كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الألفة الأولى في فضاء البيوت وأعماقها
استعادة
«ليس كل منزل تقطنه يُدعى بيتًا».
قصيدة «البيت»، إدغار غيست.
«حين نتذكر البيوت والحجرات، فإننا نتعلم أن نسكن في داخلنا. كما كانت تفعل هي في صمتها الشاخص» باشلار.
«البيت أغنية ناقصة ما لم تفرش حجراتِه بإيقاع أنينِك»
عبود الجابري، «في مهب البيت».
ذاكرة الطين الفسيحة
… ولما كنتُ قد سكنتُ عبر عقود حياتي السبعة بيوتًا عدة، أحسب متيقنًا أن وصف البيت لا يصدق إلا على قليل منها.
سوف تأخذني ذاكرتي إلى البيت الأول؛ بيت الطفولة والنشأة الأولى. البيت العتيق بتعبير باشلار، ذاك الذي يتبادر إلى الذاكرة كلما ذُكر البيت. فما سكنتُ بعده من بيوت ليس إلا محاولة لاستنساخه أو استرجاعه كحلم يقظة أو ألبوم صور. أعود إلى البيت الأول، بيت اللاوعي الذي يبني الوعي في فضائه تصوراته عن الأمل والحلم والنسيان والفقد، والشظف والتطلع، والبدايات والمحاولات، والفشل والفرح العابر والأحزان الجمَّة، والوجوه: وجوه تظل محنَّطة في الذاكرة، كالفراعنة في فراغ قبورهم آهلين بالحياة، كأني بتلك العودة أترجم للإمكان قول أبي تمام:
«كم منزل في الأرض يألفه الفتى *** وحنينه أبدًا لأول منزلِ»
لا أذكر شيئًا عن البيت الذي سقط رأسي فيه. هي (الكرادة) المكان في رصافة بغداد قرب الضفة اليسرى لنهر دجلة، حيث أبي يدرّب طلاب الكلية العسكرية على الفروسية. لكنني أذكر جيدًا أيام طفولتي في بيتنا الطيني بقرية الرستمية التي انتقلتْ إليها الكلية في النصف الثاني من الأربعينيات.
يتمثل لي البيت الآن بصورتين: المكان والبشر، بتلازم شديد يميز بيوت الأُسر عادةً.
واسع تتقدمه ساحة ترابية تنتهي بباب مشرَع لا أذكر أنه يغلق، كأبواب بيوت القرى. لكن مسحة مدنية أكسبته مذاقًا آخر. فهو قريب من مقهى القرية ودكّاتها الطينية ومذياعها المعلق قرب السقف الواطئ. وثمة دكانان أو ثلاثة تبيع الحاجات البيتية والخضر والفواكه والحبوب، وبضعة محلات صغيرة لحلاق القرية ومضمدها وخياطها وإسكافيِّها وغيرهم.
أتمثل البيت الآن، ذلك العش والرحم، مساحة مفتوحة، غرف كثيرة للنوم والطعام والجلوس، للمؤونة والأنقاض والأشياء التي فقدت ألوانها ولكن ظلت تنبض بحياة ما وذكريات. مباخر وفوانيس وأعذاق ثوم وخضر مجففة، وأكياس حبوب، وحطب، وأوعية من نحاس، وزير من الفخار، ومناضد بلا قوائم أو مقاعد فقدت أغلفتها الجلدية. لم أكن أفقه سببًا لبقائها في زحام الأرضيات والرفوف الطينية، لكن رائحتها تكمل مذاق البيت. أتحسس الأشياء لأتعرف إليها. وفي الزاوية ماكنة لحفظ النفط -فهو طاقة النور والطبخ الثمينة- ألهو مستمتعًا بفتح صنبورها ليسيل وتملأ رائحته المكان، حتى عبثتُ بصبِّ النفط على ما تبقى من كيس طحين مخزونٍ لأيام الخبز القادمة.
