المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم: القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم:

القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي

من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

تلوين الترجمة:

الخلفية العرقية للمترجم، وسياسات الترجمة الأدبية

بواسطة | نوفمبر 1, 2024 | قضايا

في يناير 2021م، وقفت الشاعرة الأميركية «أماندا جورمان» لتلقي قصيدتها «التل الذي نصعده» في حفل تنصيب الرئيس الأميركي جو بايدن. تحتفي الشاعرة الشابة الملونة في هذه القصيدة بتضافر الجهود نحو الأمل المنشود لمستقبل الأمة. نُشرت القصيدة بعدها مباشرة في كتاب مستقل، وبدأت دور النشر في ترجمة القصيدة للغات عدة. ثار الجدل عندما كُلفت مترجمة من العرق الأبيض لترجمة القصيدة إلى اللغة الهولندية؛ وبرر المعارضون موقفهم بأن مثل هذه القصيدة لن يتمكن من نقل خبرتها الشعورية، ودقائقها الثقافية إلا مترجم من الملونين، لما تحمله القصيدة من معانٍ وإيحاءات الشاعرة الملونة، وإحساسها في تلك المناسبة الفريدة التي تلت مناوشات التعصب في أثناء الحملة الانتخابية، وما تلاهما من أحداث الهجوم على مبنى الكابيتول. ثار الجدل في الإعلام الأميركي والهولندي الرسمي ووسائل التواصل؛ وهو ما حدا بالمترجمة أن تعتذر عن المضي قدمًا ضمن فريق الترجمة؛ وتكرر الأمر مع أعضاء آخرين في الفريق.

وقع ذلك الجدل، بينما كانت الكاتبة كورين تاختيريس تحضر لكتابها الذي عنونته «الترجمة والانتماء العرقي»، ونشر مطلع هذا العام (2024م) عن دار النشر روتلدج. مثلت حالة الجدل هذه للمترجمة والأكاديمية الأميركية مثالًا عمليًّا لتبيان إغفال دراسة أثر الانتماء العرقي، ودور التوجهات العنصرية في مجال الترجمة، والتحديات التي تواجه المترجمين الملونين ودارسي الترجمة من غير العرق الأبيض في الغرب، وغير الغربيين في العالم. سلطت جدلية ترجمة القصيدة الضوء على قضايا متجذرة في مجال الترجمة تؤثر فيها الهوية العرقية للمترجم على عملية إنتاج الترجمة وتلقيها. فكان ذلك الجدل من الشذرات التي أوقدت النقاش حول الانتماء العرقي، وتنوع التمثيل، ودور السلطة في الترجمة، والمناداة بمزيد من التنوع في مجال الترجمة، والسعي لفهم أعمق لدور العرق والهوية في الترجمة. فجاء الكتاب ثمرة لخبرة كاتبة من العرق الأبيض إبان عملها في ترجمة أعمال كتاب ملونين من ثقافات غير غربية، وارتباطها بنشطاء الحركات النقدية العرقية.

هيمنة الغرب الأبيض

تنطلق الكاتبة من فرضية الهيمنة «غير المقبولة» للعنصر الأبيض على الترجمة في الغرب، سواء من حيث الممارسة أو التنظير، في دراسات الترجمة. أثرت هذه الهيمنة في معايير وممارسات ونظريات الترجمة، كما أثرت في حضور المترجمين والكتاب الملونين وتقدير دورهم. فالهوية العرقية للمترجم لها دور حاسم في هذا الحضور وما ينتج عنه من تقدير لصالح العرق الأبيض. أضحى «البياض» هو الأصل، ونتج عن ذلك نقص شديد في التنوع العرقي في مجال الترجمة. وكان لهذا التفضيل للعنصر الأبيض تأثيره أيضًا في نوعية ما يترجم، وطريقة ترجمته، وهذا أدى إلى تهميش الكتب التي تنتمي إلى خلفية غير بيضاء أو خارج نطاق الثقافة الغربية، أو ترجمتها من منظور غربي ينمطها وفق ذائقة وتوقعات الغرب الأبيض.

