كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
محنة التقدم
بين شرط الإلحاد ولاهوت التحرير
هذه المقالة ليست، قصدًا، دفاعًا عن الدين، مثلما أنها ليست، قصدًا، دفاعًا عن آمِر النهضة أو التقدم، أو مرافعةً مضادة للإلحاد. فذاك كله لا يطلب عندي هذا القول بعينه. ومُحصّلُ الأمر فيها هو أنها خطاب ينطق بوجه من وجوه مبدأ العدل، وإبانة عن خلل معرفي في مركب المثقف العربي التنويري الضارب في «الحداثة المتأخرة».
شطحات العقل المأزوم
نشكو منذ أدهر قريبة، وبعضها بعيد، من عللٍ شتى، ونطلب شيئًا اسمه النهضة، زعم بعضهم، ممن هم على شاكلة الروائي واسيني الأعرج، أنها مستحيلة! أما المتفائلون فعلّقوها على الحداثة والتنوير، ووقفوا من ذلك عند مبادئ «عاقلة»، كالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان، وغير ذلك من القيم التي تُعزى، بدقة أو بخفة أو بتوهم، إلى التنوير والحداثة، وذلك في غياب تام للمقاربة وللفهم النقديين، وفي استقالة مطلقة قبالة قيم الغرب الليبرالي. وفي الأحوال التي تجذرت فيها (الاستقالة) لدى النخب الثقافية بدا كأن المشهد يفضح حالة (خصاء منهجي) تكشف في ثلة من الأوضاع -الحدية- القطيعة مع التراث التاريخي (عبدالله العروي)، نقد التراث (عصابة تکوين)، تجديد الخطاب الديني، وامتهان المدونة الحديثة والفقهية (إسلام البحيري)، تحقير وسب المقدمات والرموز الإسلامية (يوسف زيدان)، التنكر والامتهان للقضايا القومية الصميمية، وبوجه خاص للقضية الفلسطينية (إبراهيم عيسى والميديا/ الغوغائية المتواطئة)، الجراءة المسرفة في الجهر الفج بالإلحاد وتحقير عقائد المؤمنين (فراس السواح، الذي عرج إلى السماء وتحقق بأم عينه من أنه لا وجود للجنة وللنار!)، وزعم مغالطيّ جانح أن «الإلحاد شرط للنهضة» (أدونيس وآخرون).
هذه القضية الأخيرة تهمني. لا لأنها صادرة بشكل صادم عن شاعر ناقِم ينتحل لنفسه، بقدرة قادر، نعت «المفكر»، وإنما لأن مثقفين كثرًا، عربًا، تتلبسهم اللوثة نفسها. وقد أزعم أن الذي يغلب على مثقفي «الحداثة الراديكالية» أنهم ينتحلون هذا المذهب، لكن لم يذهب الهوى بأي منهم إلى أن يطلق هذه «المغالطة»، بِسفهٍ منقطع النظير، في أرض كانت منذ البدء مبدأ لأعظم تقدم تاريخي، وكان «فعل الإيمان» لا/ ارتكاسه الإلحاد، هو حاكم هذا التقدم.
بالطبع، ليس علينا أن نلقي بالًا لمثل هذه القضية حين ينطق بها شاعر؛ لأنها، بما هي قضية أنطولوجية- عُمرانية، تتجاوز أفق الشاعر وكينونته، لكن يتعين أن يكون لنا فيها شأن آخر إذا ما تمثلناها خارج حدود شطحات العقل المأزوم، وقدّرنا أنه يراد لها أن تكون قاعدة من قواعد الحداثة والتنوير والواقع.
والحقيقة هي أن جميع الذاهبين، في سؤال النهضة، هذا المذهب، يعوّلون في تسويغ المذهب على واقعتَيِ الحداثة والتنوير. لكن الذي يغلب على هؤلاء هو أن المعاني الحقيقية للحداثة والتنوير تظل غائبةً، قصدًا أو قصورًا، عن مدى مداركهم. كما أن جنوحهم إلى الاستمتاع اللّاذّ والاستفزاز القبيح بمديح الإلحاد في ذاته، «نكايةً» في المؤمنين، يخفي عيوبًا قد تكون عند بعضهم تكوينيةً أو «جِينية».