تهَب بساطة البيت حريةً لتشكيله كما نشاء. سأسترجعه لا كما يفعل بعض كتّاب السيرة مجمّلين ماضيهم حاذفين أو مضيفين. عند ذاك سيفقد البيت أهم عناصر تميزه كمكان: الألفة. نذهب لباشلار مرة أخرى، وفاء لانتقاله من فيلسوف علوم إلى ظاهراتي فذٍّ يتعقب البيت وزواياه وأركانه وتمثيلاته الصغرى والكبرى كاشفًا جمالياته. استحق منا هذا العَود الدائم كلما حرّك المكان شجننا أو حسراتنا على فقْده. ونتوقف عند الألفة التي أصرّ على ألا نستذكر البيت من دونها. إننا بحسب ما يقترحه للصلة النموذجية بالبيت القديم الذي هو -كما يقول- كوننا الأول وركننا في العالم، يجب أن (نقرأ) ذلك البيت بهدي قيم الألفة فيه: لكل ما يحتويه قلبه وما يسكن في سلامِه. بيت الذكريات هو كوننا الأول وركننا في العالم. ولا يصح رسم صورة مبالغ في جمالها للبيت؛ لأنها كما يقول، تلغي الألفة عنه. ثم حين نتذكر البيوت والحجرات، فإننا نتعلم أن نسكن في داخلنا. كما كانت تفعل هي في صمتها الشاخص. ولما كانت البيوت الحقيقية للذاكرة كبيت الطفولة، لا تمنح نفسها بسهولة للوصف فسنتعثر في زواياها وعلاماتها، باحثين عن أنفسنا، وعنها أيضًا في داخلها.
يتسع بيتنا الطيني في (الرستمية) لدزينة الإخوة والأخوات، ولضيوف الأسرة الدائمين: أعمامًا وأخوالًا ينزلون لبغداد من ريف الكوت والعمارة ليحلوا بيننا، ريثما يعثرون على بيت. وثمة الزوار الكثر الذين لا تتحدد إقامتهم فيصبحون نزلاء معنا شبه دائمين أحيانًا، يتعقبون معاملاتهم في بغداد، أو يوفون نذور الزيارة لأضرحة الأولياء والأئمة جالبين معهم روائح الريف وأشياءه وثماره وحبوبه، وأسماكه وطيوره، وحكاياته أيضًا. كنا نحفظ مكان خزن تلك الأشياء فنتناهبها في غفلة عن الأهل.
تتكامل صورة البيت بتأثيث مفرداته. لا ضوء سوى الفوانيس والقناديل الزجاجية النفطية. نقرأ مجتمعين حول ضيائها المحاط بفَراشٍ يشاركنا شظف عيشنا أو يأنس لألفتنا وسعاداتنا الطارئة.
الساحة التي تتصدر البيت صُممت تلقائيًّا لعبثنا ولهونا وتجمّعنا. أطارد في ساحة البيت طيور الدجاج التي تتنزه حرة بين الأرجل خارج بيوتها وتسابق الصغار في جريهم في أنحاء الساحة الشاسعة. في ركن يقبع الوعاء الجلدي الذي تمخض فيه أمي اللبن، وفي ركن آخر أتخيل التنور الذي لا تهدأ ناره مرتين في اليوم. ولا بد أن ما علق في ذاكرتي هو البيت في موسم الربيع والصيف؛ لأني أسترجع الباحة الكبيرة وأغمض عيني عن الغرف الكثيرة المصطفَّة في الخلف، تؤدي إليها فتحات كبيرة لا تسترها أبواب، بل ستائر سميكة تؤدي وظيفتها. تلك الباحة تنثر الأسرة أشياءها اليومية فيها أيضًا. قطع الخشب التي تُقَطَّع حطبًا للتنور أو للموقد تعتليها فأس ضخمة. وإذ نلهو مع أطفال الجيران، يهوي أحدهم على إصبع أخي عبدالستار بالفأس. الأم الشجاعة الجنوبية التي يناديها قلبُها قبل سمعها هرعت وألصقت قطعة الإصبع التي انسلخت قبل أن يجف الدم ويفقد حرارته، فالتصق.