تتبع الكاتبة تطور مفهوم «الرقيق» وارتباطه بالترجمة الذي تبدى في استخدام مصطلح «ترجمة الرقيق» أو «الترجمة الخانعة» لوصف الترجمة الحرفية المعيبة. في القرن الثامن عشر شاع استخدام هذا المصطلح لوصف الترجمة الرديئة، وترى الكاتبة أن هذه النظرة نشأت بالتوازي مع مفاهيم العرق والعنصرية حينئذ، وأن تحليل هذه الخطابات العرقية والعنصرية في الترجمة توضح بجلاء الأفكار التي بُنيت عليها السياسات الغربية التي تحدد من يترجم، وكيف يترجم. وأشارت إلى نتاج دراسات الترجمة التي تتبنى نظرية ما بعد الاستعمار وما كشفت عنه من طرق استخدم فيها الأوربيون الترجمة في استعمار الشعوب غير البيضاء، فقد كانت الترجمة إحدى أدوات الإمبريالية التي استُخدمت لتصوير تلك لشعوب وفق المنظور الغربي. فتمثل الرفض العام للترجمة الحرفية باعتبارها «خانعة» وغير مناسبة للترجمة الأدبية بربطها بمفهوم الرق العنصري، بينما رُبطت طلاقة الترجمة بالعنصر الأبيض.

هذا الربط في المعايير الغربية البيضاء للترجمة يتجاوز مفهوم «العبودية» الجمالي والسياسي إلى ربطه بتصور عن نقص المهارة والإبداع. وبهذا يتضح للكاتبة أن معايير الترجمة الغربية الحديثة التي تؤخذ على أنها بديهيات ومسلمات، مثل تجنب الترجمة الحرفية، تحمل في طياتها نظرة عنصرية تدلل على تفوق العرق الأبيض. ومن هنا ترى أن أخذ دور العرق في الترجمة على محمل الجد سيتطلب إعادة تقييم تاريخية ومعاصرة للمعايير التي ينظر إليها الآن على أنها من المسلمات في مجال الترجمة.

تورد الكاتبة العديد من الدراسات والإحصائيات والأمثلة التي تبين هيمنة العنصر الأبيض على قطاع الترجمة عامة، والترجمة الأدبية خاصة، لتثبت التفاوت العنصري وعدم المساواة في قطاع الترجمة الأدبية، سواء من حيث عدد المترجمين والكتاب الملونين، أو أنواع ولغات النصوص المترجمة إلى اللغة الإنجليزية. فغالبية النصوص المترجمة إلى الإنجليزية كتبها مؤلفون من العرق الأبيض، وترجمها مترجمون ينتمون إلى العرق نفسه. وهذا أدى إلى فقدان التنوع في أنواع الأعمال التي تترجم وتتاح للجمهور الناطق باللغة الإنجليزية، كما أن لغات النصوص المترجمة هي في الغالب الأعم من الدول الغربية، وهو ما عزز هيمنة العرق الأبيض على قطاع الترجمة. وتستند الكاتبة إلى استطلاعين أجرتهما نقابة المؤلفين وجمعية المترجمين الأدبيين الأميركية لبيان هذه الهيمنة. يبين استطلاع أجري عام 2020م أن المترجمين الأدبيين الذين شملهم الإحصاء؛ يمثل العرق الأبيض فيهم 72%، بينما يمثل العرق الملون 3% فقط، والبقية من انتماءات أخرى.

وبمقارنة نسبة تمثيل كلا العرقين في إحصاء سكان الولايات المتحدة في ذلك العام، تستنتج الكاتبة أن المترجمين الأدبيين البيض ممثلون تمثيلًا يزيد على نسبتهم في السكان التي تبلغ 62% من سكان الولايات المتحدة، والمترجمون السود ممثلون تمثيلًا يقل عن نسبتهم في السكان التي تبلغ 12% من سكان الولايات المتحدة. وأظهر إحصاء ترتيب اللغات الأكثر ترجمة إلى اللغة الإنجليزية في المملكة المتحدة، هيمنة اللغات الأوربية على اللغات الآسيوية والإفريقية في التراجم التي تمت ما بين عامي 2000-2012م. أما عدد الكتب من مناطق مختلفة من إفريقيا والشتات الإفريقي التي ترجمت إلى اللغة الإنجليزية، فيظهر التمثيل المنقوص للأدب الأسود المترجم.