وبدءًا، ما الإلحاد؟ بكل بساطة ووضوح هو، فلسفيًّا، إنكار وجود «علة شخصية» فاعلة، مستقلة عن العالم، عاقلة، مبدعة أو خالقة لهذا العالم. حين تكون هذه العلة «مُفارِقة»، أي ليست هي العالم، تكون في حدود: «فلسفة في الخلق»، وحين تكون هذه العلة «محايثة» أو «باطنة» في العالم تكون في حدود فلسفة في «وحدة الوجود»، مباينة كل المباينة لمبدأ الخلق، أي الخلق من العدم، ونكون في الآن نفسه خارج حدود ديانات الوحي، التي تعلّق «الإيمان» على عقيدة الخلق أو الإبداع لا على عقيدة المحايثة ووحدة الوجود. وذلك يعني أن «فعل الإيمان» الديني الذي هو النقيض الجذري للإلحاد، يستند إلى مبدأ تعليق وجود العالم على إرادة «شخصية» مفارقة، عاقلة، فاعلة، خالقة، لها بالإنسان علاقة. حين تتدخل هذه العلة المفارقة في العالم المباشر، الشاهد، أي بالإنسان، يتبلور الدين بما هو «طريق للحياة».
في تجربتنا التاريخية لهذه الطريق، نشهد أشكالًا متباينة تتشخص في الخيار العملي الأخلاقي، أي في مقولة الفعل. أبرز هذه الأشكال اثنان. طريق أول هو طريق الفعل والتدخل والصنع والنذير، وطريق ثانٍ هو الطريق الارتكاسيّ، الانفعاليّ، السلبي، القابل، الذاتيّ، السكونيّ. الأول فاعل صانع مبدع، الثاني منفعل سكونيّ. الأول عقليّ وعمليّ منخرط في العالم، الثاني صوفيّ منحصر في الذات، ارتكاسيّ. يتبلور الأول في شكل إيجابيّ فاعل للدين، ويتشخص الثاني في شكل للدين سالب، طارد، انعزالي «ميثيّ». في حدود هذا الاستقطاب يتعين وضع معنى الدين ودلالته وقيمته في سؤال النهضة والتقدم، وفي فصل القول في التمييز بين الدين بما هو حافز على النهضة والتقدم، وبين الدين بما هو مضاد للنهضة والتقدم. في حدود هذه الإبانة ينبغي معاينة دعوى الإلحاد بما هي شرط للنهضة أو التقدم.
وذلك لا يتحقق، أولًا، إلا بالاحتكام إلى المعطيات الوضعية التاريخية، لا الأهواء والخيارات أو التفضيلات «القَبْلية». ولأن هذه الدعوى أُطلِقت في حدود الفضاءات العربية التي يحتل فيها الدين، دين الاسلام على وجه الخصوص، مكانة مركزية، فإن التحقق من قيمتها ودلالتها محكومان قطعًا بمعاينتها في حدود التجربة التاريخية لهذا الدين وفي المنطوق النظري والعملي له.
التجربة التاريخية للدين
واقع الحال هو أن التجربة التاريخية العربية- الإسلامية لا تحمل في هذا الشأن الدلالات نفسها؛ إذ هي تتقلّب بين أشكال متعددة من التشخص النظريّ والعمليّ. في مبدأ هذا التقلّب وفي الوضع التأسيسيّ للدين، وفي التمظهرات العملية له، مثَّل الدين، دين الإسلام، انقلابًا جذريًّا في الوجود العربي في التاريخ وفي التقدم العربي والتحول من الحالة القبلية الأسطورية إلى الحالة الإنسانية العالِمة، حالة الأُمة والحضارة. كان ذلك «تدخلًا» فاعلًا صانعًا مبدعًا. لم يكن مجرد حشد من المعتقدات التعبدية والروحانية الخالصة، وإنما كان «لاهوت تحرير» إنساني شامل انطوى معنى الألوهية فيه لا على خالص الحياة الروحية المعلقة في فضاء الميتافيزيقا للصوفية المتمترسة في أحوال المؤمن الذاتية الخلاصية، وإنما على عملية «غزو حضاريّ» وتحرير من أوهام الوثنية والأهواء والخرافة والسلطات الزائفة، أي نزع غلائل السحر عن العالم وبناء نظام العلم والعقل والقانون والإبداع والخلق والفعل والحرية، أي تفجير الطاقات النظرية والعملية للمؤمنين الجدد، وإعداد هؤلاء المؤمنين لبناء عالم حضاريّ جديد مثّل غزوًا روحيًّا وماديًّا وتمدينيًّا كونيًّا وأدرك مداه في العصر العباسي الثاني مرسلًا وجوهه وظلاله إلى جميع العوالم التي عرفها الكون المعمور. كانت العلوم النظرية والوضعية، والفنون والصنائع، والآداب، وفنون الحياة الجميلة المفيدة والفتوحات، بعض مظاهر التقدم العظيم الذي تحقق في حدود المشروع الديني التأسيسي الذي خرج من أعطاف «لاهوت التحرير».