لا بد أن الجدران كانت تبعث تلك الرائحة التي ظلت في الذاكرة كلما لامس المطر الأرض. يمنح الطين حبات المطر رائحة يمتزج فيها التراب والعشب معا. ولا تضاهيها إلا رائحة الأرض بعد أن ترشها العائلة صيفًا عصر كل يوم إيذانًا بالانتقال إلى الحوش الخارجي لتناول الشاي. شاي العصر الذي أصبح جزءًا من حياة البيت العراقي وطقوسه، نتناوله متلذذين بما نغمسه فيه من كعك تعدّه الأسرة أو يجلبه الهابطون من المدينة.
العبور من البيت إلى الشارع لاستكمال طقس اللعب لا يكلفنا مشقة. خطوات وتصبح في الشارع الصغير الذي تصطف فيه البيوت مختلفة في هيئاتها بحسب ساكنيها.
منتصف الخمسينيات زارنا ضيف عجيب. جلب والدي من أسواق مركز المدينة جهاز راديو بماركته الشهيرة آنذاك: «فيلبس» بعينه السحرية الخضراء التي تلمع في ظلام الغرف شتاء، وشاشته الشبيهة بنسيج بساط. كان دوري هو أن أدوّن لأخي الأكبر برامج الإذاعة التي تتوقف لساعات قبل بدء بثها المسائي. للراديو مكانة خاصة؛ فقد وُضع على رف خشبي، وليس على دكة طينية كباقي الأشياء. وفي الأسفل تجلس بهيبة وفخامة بطاريته الكبيرة. حين تبدأ الفترة الغنائية عصرًا، نكون موزعين في فضاء الحوش الكبير، مرتمين على البسط المنسوجة باليد، وبالألوان التي يدهشني تنوعها وتوزيعها على وجه البساط. أقداح الشاي الصغيرة ترن فيها الملاعق وتتداولها الأيدي. بهجة تمتزج فيها العطالة والمرح والشعور بالدفء الأسري. في الصباح يتغير المشهد؛ فالأكف ترفع عنا الأغطية، تأخذنا من دفء اللحف والبطانيات والشراشف الخفيفة الملونة، لننهض مبكرًا. تعلو أصوات قارئ القرآن الكريم، وتتصاعد أبخرة الموقد حيث يقلى أو يسلق البيض غالبًا، بينما تغرينا بالإفاقة روائحُ الخبز الخارج توًّا من التنور.
لم أكن أشعر بضيق في رحبة البيت، عكس شعوري عند دخولي غُرفَه الموحشة في الغروب؛ لأنها بلا ضوء.
يمنحنا الحوش فرص اللهو والجري بلا توقف. وحدث أن داست قدماي فرخ دجاج حديث الولادة. ظلت قدمي اليمنى التي دهسته تشعرني بالتنمل فترة طويلة، بل صرت أخشى أن ألمس الأفراخ أو اقترب منها بعد ذلك.
تتلاصق البيوت وتمنح أمانًا غريبًا. فيمكن أن نرى الجيران عبر الأبواب المفتوحة ونحن خارجون لشراء حاجة أو ذاهبون لمدرسة القرية.
تتزين جدران الغرف الطينية بصور منتزعة من المجلات المصرية لفنانين وفنانات يضعها إخوتي الكبار في غرفهم. ولكن ما كان يستوقفني طويلًا هو (المحمَل) الخشبي الذي يبدو أنه مِلك والدتي كجزء من جهاز مهرها. دولاب خشبي أفقي بألوان زاهية وخزانات واطئة، وسطح يتسع لنضد الفرش والأغطية فوقه. بينما تحتل جانبيه صورتان: صورة للإمام علي بسيفه ذي الفقار، وهو يصرع عمرو بن ود العامري. وأخرى لبنت (المعيدي) التي يقال: إن ضابطًا بريطانيًّا أحبّها لفرط جمالها وتزوجها.
تلك النقوش والصور تمثل ميل القرويين إلى تلطيف عراء الجدران، وربما لتغطية المنظر الطيني للجدار، أو لجلب الألفة التي يحسّونها عبر تلك المرائي والتخيلات التي تبعدهم قليلًا عن شظف العيش وخشونته.