دور الرأسمالية العنصرية

تفسر الكاتبة هذا الوضع على أنه نتاج «الرأسمالية العنصرية» التي تربط الرأسمالية بالتوزيع العنصري للثروة والسلطة، وكيف أصبح الانتماء إلى العرق الأبيض شكلًا من أشكال رأس المال. ثم تسقط ذلك على الترجمة الأدبية التي تعيد سياساتها إنتاج ودعم عدم المساواة، كما يتضح مما يواجه المترجمين الملونين من عوائق وإجراءات تحد من وصولهم إلى رأس المال الثقافي، والاجتماعي، والاقتصادي اللازم لدخول المهنة والنجاح فيها؛ وبهذا تحولت الملكية الفكرية إلى شكل من أشكال رأس المال الذي يقوم على مفاهيم عنصرية تمنع المترجمين الملونين من نيل حقوقهم الإبداعية والاستفادة من قيمتها. وترى الكاتبة أن تغييرًا جذريًّا في سياسات الملكية الفكرية وما يكتنفها من مبادئ الرأسمالية العنصرية بات أمرًا حتميًّا لقطاع الترجمة الأدبية كي يتخلص من منطق تفوق العرق الأبيض الذي يحدد قيم الترجمة، ويتحكم في رأسمالها.

لم تنج دراسات الترجمة من هذه الهيمنة البيضاء، وكان لهذا تداعياته على ممارسة وتنظير الترجمة، وكذلك على تداول وانتشار نتاج هذه الممارسات عالميًّا. ترى الكاتبة أنه في الوقت الذي تشابكت فيه دراسات الترجمة في الغرب مع جميع التوجهات، فإنها تجاهلت الدراسات العرقية، رغم أنها أثبتت حضورها في الدراسات الأكاديمية. كل ما اهتمت به دراسات الترجمة الغربية كان الاختلاف العرقي بين الدول الاستعمارية ودول ما بعد الاستعمار، دون إعطاء أثر التنوع العرقي في الترجمة في الغرب حقه من الدراسة. وإذا ما أعطيت هذه القضية حقها من الدراسة ستكشف أن المفاهيم والأنماط التي تسير مجال الترجمة في الغرب ليس فقط غربي التوجه، لكن يقع تحت هيمنة العرق الأبيض.

تحت هذه الهيمنة تهمشت تقاليد الترجمة وممارساتها ونظرياتها من خارج الغرب، وتعزز مفهوم الغرب كمصدر للمعرفة والقيم العالمية. لقد أبرز حضور الترجمة في الدراسات العرقية النقدية دور الترجمة في إنتاج ونشر الوعي بحضور الانتماء العرقي في الترجمة، ولا سيما في تحدي هيمنة الأطر اللغوية الأميركية والإنجليزية. وتضرب الكاتبة أمثلة عن الانحرافات والفجوات الدلالية في المعنى التي تحدث في ترجمة المصطلحات والمفاهيم العرقية بين اللغات والثقافات المختلفة، من نصوص متعددة حول السواد والزنوج لكتاب مثل فرانز فانون وأكيلي مبيمبي.

تكرر بالكتاب مصطلحا «الغرب» و«هيمنة العرق الأبيض»، وكل مفهوم منهما يمثل للكاتبة بنية تاريخية واجتماعية، له أبعاده السياسية، والثقافية التي ترتبط بعلاقات السلطة والاضطهاد. لكن هذه المدلولات والأبعاد أُخفيت وطُبعت لتكتسي برداء المعايير العالمية الثابتة، حيث ساوى الخطاب الغربي بين هذين المفهومين ومفاهيم العقلانية، والحقوق الفردية، والليبرالية، والإنسانوية، والديمقراطية. وبهذا مُرِّرَ مفهوما «الغرب» و«هيمنة العرق الأبيض» بموقفه العنصري ليمنح امتيازات ومزايا للعرق الأبيض في مختلف المجالات، مثل القانون، والتعليم، والنشر، والترجمة، ويضع المجموعات العرقية الأخرى في مرتبة أدنى. وقد ساعدت عمليات الاستعمار والاستعباد والاستعمار الاستيطاني في بسط هذه الهيمنة، وفرضها ضمن المعايير العالمية. وبهذا تغلغل المفهومان إلى معايير وممارسات الترجمة في الغرب، ليهمشا الترجمات والمترجمين ونظريات الترجمة التي لا تنتمي للغرب، أو العرق الأبيض.