بيد أن الوضع التأسيسي للدين وامتداداته في التجربة التاريخية وفي التفاعلات والاختلالات والتدافعات الداخلية والخارجية والمسَتصْعَبات العمرانية، قد انتهى في واقعه الأعم إلى تمثّلات للدين مضادة للإبداع والفعل والحرية. وهذه التمثلات هي التي تحكم في زمننا الحديث «الوضع الديني» وحالة «فعل الإيمان» وتمظهر الدين بما هو «أيديولوجيا ميثّية» فاقدة للحياة والإبداع والفعل.. بل واقعة في «رؤية سحرية» يتمظهر فيها الدين بما هو نشاط تعبدي شكلاني طارد يستكين فيه المؤمن إلى المهانة والاستبداد والذل وغياب الكرامة والنبل، ولا يطلب إلا الفوز بحُسْنيَيِ النفع الدنيوي والجنة. بذلك كفّ الدين عن أن يكون مبدأ حرية وتحرر من القيود والأوضاع التي خرج عليها في مبدأ زمنه التأسيسي؛ أي أنه كفّ عن أن يكون «لاهوت تحرير».
بالطبع ذلك لا يعني أن هذا الوضع مطلق قطعيّ؛ لأن ثمة ما ينبئ أو ما يُبين عن أن خروجًا عليه ينجم وأن اختراقات له تحدث هنا أو هناك. والذي أذهب إليه في هذا الشأن هو أن العالم العربي بات مسكونًا بقدر عظيم من الأهواء والأوهام، وأن مقالات الأنظمة «الكلامية» التقليدية والاجتماعية والسياسية الظافرة عززت الفلسفة التاريخية الضاربة بعمق في الجمود على الموجود والمستغرقة في الفعل والطاعة المضادين للتغيير والتقدم.
هذه الحالة التي وقف نظري عندها هي التي تسوّغ لمن ينتحلون «الحداثة المتأخرة»، وربما الحداثة بإطلاق، أن يتعلقوا بالاعتقاد بأن الدين مناهض للتقدم أو بأن الإلحاد شرط للنهضة، وبأن النهضة مستحيلة أو غير ممكنة في فضاء الإيمان، وأن الحداثة والتنوير تقضيان باختيار الخروج من الإيمان وتمثّل الإلحاد للنهوض والتقدم.
مغالطة صريحة
إن التمييز الذي انطوت عليه عروضي السابقة بين الدين بما هو «لاهوت تحرير» وبين الدين بما هو أيديولوجيا «ميثية»، سكونية، سالبة، سحرية، عدمية، يشي بوضوح بأن مقالة الإلحاد، بما هو شرط للتقدم، لا تستقيم إلا في حدود تصورات سالبة عدمية للدين لا في حدود الدين بما هو لاهوت تحرير. ومعنى ذلك أن الزعم بأن الإلحاد شرط للتقدم ينطوي على مغالطة صريحة. هنا يتعين وضع السؤال التالي: ما الذي، في طبيعة الإلحاد، يسوّغ الزعم بأن الإلحاد شرط للتقدم أو للنهضة؟ بالطبع، يمكن القول: إن الإلحاد ينطوي أساسًا على موقف دُنْيويّ، أي على رؤية تحصر وجود الإنسان بواقعه الزمنيّ المباشر، الواقع العابر الزائل الذي لا يملك المرء شيئًا آخر سواه، وليس أمامه إلا ما يمكن لهذا الواقع أن يقدمه من معاني الرضا والسعادة والاكتفاء والمتعة الذاتية الخالصة التي يمكن أن تحفز على الفعل والإنجاز والإثمار والتحسين الدنيوي الخاص، أي أن الإلحاد يقترن اقترانًا عضويًّا بمبدأ اللذة الأبيقوريّ، وهو مبدأ ذاتي فرداني يطلب سعادة الفرد وخلاصه، لا سعادة المجتمع أو الوطن.
