الأهمية، لدى العرب اليوم كوكبة من المؤرّخين الشباب الذين تلقوا علومهم في أرقى الجامعات العربية والعالمية. وهم جاهزون للمشاركة في مشروع نهضوي كبير يعبّر عن رغبة الشعوب العربية في التطور، وفي مواجهة المشاريع الاستعمارية الغربية التي عاقَتْ وَحْدَة العرب، وسلبت مواردهم الاقتصادية والمالية وأفقرت شعوبهم. ولا بدّ من الاستفادة القصوى من دراسات كبار المستعربين في العالم الذين أنصفوا تاريخ الشعوب العربية، ودوّنوا نضالاتها ضد القوى الاستعمارية الخارجية والقوى المحلية التي ارتبطت بها، وأنصفوا اللغة العربية وتراثها العريض وإسهام العرب في الحضارة الإنسانية.
نعيش اليوم مرحلة التدوين الكثيف في مختلف المجالات، وعبر مختلف وسائل الإعلام والنشر. وهناك ذهنية أكاديمية مسيطرة في الدول العربية تعطي الأولويّة المطلقة في الكتابة التاريخية إلى الوثيقة المدوّنة. وأتقن المؤرّخون الجدد استخدام التقنيات الحديثة التي تزوّدهم بمصادر جديدة؛ وأولت الدراسات التاريخية المعاصرة الاهتمام الكافي بالمرويّات الشفوية لدراسة وقائع ما زال بعض صانعيها على قيد الحياة. وتستخدم هذه المنهجية بصورة مكثفة في إعداد برامج إذاعية وتلفزيونية مهمّة، منها برامج خاصة لمن تطلق عليهم وسائل الإعلام صفة «شاهد على العصر».
وتعتمد الكتابة التاريخية اليوم منهجيّة علميّة متكاملة باتت ركيزة صلبة للدراسات التاريخية عن العالم العربي المعاصر تتكامل فيها الرواية الشفوية مع المرويّات المدوّنة والمحفوظة في وثائق الأرشيف العام والخاص. وهي تلبّي رغبة الكاتب الفرنسي الشهير فولتير الذي نبّه منذ عام 1774م إلى ضرورة كتابة تاريخ الناس كل الناس، وليس تاريخ القادة فقط. كتب فولتير: «يبدو لي أنه لم يُنظَرْ إلى التاريخ إلّا بوصفه عملية تجميع لتسلسل الأحداث؛ ففي كل ما قرأت لم أجد سوى تاريخ الحكام، وأنا كلّي رغبة لقراءة تاريخ الناس كل الناس».
وبإمكان الدول العربية أن تستعيد الكثير من وقائع تاريخ شعوبها بالاستناد إلى وثائق التاريخ المحفوظة في مراكز الأرشيف المحلية وفي سجلات الدول الاستعمارية. على أن تنطلق الكتابة التاريخية الجديدة من مقولة منهجية في غاية الأهمية، ومفادها أن الحاضر يفسّر الماضي وليس العكس. وأن الشعوب الحيّة وحدها هي القادرة على استخلاص الدروس من تاريخها الحضاري لتصويب مسار حاضرها والتحوّل المتواصل من التاريخ العبء إلى التاريخ الحضاري الحافز.
المنشورات ذات الصلة
بمناسبة صدور كتاب «رياض الشعراء في قصور الحمراء» خوسيه ميغيل بويرتا: نحن أمام مسؤولية إبراز التعايش مع الإرث الأندلسي بمفاهيم عصرية
بمناسبة صدور كتابه باللغة العربية «رياض الشعراء في قصور الحمراء» بالاشتراك مع الدكتور عبدالعزيز بن ناصر المانع،...
زياد الدريس: مركز عبدالله بن إدريس يهدف إلى تشجيع الابتكار وجائزة ابن إدريس أكثر من كونها شعرية أو أدبية
يتطرق الدكتور زياد بن عبدالله الدريس، أمين عام مركز عبدالله بن إدريس الثقافي، في هذا الحوار، إلى دور المركز في تنشيط...
عبدالحكيم أجهر: الفلسفة ليست خطابًا دخيلًا على الفكر الإسلامي والبغدادي قدم تصورًا فلسفيًّا جديدًا للعالم
الدكتور عبدالحكيم أجهر كاتب وباحث سوري، حاز درجة الماجستير عن إمام الحرمين الجويني، من معهد الدراسات الإسلامية بـجامعة...
0 تعليق