جهود مجابهة هذا الوضع

هذه الامتيازات التي اقتنصها العرق الأبيض من بقية الأعراق في مجال الترجمة أعطتْ لهم أحقية الوصول إلى الموارد اللازمة للترجمة، ورأس المال الثقافي الذي يؤسس لها ويدعمها. وأضحى المترجمون ودارسو الترجمة من العرق الأبيض يُنظَر إليهم على أنهم أكثر تأهيلًا وكفاءةً في الترجمة من نظرائهم من بقية الأعراق حتى عندما يترجمون نصوصًا من ثقافات تلك الأعراق. ومن أجل فرض تلك السيطرة دون تصدير عقبة الاختلاف العرقي، سعى دارسو الترجمة إلى استبعاد الاعتراف، أو التقليل، من أثر موقف المترجم العرقي والآثار العرقية لخيارات الترجمة التي يقومون بها. وقد ساعدهم على هذا هياكل آليات السوق الأدبي والأكاديمي المنحازة للعرق الأبيض. بل وصل الأمر في دفاع المترجمين والأكاديميين عن تلك الامتيازات إلى اتهام من ينكر عليهم هذا بالعنصرية، والسعي إلى تقليل فرصة إتاحة كتابات الملونين وذوي الأعراق المختلفة لجمهور أوسع باللغة الإنجليزية. ترى الكاتبة أن هؤلاء يتدثرون في ثياب «المنقذ الأبيض» الذي يسعى لمد يد العون لغير بني عرقة، دون أن ينتقص من الامتيازات التي ينالها من بنية هيمنة العرق الأبيض، بينما تؤدي سياساته وممارسته على تقوية تلك البنية العنصرية.

أماندا جورمان

وفي إطار تقديمها لجهود مجابهة هذا الوضع، تتناول الكاتبة بالتفصيل مفهومي «التحالف الأبيض»، و«التوجه السياسي المبني على الهوية»، حيث تتكاتف جهود بعض المترجمين والأكاديميين البيض لاتخاذ موقف محالف للعدالة العرقية، بإلقاء الضوء على وجهات نظر الملونين، ومعارضة رفقائهم من العنصر الأبيض، مع اتباع التوجهات السياسية المبنية على الهوية المتضامن مع الفئات المهمشة في الترجمة من تضامن ائتلافي يسعى لسياسات ترجمة بعيدة من الانقسام. فالكاتبة ترفض الرؤية الإنسانوية الليبرالية لمفهوم «التنوع» التي تعيد إنتاج معايير تفوق العرق البيض بما يقلل من تحيزه العرقي ليظهر في ثياب التعدد العرقي، وتطالب برؤية مختلفة كليًّا ضمن عدالة عرقية تحويلية. وتستعرض الكاتبة حالة الجدل الدائر حول ترجمة قصيدة أماندا جورمان كمثال على سياسات الهوية في الترجمة، فترى أن الانتقاد الموجه لاختيار المترجمين كان نابعًا من مجموعات تتبنى سياسات هوية راديكالية وائتلافية تتحدى معايير هيمنة العرق الأبيض في الترجمة، التي تنبع بدورها من آراء مجموعة من النسويات السود اللواتي تبنين تحليلًا متعدد الجوانب ومناهض للرأسمالية وممارساتها القمعية، ودعين إلى التضامن مع المجموعات المهمشة. وقد انعكس هذا في محاولات المترجمين الملونين، وبخاصة النساء السود، الترجمة بطرق مغايرة تأخذ في الحسبان العرق، والطبقة، والجنس، والجنسانية، والشتات. وتقدم الكاتبة أمثلة على المترجمات السود اللائي يسنون سياسات الهوية في ممارستهن.