أي أنه، من هذه الجهة، لا يطلب «تقدمًا اجتماعيًّا» أو «نهضة» شاملة، وإنما هو يطلب «تقدمًا ذاتيًّا». وبهذا المعنى هو لن يكون مبدأ لما جرينا على أن ننعته بالنهضة أو التقدم، وإنما هو مبدأ للسعادة الدنيوية الذاتية الخالصة. وأعظم من ذلك وأجلّ أن التقدم أو النهضة أو الإصلاح معانٍ ومواقف وأفعال، وكل ذلك يطلب الإقدام والتعلق بمبدأ إنكار الذات والجنوح العميق، بل الجذري، إلى «التضحية». وليس قبول هذه الغائبة مما يمكن القول: إنه ميزة من مزايا الشخص الملحد، على الوجه الأغلبي العمومي. والحقيقة هي أنه إذا أقدم هذا الشخص الملحد أو ذاك على «فعل تضحية» -وذلك ما تشهد به أحوال كثيرة- فإن معنى الإلحاد هنا لن يكون هو المعنى الذي يثوي خلف هذا الفعل، وإنما معنى آخر يمكن تفسيره في فضاء الكينونة العميقة لذات الفاعل.
لكن هذه الإبانة تطلب إبانة أخرى ترد الزعم بأن الإلحاد شرط للتقدم أو للنهضة؛ ذلك أن هذه الدعوى تنطوي، عند الآخذين بها، على الاعتقاد بأن الإلحاد شرط للنهضة، وأنها تتموضع في موقف يقيم صاحبه علاقة ضرورية بين النهضة المشروطة بالإلحاد وبين واقعتي التنوير والحداثة. فهي قضية تستقي مشروعيتها، عند الآخذين بها، من أنها وجه رئيس من وجوه التنوير والحداثة، وفلسفة التنوير هي التي يعتقد أصحاب هذه القضية أنها تؤسس الأطروحة. والتنويريون الحداثيون الراديكاليون هم الذين يطلقون أقاويل من هذا الضرب. لكن هل التنوير والحداثة يفرضان أو يفترضان فعلًا أو حقًّا هذه الأطروحة؟ لننظر ما التنوير؟ وما الحداثة؟
خروج الإنسان من قصوره
في حدود «تاريخ الأفكار» استقر القول على أن الحد الذي وضعه (إيمانويل كانط) للتنوير هو الحد المطابق للمصطلح. والتنوير في تحديد (كانط) هو «خروج الإنسان من قصوره الراجع إليه هو ذاته»، أي القصور الذي هو، أي الانسان، المسؤول عنه. والقصور هو عدم قدرة المرء على استخدام عقله دون قيادة العقل له. وإذا لم يكن سببه غياب العقل فإنه سيكون راجعًا إلى غياب العزم والجرأة في استخدامه دون قيادة الآخرين، أي أن مَرَدَّ ذلك كله إلى الكسل والجبن وغياب الجرأة والانقياد إلى سلطة خارجية والاستسلام إلى قيود تعزز القصور الدائم. لكن التنوير الذاتي والخروج من القصور ممكنان، بل إنهما مُحَتمّان إذا كان المرء متمتعًا بالحرية، يفكر اعتمادًا على نفسه لا على أوصياء عليه. والحرية الضرورية هنا، القمينة بتحقيق إصلاح حقيقي هي «الحرية الأقل ضررًا»، وهي استعمال العقل في كل الميادين بروية ودون الخضوع إلى «الطاعة» المقيدة للحرية؛ لأن تقييد الحرية يعوق التقدم في التنوير (كتابي: «معنى الأشياء»).
ومُحَصّل الأمر في معنى التنوير هو أنه يتقوّم بثلاثة مبادئ أساسية: العقل والاستقلال الذاتي والحرية. هذا هو الوجه الحقيقي للتنوير. لا شيء من هذه المبادئ الثلاثة يفرض القول بالإلحاد. لا العقل، ضرورةً، ولا الاستقلال الذاتي فعلًا، ولا الحرية إطلاقًا؛ إذ كل مبدأ من هذه المبادئ يفتح بواباته على الإيمان، مثلما يفتحها على اللاأدرية، أو على الإنكار، وذلك في حدود المعطيات الذاتية أو الشخصية لذات الإنسان الذاهبة إلى الإيمان أو إلى غير ذلك. وفي حدود هذه المطالعة يتعين علينا أن نُنَبِّه إلى أن فيلسوف التنوير، (كانط)، كان مؤمنًا ولم يكن ملحدًا، أي أن «العقل المستنير» قاده إلى الإيمان لا إلى الإلحاد.
صحيح أن «العقل النظري» لم يساعده على إدراك يقين الإيمان، لكن «العقل العملي»، زوّده بهذا اليقين وأنار له وجه الحق في المسألة. ومُحَصّل ذلك أن التنوير، وفقًا لعناصره الجوهرية، لا شأن له بالإلحاد جوهريًّا وعلائقيًّا وضرورةً. ويتبع ذلك التسليم بأن تعليق النهضة أو التقدم على الإلحاد هو دعوى هوائية زائفة.
