كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات الإنسانية عامة والعربية خاصة. للحجيلي ديوان آخر بعنوان: «قامة تتلعثم» (شرقيات)، وهو من خلال إنتاجه الشعري يجرف التقليدي والمعايش؛ لكسر نمطية النص، والجنوح إلى عوالم أكثر اتساعًا في الكتابة الجديدة.
الديوان مقسم إلى ثلاثة أبواب رئيسة، الأول بعنوان: أسباب المثول، والثاني: مناسك الشبه، والثالث: مساوف. ويتضمن كل باب مجموعة من النصوص القصيرة التي تقترب من فن الإبيغرام اليوناني الذي يهتم بتقديم النقوش الشعرية ذات الوقع المؤثر محققة بذلك الصدمة الإدراكية الأولى للمتلقي لحظة قراءة النص الشعري. والإبيغرام هي مجموعة من الأبيات القصيرة التي كانت تكتب على شاهد القبر؛ لتذكر بمآثر ومناقب المتوفى في أثناء حياته كي لا ينساه الناس الذين عرفوه، أو الذين لم يعرفوه.
يعتمد الشاعر في بناء نصوصه القصيرة، كما جاءت في الديوان، على بنيات شعرية قصيرة جدًّا، تجسدت من خلال لغة شديدة التكثيف والإيجاز، تومئ ولا تفصح، متلبسة أرواح الاستعارات اليومية، ممزوجة بلغة المتصوفة الكبار كالحلاج وابن عربي والنفري وغيرهم، متخذًا من مقاماتهم الصوفية متكأً جليًّا في البناء الدلالي للنص الشعري، ملتحمًا بالواقع الراهن الذي شغل بواطن الذات الشاعرة كثيرًا في أثناء تشكلاتها الأولى.
العنوان بوصفه نصًّا محيطًا
جاء عنوان الديوان «جوامع الكمد» مركبًا من مضاف ومضاف إليه، وكأن الشاعر عيد الحجيلي منح النص الشعري صفة العلو الصوفي الذي يقطر محبة وحكمة خالصة، وحزنًا دفينًا تحمله الذات الشاعرة في يومياتها الشعرية؛ فهي تميل إلى قصيدة اليوميات القصيرة في شعرنا العربي وإن اختلف التشكيل والبناء الدلالي للنصوص. كما يشي بأن الشعر هو لغة الحزن الدائم، تجمع الحكايات الصغيرة في عبارات قصيرة، طبقًا لمقولة النفري: «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة». والجوامع هنا لدى الشاعر، هي أشياء الذات التي تبحث عنها دائمًا، دون تحقيقها أو العثور عليها، فهي في حالة من البحث المستمر داخل نفسها، وداخل الآخرين أيضًا. ويبدو لي أن الشاعر اعتمد على الدلالات العامة للولوج إلى دلالات أكثرها خصوصية، كما سيتجلى داخل المقامات الشعرية التي طرحها من خلال الديوان.
يمتح الشاعر عيد الحجيلي من معاجم المتصوفة وأهل الخطوة. ويفتح بابًا واسعًا من الأناشيد الصوفية داخل النصوص، وهو ما يمنح القارئ حسًّا صوفيًّا غارقًا في المحبة اللانهائية الممزوجة بالأحزان الدائمة. يقول في نص بعنوان «قل هو الحزن»:
«كل نفس يراودها الحزن/ عن صمتها…، حينما يكمل الألفُ الفرد/ شهقته البكر/ في ملكوت الكبد»
تبدو الذات الشاعرة المرتبطة بالحزن الدائم من خلال حديثها عن صورة الآخر الحزينة أيضًا، فهي مرآة أحزانها؛ ذلك الحزن الممزوج بالصمت، وشهقة الموت في ملكوت البدن الهائم في العالم الأرضي. تغلف الوحدة كينونة النص السابق، لنجد الذات تقاوم صمتها المقيم دائمًا داخل العالم الصاخب الذي لا يعيرها أدنى اهتمام يذكر، متحدة في الوقت نفسه بالملكوت الأبدي الذي يحتضن أحلامها الصغيرة.