ستأخذ مني المدرسة الابتدائية ساعات ثقيلة، صغيرًا قبل استحقاقي القانوني في رغبة من الوالد في تعليمي كما يفعل مع سائر الأولاد، فأشتاق فضاء البيت، وأتلهف لأعود إليه.
في البيت كنت أغفو مستنشقًا دخان المدفأة النفطية التي تتوسط شتاءً أكبر الغرف، وأغالب النعاس مستجيبًا لنداءات أخي الكبير هاشم، وهو يساعدني في حلّ واجباتي المدرسية الثقيلة التي لا أفقه كثيرًا منها، وأتعثر في تعيين المطلوب مني، ثم أواصل إغفاءتي وأتتبع الحشرات ساكنة على الجدران وفي الأسقف، فأتساءل عن مغزى سكنهن داخل الغرف وضيقهن بالفضاء. ثم أتنبه لأخي يتأفف مطفئًا الفانوس، معلنًا يأسه وحلول وقت النوم.
تعلو ثانيةً في الظهيرة رائحة التنور المسجور، والعجين على جانبيه مكوّر بانتظار أن تتلقفه النار. والأرغفة تولد تباعًا حارّة ناضجة شهية من أتونه، ووجه الأم معروق مكلل بفرح خجول، وهي ترانا نتدافع لنتقاسم رغيفًا مستبقين الغداء.
الليل وحده كان يشعرني بالعزلة والخوف. يسكن كل شيء. وتزيد العتمةُ وحشةَ الغرف، ويبدو الخروج حتى لغرض ضروري ضربًا من الواجب الثقيل. أتطلع للظلام وبصيص ضوء يذبل رويدًا في الفانوس الناعس، وقد تعلق في مسمار على خشبة كبيرة وسط الغرفة.
من أين يأتي البيت بهذه السعة؟ تزوج في فضائه الكثيرون، وفارقنا من يغادر لعمل أو سفر. لكنه ظل تلك العلامة التي لا تكف عن عملها لتجتذب أسماعنا وعيوننا وذاكراتنا، وأفئدتنا بالضرورة.
قلوب البيوت الحجرية
بيوت كثيرة سأسكنها من بعد. بيوت من إسمنت وحجر وزينة وحدائق تتقدمها. بعد قيام الجمهورية عام 1958م حصلنا على بيت حكومي صغير في مدينة (الحرية) شمال بغداد، يمكن وصفه بالحضري، لا لأنه مزود بالكهرباء والماء وفي مدينة ضاجّة وقريبة من (الكاظمية) الصاخبة المحتشدة بالسكّان وبيوتهم الضيقة وبالزائرين يملؤون الطرقات، بل لأنه مختلف في عمارته وبنائه، وتغيَّر نمط العيش بفعل إيقاعه. افتقدتُ رائحة الأرض المبتلة والسعة ورؤية الشروق والغروب يوميًّا. لكن ما جذبني فيه، وأنا في سنتي الثالثة عشرة، أنّ له سطحًا نتخذه منامًا في أصياف العراق اللاهبة. فأظل أحدق في السماء التي تمتلئ بالنجوم أو الغيم، وربما أيقظنا مطر خفيف فهرعنا إلى الداخل. وذاك ما لم أكن أعهده في بيت الرستمية.
سأحصل بعد زواجي وعملي على بيت حديث في حي سكني جديد ببغداد. كان مختلفًا عن بيت الأسرة. تتقدمه حديقته الواسعة بأشجارها ووردها. ثم يأخذني المسلك المخصص مرآبًا للسيارة، ليدخلني في هندسة البيت الحديث التقليدية. هنا صار للضيوف غرفة وللطعام أخرى. وما كان ذاك في سكن سابق. وغرفة المعيشة حيز منفصل يجعل الإطلالة على الحديقة ممكنة ومبهجة. استجابت العمارة لمتطلبات العيش الجديد. قلَّ عدد أفراد الأسرة فقلَّت الغرف، وتراجعت للخلف كي يظل الفضاء مفتوحًا في المقدمة.