لكن قد يقال: إن «الحداثة» نفسها، لا مطلق التنوير، هي التي تفرض هذه الدعوى وتشهد بها. فهل الحداثة تفرض حقًّا مثل هذه الدعوى؟
مفاتيح الحداثة التسعة
الأقوال في الحداثة كثيرة لا عد لها ولا حصر. وكلٌّ فيها يغني على ليلاه! لكن القول الفصل فيها، القول الذي يمكن اعتماده والموثوق به، هو القول الذي أبان عن حدوده الأستاذ الفيلسوف (جان- مارك بْيُوْت) في كتابه «مفاتيح الحداثة التسعة». والمفاتيح التي أبان عنها وفصّل القول فيها هي: الحرية الفردية، المساواة بين الأفراد، العقل في خدمة الهوى، أسبقية أو أولية العمل على الحكمة، والنبل على الدعاء (الصلاة)، أولية الحب على الإنجاب، أولية السوق على الجماعة، الديمقراطية التمثيلية نموذجًا جديدًا للنظام السياسي، أولية الأمة على الدين، الدين قضية شخصية. لا شيء من أي من هذه المفاتيح ينطوي من قريب أو بعيد على معنى الإلحاد. أي أن الحداثة نفسها غير ذات صلة جوهرية بواقعة الإلحاد.
وقصارى ما يمكن الوقوف منها على أمر ذي علاقة بالإلحاد وبالإيمان هو تقديم الدنيوي على الديني، وردّ الدينيّ إلى حدود الفضاء الشخصيّ أي إلى العلمانية، لكن العلمانية في ذاتها -وبما هي استقلال للعقل الإنساني في وضع النظم والشرائع الاجتماعية والسياسية، وإقامةُ علاقة فصل أو حياد بين الدين والدولة ومؤسساتها القانونية- لا تعني إطلاقًا الإلحاد بما هو إنكار للألوهية والدين. ثمة بكل تأكيد علمانيون فاقدون للإيمان، لكنْ ثمة أيضًا علمانيون مؤمنون، لكن تمثّلهم للإيمان يظل تمثلًا شخصيًّا ولا يتجاوز ذلك إلى التدخل في طبيعة النظم السياسية والاجتماعية والتشريعية للدولة.
ومُحَصّل القول هنا هو أن الحداثة لا تطلب، إثباتًا أو نفيًا، هذا المعنى أو هذا الموقف الذي هو الإلحاد. من أين تأتي إذن الدعوى العريضة، المغالِطة، دعوى تعليق النهضة أو التقدم على ضرورة الإلحاد؟ هي ليست، في حقيقة الأمر، دعوى عقلية- ميتافيزيقية أو فلسفية أو عُمرانية- وهي ليست دعوى مؤسسة على حس نقدي وضعي، أو على محاكمة منطقية ذات علاقة بالواقع الشاخص. وتعليقُها على التنوير وعلى الحداثة محض تضليل وخداع. وكذلك هي ليست تمثلًا ضاربًا في العلمانية الغربية نفسها أو في مطلق التحليل العلمي.
هي، وفقًا لتعبير (أرسطو) القديم، لكن السديد، «قول شعري». و«القول الشعري» في طبيعته، «قول كاذب»، «استِهامِيّ» وهوائيّ. وإذا كان ينبه على شيء ذي بال، فإنه ينبه على أنه لا ينبغي للشعراء والروائيين وأضرابهم أن يتحولوا، بأهوائهم وأوهامهم واستيهاماتهم، إلى مفكرين وفلاسفة، ويخوضوا في قضايا تعجز أحلامهم ومداركهم عن رؤيتها بوضوح وحكمة ونزاهة وحُسْن طوية.
مونتريال 24/8/2024م
المنشورات ذات الصلة
في مديح البريكولاج
استنبات لا يتعلق الأمر، هذه المرة، بما عودتنا عليه أفلام الكارثة، تلك التي تنحو منحًى عنيفًا في رسم نهاية العالم بالدم...
سيمون فايل.. وروحانية الفعل السياسي
ظهرت في السنوات الأخيرة الحاجة إلى الاهتمام وإعادة الاعتبار لشخصية وفكر الفيلسوفة والمناضلة الفرنسية سيمون فايل Simone...
نحن ضحايا أفكارنا
ما نتهم به الغرب نمارسه أضعافًا مضاعفة. والشاهد يقدمه اقتتال الإخوة والأشقاء، العرب والمسلمين، في الدين والعروبة،...
0 تعليق