يقول: «الحزنُ أول من يُبَسِّقُ في خواطرنا/ هسيس الحرف.. أول من يُعَنْقِدُ في دفاترنا غوايات الكلام/ الحزن سيدنا/ معلمنا/ محراب الرؤى/ يده العليا.. إذا فاضت على باب القصيدة وهي بارئة الختام/ قل: هو الحزن المدد، ما له كفئًا أحد، كلما اتسع الحزن ضاق الكلام وضاق البلد!».
تطرح الذات الشاعرة صورة الحزن في الحياة التي يحيا الناس فيها، ومن ثم فإن الشاعر يمزج الحزن بإيقاعات نفسية حزينة تجلت من خلال اللغة الشعرية التي تحيا بها الذات. وتجلى ذلك في صورة الحزن التي طرحها النص من خلال الحديث عنه وكأنه روح تنتقل عبر الزمان والمكان، فعندما يتسع الحزن ليفرش مناطق الذات، تضيق المفردات عن التعبير عنه ووصفه، فتضيق البلاد والأمكنة التي تعيش فيها الذات الشاعرة، وكأن الحزن قدرها المحتوم الذي فُرِضَ عليها. كما نلحظ ظاهرة التناصّ الصوفي المعكوس في استدعاء مقولة عبدالجبار النفري: «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة»، فالرؤية الحزينة المتسعة مسيطرة على الشاعر، من أول الديوان إلى خاتمته.
يقول الشاعر: «صامتًا/ يتطوح بين هشيم الرؤى/ وحطام الكوى/ يحتويه شحوب الوطن/ كالكفن».
إنَّ مقطوعات ومشاهد الحزن التي طرحها الشاعر الحجيلي، تكمن في الأوجاع الصامتة التي يدركها الآخر أيضًا، فعلى الرغم من حديثه الجواني عن الذات وآفاق وجودها، فإنه يتجه بالحزن إلى البرانية التي تحيط بالآخر المكلوم أيضًا؛ لتكتمل صورة الحزن الصموت لدى الذات والآخر في آنٍ. فتلوذ الذات بالوطن العربي الأكبر الشاحب دائمًا المقيد في صحراء معرفته، ونار آلامه.
إيقاعات الذات
صحيح أن الإيقاع الشعري لدى الحجيلي في ديوانه تجلى من خلال اللغة المستخدمة في بنية النص، بطريقة شفيفة مستوحاة من رؤية نفسية، فتتخلق الإيقاعات تباعًا من المفارقة الشعرية والأصوات اللغوية الداخلية كما في قوله: «الجماد/ حياة، طواها الحياد».
تبدو صورة الجماد حاضرة في مشهد يخلو من السعادة الأبدية، محتفيًا بموسيقا الحزن، والحياة البطيئة، التي غلفتها الحياة المسكونة بالحيرة والاختلاط النفسي المفارق في عالمنا. ومن ثم فقد راح الشاعر يمزج بين صورة المفارقة في نصوصه القصيرة جدًّا، والإيقاع اللغوي القصير الذي أحدث وقعًا خاصًّا في الآخر القارئ في أثناء الفعل القرائي للنص؛ لينتج لنا روحًا أكثر جاذبية للعوالم الشعرية البسيطة العميقة التي صنعها الشاعر عيد الحجيلي في ديوانه «جوامع الكمد».
المنشورات ذات الصلة
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
«طبول الوادي» لمحمود الرحبي… حياةٌ بين واقعين
الوادي الذي ليس فيه طبول، ولكنَّ ما يُقرع فيه هو تباين الحياة التي على ضفتيه. حياةٌ متذبذبة بين واديين هما وادي السحتن...
0 تعليق