سكنتُ قبل ذلك بيتًا مشابهًا في مدينة الكوت بواسط حيث عملتُ مدرسًا. لكنه فقدَ نكهته لتكرار هندسته. ففي حداثة العمارة العراقية تلك الفترة تقليد وتكرار، باستثناء إطلالاته على نهر دجلة، وهو يستعد ليجدد قوته بمروره من السدّة الشهيرة التي بناها البريطانيون في مدينة الكوت عام 1939م. لم أكن أشعر بانتماء كبير لهذا البيت لكونه مؤجرًا. ثمة شيء ما يفصلني عن الأماكن المؤجرة، ربما لشعوري بأنها مؤقتة.
افتقدتُ بعد البيت الأول معنى البرد العذب في العصاري والمساءات وليالي الصيف. لقد صادرتْ الأبنيةُ الإسمنتية بغلظتها وجمودها تلك العذوبة. وكم تحمست لمباني الطين، حين قرأت لاحقًا عن العمارة الطينية التي تبناها في مصر معماري شهير هو حسن فتحي، ونادى بتعميمها. وقد تجسدت تلك الفكرة مبكرًا في العمارة الطينية في شبام حضرموت باليمن وعمارات الطين التي ينفذها بناؤون محترفون. وحين زار روائي نوبل، الألماني غونتر غراس، اليمنَ مرتين مطلع الألفية الثالثة؛ أذهلته العمارات الطينية أو ناطحات السحاب كما يسميها الناس. فقرر أن يفتح مدرسة تُعلّم الأولاد صنعة البناء الطيني كي لا تنقرض.
وأذهلتني عمارة البيوت الصنعانية حين أقمت في اليمن. وكأنها تخفي سرًّا بتطاولها وفراغات فضائها وانتهائها بتلك الشواقيص الصغيرة، والشبابيك الزجاجية الملونة بالغة الصغر. يمكن لمن في الداخل أن يرى من خلالها كل شيء في الخارج، لكن العابر لا يكاد يرى إلا ما تسمح به ضلفتا الشباك الصغيرتان. وفي الليل تتوهج القمريات وتذر النور عبر زجاجها بمهرجان ألوانها، وكأنها تعوّض مَن يراها ليلًا عما خصت به النهار، حيث ترسل ضوء ألوان زجاجها إلى الداخل. وتنقلنا بذلك إلى دورة الليل والنهار وزمنية العيش وتبدلاته. ويتعلق كثير منها في تعز وإب وسواها بالجبال معتصمة تلامس الأفق والغيم، وفضاء الكواسر من الطيور، وكأنها تسرد عزلة الإنسان ولجوءه إلى الطبيعة في أحوالها المختلفة. وتتفوق مرائيها البصرية على البناء الحجري والصخري المتين الذي تبنى به الجدران الصلدة والأسس المتينة.
بينما رأيت أثناء إقامتي المبكرة في عدن بعد استقلال الجنوب، بيوتًا يكسوها الصخر من الخارج، وتفرض الرطوبة والحرارة الفائقة في جوها بساطة في تزيين الخارج، والاستغناء عن الفضاءات الخارجية. بينما تنتشر على السواحل وقرب الضفاف والمراسي عشش الصيادين وأسرهم، تلوح أحيانًا كرواسم شبحية تخفق في الريح السموم والقيظ والرمال.
جماليات التناظر الممل
في كتابها «قضايا الشعر المعاصر» تذكر الشاعرة نازك الملائكة عوامل اجتماعية عدة لانبثاق الشعر الحر، من بينها ما سمّته (الهروب من التناظر)، معترفة بأنها تحس الآن أن دعوتها إلى الشعر الحر -في كتابها الشعري «شظايا ورماد» 1949م- التي كانت ثورة على طريقة الشطرين الخليليين، إنما هي في جذورها تجسيد لنفورها من هيئة المنزل المتناظر الذي يتطابق جانباه تمام التطابق، وأنها كانت تستشعر ضيقًا شديدًا بنظام البيت البغدادي، سواء القديم منه الذي ينشطر إلى نصفين تتوسطهما حديقة صغيرة، أو البيت المشيَّد في بدايات التوسع السكني الحديث على الطراز الغربي الذي لم ينجُ من هيمنة النظام الشطري الخليلي، فيقسم المهندسون المسكن إلى قسمين متساويين يمينًا ويسارًا بتناظر تام يعكس استمرار هيمنة البيت الشعري ذي الشطرين والنسق المتساوي، فيما بدأ طراز المباني يتغير مع ظهور الشعر الحر، فلا نجد ذلك التناظر، وإنما هو نثر لا تخطيط، كما تقول. وتلخص القول: إننا نتأثر بطراز المباني التي نحيا فيها، وتلك من علامات ارتباط الشعر والفن بالحياة.