إستراتيجيات للمقاومة والتغيير

تستعرض الكاتبة التحديات التي تواجه ترجمة الخطاب العنصري في النصوص، والإستراتيجيات اللازمة لها، فهي ترى أن المترجمين لا ينبغي أن يبنوا تراجمهم على نية المؤلف أو معايير ثقافة المصدر، بل على تأثير الخطاب العنصري في الثقافة المستهدفة وقرائها، وخصوصًا الأشخاص الملونين. وتبين أن هناك إستراتيجيتين رئيستين: الأولى، تخفيف الخطاب العنصري أو إزالته؛ والثانية، الحفاظ عليه وتكثيفه. تهدف الإستراتيجية الأولى إلى تجنب إدامة العنصرية عن طريق تخفيف أو إزالة اللغة أو التمثيلات العنصرية من النص المصدر. ترى الكاتبة أن إشكالية هذه الإستراتيجية تكمن في حجب أو تعتيم عنصرية النص، خصوصًا في النصوص التاريخية التي تظهر أسس الفكر والسياسات العنصرية الحالية، إلا إذا استخدمت أخلاقيًّا بأن تكون مصحوبة بتعليق نصي يشرح ويضع سياق خيار تخفيف العنصرية أو إزالتها، أو استخدمت لإصلاح العنصرية العرضية أو اللاواعية في نصوص المؤلفين الأحياء. وتضرب أمثلة لذلك من ترجمات أدب الأطفال، والروايات الهايتية، والنصوص اليهودية القديمة.

أما الإستراتيجية الثانية، فتسعى إلى فضح وإدانة عنصرية النص بالحفاظ على اللغة أو التمثيلات العنصرية من النص المصدر وتعزيزها. ترى الكاتبة هذه الإستراتيجية أكثر فاعلية في الكشف عن عمل العنصرية في النصوص التاريخية، وفي النصوص التي تنتقد أو تدعم وجهة نظر عنصرية. ويمكن استخدام هذه الإستراتيجية بمسؤولية عندما تكون مصحوبة بتعليق نصي يشرح ويضع خيار الحفاظ على العنصرية أو تكثيفها في سياقه، أو عندما تستخدم للطعن في الوضع القانوني للنصوص العنصرية. وتضرب أمثلة لذلك من ترجمات رواية «قلب الظلام»، ورواية «ذهب مع الريح»، وكتاب «ألف ليلة وليلة». تقترح الكاتبة أن يتبنى المترجمون نهجًا أخلاقيًّا مناهضًا للعنصرية لترجمة الخطاب العنصري، الذي يتضمن التفكير في كيفية عمل العرق والعنصرية في النصوص والثقافات، وتحمل المسؤولية عن التأثير الاجتماعي والثقافي للترجمات، والانخراط في الحوار والتعليق مع المؤلفين والقراء وأصحاب المصلحة الآخرين. وهكذا تخلص الكاتبة إلى أن التغيير الذي ترنو إليه في مجال الترجمة ليحقق العدالة العرقية ليس مجرد مطالبة بزيادة أعداد المترجمين الملونين، وتقديم دراسي الترجمة الملونين، وإدراج الدراسات العرقية النقدية في المناهج الدراسية، ونشر عدد أكبر من الكتب للمؤلفين والمترجمين الملونين، بل هو تحول جذري في الهياكل والأفكار.

وتختم الكاتبة بطرح رؤيتها لنظرية الترجمة وممارساتها في مجال الترجمة الأدبية ومناهضة العنصرية، فبقدر ما كانت دراسات الترجمة وممارساتها على أرض الواقع مشروعات عنصرية تنتج وتعيد إنتاج المعاني والبنى العرقية، فإنها يمكن أن تصبح مشروعات للمقاومة والتغيير. ومن المبادئ والإستراتيجيات التي تقترحها الكاتبة للترجمة المناهضة للعنصرية: الاعتراف بالموقف العنصري للمترجمين وعلماء الترجمة ومُساءَلَتهم على ذلك أخلاقيًّا، إبراز صوت المترجمين ودارسي الترجمة الملونين، ورفع معدل ترجمة أعمال المؤلفين الملونين، ومن اللغات والثقافات المهمشة، وترجمة أنماط التعبير، وعناصر الخطاب العنصري دون اجتزاء، والمشاركة في الدراسات العرقية النقدية وغيرها من المجالات التي تعمق دراسة أثر العرق والعنصرية، وتطوير أخلاقيات الترجمة التي تهتم بالسياقات التاريخية والمعاصرة للاضطهاد العنصري والتحرر من القيود العنصرية.