لكنها -في تأويل ممكن- تعبير عن إسقاط الوعي والشعور والإدراك على شيئية البيت وكينونته، وقراءة دلالته بما تحفُّ به من علامات واردة في سياق التلقي. فالبيت العراقي في تلك الحقبة الأربعينية يستجيب لدواعي الحجْب والستر. كما أنه يزدحم بالمقابل بالحيوات الضاجّة، حيث تفرض طبيعة الخلية الأسَرية العراقية أن يلتم الأهل مهما تباعدوا تحت سقف البيت، حتى صار البيت يعني العائلة مجازًا. فيقال: هو من بيت فلان أي من صُلبهم. وليس مُساكِنًا لهم بالضرورة. وذاك يضيق بالشاعرة المرهفة المتمتعة أصلًا بالميل للعزلة والوحدة.
لقد كانت تستدعي ما عرفته في علم العَروض من سبب تسمية السطر الشعري بالبيت، تشبيهًا له ببيت السكنى، فهو يضم الكلام الذي يجتمع فيه، كما يضم الساكنينَ البيتُ أو الخيمة بالأحرى. وصارت مقاطع البيت الشعري أوتادًا، ونصفاه مصراعين كما تُسمى الأبواب. أو كما جاء في «لسان العرب» أن البيت من أبيات الشعر سُمي بيتًا؛ لأنه كلام جَمع منظومًا، فصار كبيتٍ جُمع من شُقق، ورواق، وعَمد.
ولا أدل على أن حكم نازك جمالي صرف وليس وظيفيًّا، أنها هرعت إلى فضاء سطح البيت لتكتب قصيدتها الحرة الأولى «الكوليرا». وانتشرت من سقف هذا البيت تلك الشرارة وتطايرت، لتحرق هشيم النَّظْم التقليدي الذي جثم قرونًا على متن القصيدة.
وبالنسبة لي ظل الهروب من التناظر شاغلي الأول، والبحث عن الألفة أكبر الموجّهات في اختيار البيت سكَنًا للجسد والروح معًا.
بيوت مموّهة في أميركا
القادم مثلي من شرق أُسَري وبيوت نابضة بحياة عارمة مهما بلغ فقرها، ستصدمه مرائي بيوت أميركا المشرعة للنظر. لا تحدّها أسيجة ولا أبواب خارجية. تتقدمها حديقة صغيرة كأنها ترحب بالقادم أو تترك أثرًا أخضر فيمن يغادر. زرتُها وتمعنتُ في هندستها التي تستجيب لطبيعة النفوس التي ترتاح للعزلة. فغرفة المعيشة هي أس البيت ومركزه. المطبخ مفتوح عليها أو قريب من فتحة كبيرة تفضي لباقي الغرف، تلك التي تُغلق طويلًا على الأبناء القليلين، يسكنونها كنزلاء فندق يعلمون أنهم مغادروه قريبًا. السلالم تتقاطع فوقها الأجساد مسرعةً. ولا تتطاول المنازل، تكتفي بطابق غالبًا او بطابقين؛ نبوءة عن مصير مساحة البيت التي تفرغ بعد سنوات وتكف عن حميميتها. تلتقي في أفيائه الأسرة من بعد في المناسبات الكبرى وحسب. يأتي الأولاد من أماكن مختلفة، ليحتفلوا بالأعياد؛ كعيد الشكر وأعياد الميلاد ورأس السنة، ويشرعون بالوداع فور انتهاء الإجازة. فماذا يحملون من البيت إذن؟ أتساءل.
وأجيب نفسي: القصائد وحدها ومخيلة الروائيين، والصور هي من تعيد تشكيل البيت جانبيًّا ولغرض ذاتي. تظل البيوتُ منازلَ، ولا تكتسب صفةَ البيت غالبًا.
لا تقوم البنية المعمارية هنا على متانة وخشونة وقوة عهدتها في بيوت بغداد وصنعاء مثلًا. فالأخشاب تغطي السقوف والجدران، ونراها عارية كجسد معروض بأشعة تصويرية، ولا سيما حين تتعرص المنطقة لعاصفة أو إعصار يكثر حدوثهما في أوقات مختلفة من السنة، فتتناثر الألواح الخشبية على الأرض كما لو دهستها حافلة مسرعة. وتتناثر معها الذكريات والأشياء. ولا ترى العين إلا خشبًا متكومًا في فراغ البيت الذي كان منزلًا، فطوته الريح وعصفت بموجوداته.
في السكن الأميركي براغماتية ساطعة الحضور شأنها في الأواصر والوظائف والصداقات، والحب أيضًا. لا شيء ثابت. تجد وظيفة أكثر دخلًا؟ اذهب وانتفع بها. لا منزل أول تحنّ إليه. المسنّون والمتقاعدون والعاطلون وحدهم يتخذون في أبهاء البيوت الكبيرة سمت الأشباح. لا يظهرون في فراغ الغرف والباحات إلا لرمي القمامة أو تفقد صناديق البريد أو قيادة السيارة للنادي الصحي والمواعيد. تراهم عيناك حيث لا سياج يحجب وحشتهم ولا أبواب. تظل لهم الغرف يُخبِّئون عزلتهم فيها ويمارسون أوهام لياليهم بما يمنح الغياب لذة مؤقتة، وينفضون سأم نهاراتهم بالأقداح، وترتيب المواعدة المتصنعة، وانتظار المصير الإنساني المعتاد.
سكنتُ أماكن بديلة للبيت؛ شققًا مستأجرة تتداخل غرفها، ولا ينفتح الباب إلا عن غرفة المعيشة حيث التلفاز وفتحة تؤدي للمطبخ المنفتح بأريحية عليها. الجوار لا يدعم فكرة البيت. جُزر بين الناس يصعب اختراق أديمها رغم المشاطرة اليومية في الممرات ومواقف السيارات وباصات الأولاد المدرسية. ورغم انفتاح حدائق البيوت الأمامية على بعضها دون أسيجة أو محددات. تظل ثمة ندّات خارج سياق العزلة، ولكن على حافاتها: الانحناءة، والإيماءة، والابتسامة، والكلمة المتطايرة عنوة من الشفاه حين تتلاقى الأعين. ابتسامة تنطوي على رسائل يسهل تأويلها. الجار مستعجل أو الفتاة ضجرةً من التحديق بها أو المُحْرَج يهبُ الابتسامة رشوة للاكتفاء بها عن يد التعارف وانفتاح القلب لقلب آخر. لا ضوء تنشره البيوت غروبًا. تعجبُ أين يمضي الناس وكيف تختفي مواقيتهم. لغز السنجاب نفسه. أين تمضي هذه الحيوانات الصغيرة الملساء وهي تملأ الأشجار في الربيع والصيف؟ أين تختفي شتاء؟ لا أحد يبصرها رغم عراء الأشجار وسقوط ما يغطيها شتاءً. أعشاش قليلة تبدو للعين من وراء زجاج النوافذ، ولكن لا إشارة لوجود ما. وهكذا هي البيوت، أعشاش سناجب فارغة تمتلئ بالصمت والظلمة والفراغ، فلا يظل لعمارتها وهندستها الداخلية إلا ما تحمله الصورة من سكون ممضٍّ وعراءٍ موحش وعجزٍ عن الكلام.
المنشورات ذات الصلة
لم يتم العثور على نتائج
لم يمكن العثور على الصفحة التي طلبتها. حاول صقل بحثك، أو استعمل شريط التصفح أعلاه للعثور على المقال.
0 تعليق