وهكذا قدمت الكاتبة نهجًا نقديًّا متعمقًا لفهم وتفسير الطرق التي تتجذر فيها قضايا الانتماء العرقي والعنصرية في نظريات وممارسات الترجمة، جمعت فيه بين دراسات الترجمة والدراسات العرقية النقدية.

ضوء أخير على الكتاب

يقع الكتاب في مئة وتسع وثمانين صفحة، ويضم مقدمة وخمسة فصول وخاتمة. بدأت الكاتبة بتحليل تأصيل الظاهرة تاريخيًّا، حيث تتبعت الربط التاريخي بين الترجمة والنظرة العرقية الدونية لغير العرق الأبيض. ثم انتقلت إلى تفحص دقيق لامتدادات وتداعيات هذا الربط في الوقت الحالي، مظهرة استخدام الترجمة أداة للتمييز العنصري، ووسيلة لتشكيل وتعزيز الأفكار حول الأعراق والثقافات المتنوعة. واستمرت الكاتبة في تحليل العلاقة بين الترجمة والرأسمالية العرقية، موضحة كيف تسهم هذه العلاقة في تثبيت عدم المساواة الاقتصادية على أساس العرق. بعد ذلك، استعرضت الكاتبة حلولًا تتجاوز الدعوات السطحية لتحقيق التنوع في مجال الترجمة، حيث ركزت على دراسة دور سياسات الهوية في الترجمة بناءً على نقد فاحص ضمن الدراسات العرقية النقدية. وفي الختام، قدمت الكاتبة تصورها الخاص الذي يهدف إلى معالجة هذه القضية المعقدة والحساسة المتعلقة بترجمة الخطاب العنصري، مُلقية الضوء على التساؤلات حول أخلاقيات الترجمة والإستراتيجيات المتعلقة بها.

وعلى الرغم من أن الكاتبة تناولت بإيجاز دور العولمة في مجال الترجمة، فإنها أغفلت أثرها في القضية المطروحة بتحليل أعمق وتفصيل أكثر. يمكننا النظر إلى كيفية تأثير العولمة في تفاقم اختلالات القوى العالمية، حيث تظهر الثقافات السائدة بوضوح في النصوص المترجمة. يجب أن ننظر أيضًا إلى تأثير التقنية والترجمة الآلية والذكاء الاصطناعي في هذا السياق، حيث تؤدي هذه العوامل دورًا حيويًّا في قضايا العرق والتمثيل. فضلًا عن ذلك، يجب أن نلقي الضوء على دور التحيزات العرقية في الخوارزميات، وكيف يمكن أن تؤثر هذه التحيزات في المحتوى المترجم. فالخوارزميات غالبًا ما تُظهر الانعكاسات الاجتماعية والثقافية للمبرمجين، وهو ما قد يؤدي إلى تحيزات مقصودة وغير مقصودة في الترجمة الآلية. وهذا يضع التحولات الثقافية والتقنية في سياق أوسع، حيث يصبح فهمنا لقضايا العولمة والترجمة أكثر اكتمالًا عندما نأخذ في حسباننا هذه الجوانب المعقدة والمتداخلة.

ومع التزايد المطرد لحركة الترجمة في العالم العربي، وشيوع دراسات الترجمة، يعد هذا الكتاب، والنهج الدراسي الذي اتبعته الكاتبة في دراسة سياسات الترجمة وممارستها، مثال يغذي دراسة قضايا عديدة للترجمة في العالم العربي، وبخاصة تأثر الترجمة في العالم العربي تاريخيًّا بالقوى الاستعمارية، والجهود التي تلت ذلك، ودور الدراسات العرقية النقدية، ونظرية ما بعد الاستعمار في إثراء دراسات الترجمة في العالم العربي والنظر في تأثير التاريخ الاستعماري في الأعمال المترجمة والجهود المبذولة لكشف الرؤى وتحدي الموروثات الاستعمارية عن طريق الترجمة. ويظل للكتاب، وكاتبته، خصوصية ثقافية ترتبط بسياق اجتماعي وتاريخي من الخطأ تعميمه وإلا وقعنا في الدائرة نفسها من هيمنة المنظور الغربي بجميع ألوانه وتقلباته بين البياض والسواد.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *