كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس
التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم تكتفِ بهذه الإحالة الزمنية بل افترضت وجود صدام حسين «بهوله وهيلمانه»، لتمنحه هوية خاصة عبر التخييل. تقول الرواية على لسان البطل: «صدام حسين يفكر بالجرذان أيضًا، برؤوسها المدببة»، «توقف عند نهاية الشارع المبلط، ونظر نحو مساحة ترابية تتخللها نباتات شوكية متفرقة، حدق نحو حفرة بعيدة تشبه حفر بر العوجة، قريته البعيدة، وقد تراءت له حركة حيوانية حذرة سحب مسدسه البراونينغ على نحو مباغت وأطلق رصاصة دقيقة قطعت الذيل ورمت به بعيدًا من الجرذ».
إنها هوية وصورة الرئيس، صورة الدكتاتور التي شكلت سيرته عبر الزمن في أذهان العراقيين؛ إذ يمنح لؤي حمزة عباس الهوية المستعادة بعدًا كليًّا عندما يتجاوز تأثيرها حدود الزمن والحقبة لتكون ظاهرة متماهية في الأشياء: الأمكنة، الشخوص، الأحداث. ولقد شخص لؤي حمزة عباس هذا التجاوز للزمن من خلال رسم صورة معاون المدرسة وبقية المعلمين بشواربهم التي تعيد صورة الرئيس وتشكلها في أذهان الأطفال. هذا المقطع السردي يحمل أفكاره بطريقة التخييل المرجعي مستعينًا بفانتازية السرد العجائبي، وهذه الهوية تمثل امتدادًا لمجمل الأفكار في العمل الروائي، حيث تمارس تأثيرها في العائلة، المدرسة، المجتمع، الأطفال. إنها صورة الدكتاتور المستنسخة في رجال الأمن والموظفين وكل من يعمل تحت ظل حزب الدكتاتور. إنها هوية جماعية للسلطة بمختلف أشكالها. إنها محاولة للكشف عن التاريخ السياسي والممارسات الاجتماعية في فترة من فترات التاريخ عبر التخييل المرجعي، كما يعبر عنها الناقد الدكتور عقيل عبدالحسين.
ولأنها من العنوان «حقائق الحياة الصغيرة»، تبدو هذه الحقائق ممكنة وجلية لكنها مسكوتٌ عنها، لم تقل من قبل إلا في مجالسنا مجالس الأجداد والآباء عندما يتحدثون عن ماضيهم المرير، تلك الهوية التي تمارسها سلطة المدرسة في التخويف والترهيب محاولة الحفر في أدق التفاصيل التي تكشف عن رجل ما معارض تحت وطأة السؤال. ذلك السؤال النموذجي الاستخباراتي يعيد صياغته لؤي حمزة عباس بطريقته ليقدمها للقارئ على هيئة أفكار عبر التخييل السردي لهوية الدكتاتور وتأثيرها اجتماعيًّا.
التخييل السردي الأليغوري
يقول الناقد جميل الشبيبي: «في معظم الروايات العراقية التي صدرت بعد ٢٠٠٣م يتوفر فضاء تسجيلي يعتني بنوع من التفاصيل الخاصة بأحداث ما بعد التغيير». وأعتقد أن هذا الفضاء التسجيلي لا يقتصر على أحداث ما بعد التغيير، بل هو فضاءٌ يشمل أحداث ما قبل التغيير، ولا سيما في روايات السيرة الغيرية وروايات التخييل المرجعي عمومًا، ولا سيما عندما يكون هذا الفضاء التسجيلي رافدًا للتخييل السردي عامة؛ لأنه ينطوي على مجموعة أحداث شكلت مرحلة من مراحل تاريخ البلاد طيلة ثلاثين عامًا، في ظل ممارسات قسرية مختلفة: تهميش، اعتقالات، نفي، حروب، حصار اقتصادي.
إن فترة إشكالية كهذه تتطلب وعيًا خاصًّا لضخ الأفكار التي تمثل جوهر الحقيقة؛ لذا يذهب الروائي لاختيار فضاء بديل هو الفضاء الأليغوري في تأويل الفضاء التسجيلي: الذاكرة، التاريخ، الزمن.
يجعل لؤي حمزة عباس من الجرذ شريكًا للإنسان، يحاوره ويشاركه ويسير معه. إنه سرد يعكس علاقة الجرذ بالإنسان منذ بداية الخلق إلى يومنا هذا، وجرذ هو الشخصية الفاعلة في العمل الروائي وهذه الفاعلية جاءت من وعي الكاتب بعلاقة الجرذ والإنسان عبر أدوار كثيرة ومتنوعة. أود أن أضع عبارة جوناثان بيرت لنتأملها معًا. يقول بيرت: «إن لدينا مكانًا لتصنيف الجرذ في المملكة الحيوانية، إلا أن أهميته تتجاوز تصنيفه بما يفوق حجمه بكثير. وكما وصفه بعض الكتاب، فإن الجرذ هو توأم الإنسان، وتاريخهما المشترك حالك السواد. والحقيقة أنه قد جرى تقديم الجرذ على أنه ذروة انحطاط التطور. فلو تطور الإنسان نحو الأسوأ، فإننا لن نصل إلى القرد، بل إلى الجرذ». إذن يرتبط الإنسان بالجرذ في أعلى مراحل الانحطاط؛ لذا جاء الجرذ ليشارك الإنسان انحطاطه، والعمل الروائي هذا صورة للانحطاط التاريخي للإنسان، في حقبة كان الإنسان فيها جرذًا حقيقيًّا، حتى إن الدكتاتور، عندما انحط النظام في حرب ٢٠٠٣م، عاد ليشارك الجرذان مساكنهم: الحفرة، السجن، الانحطاط.
ثقافة الجرذان
وفي البناء السردي لهذا العمل مثل الجرذ نمط خاصّ من أنماط الكتابة السردية، في التخييل الأليغوري للذاكرة. إن هيمنة التقرير مثلًا وعلاقته بمديرية الأمن العامة من اعتقال وتعذيب وعقاب، تحتاج إلى تخييل أليغوري ليمثلها، ليمثل سوء استعمال السلطة، فكانت الجذاذات التي يكتبها صديقنا البطل ويرمي بها إلى الجرذان لتقرأ وتنفذ هي إحالة إلى تلك الظاهرة التي شاعت وحطمت كثيرًا من العوائل العراقية. إنها ثقافة الجرذان؛ «يحدث نفسه بعد ذلك عن الجردان التي تترقب خرزات عيونها تلصف في الظلمة، يرمي في جحورها لفافات الأوراق. فتفتحها، تقرأ وتستجيب»، «يفتل القصاصة مثل قصبة العصير الرفيعة، ثم يرميها في الفتحة المعتمة، واثقًا من استجابة الجرذان ووقوع العقاب الذي يفكر فيه قبل أن يغلبه النوم، وفور أن بغمض عينيه يرى الجرذان تفتح اللفافة بأفواهها المدببة، وأيديها القصيرة الماهرة الخفيفة، تقرأ الاسم بعيون لاصفة، ثم تحرك رؤوسها…».
رمزية الذيل لها أبعادها الأيديولوجية التي يعيد لؤي حمزة عباس تشكيل المجتمع العراقي وتقسيمه ثقافيًّا وفقهًا، فهناك تلك الجماعات التي تملك ذيولًا سياسية أو دينية. إنها ثقافة الاتباع عبر تاريخ المجتمع العراقي، التي يشخصها العمل الروائي أليغوريًّا. يستمر تخييل الفضاء التسجيلي بطريقة أليغورية على امتداد الرواية وهو ما يمنح لغتها علوًّا شعريًّا؛ إذ يتضح في العمل الروائي تقنية القص داخل القص وإن مزية هذا الاشتغال في «حقائق الحياة الصغيرة» أنه جاء أليغوريًّا خالصًا لكنه لا يخلو من الأفكار ولا سيما الموقف من السرديات الكبرى؛ إذ يرتبط هذا المصطلح بالقص الداخلي لكن هذا القص داخل القصة ليس عابرًا وبريئًا فهو يوظف لاشتغالات غالبًا ما تكون نقدية، اشتغالات فيها موقف ما. إنه أشبه باستراحة الكاتب، لكنها استراحة عملية أي فيها منجز تأملي.
يتعب الكاتب من حكايته وأحداثها، يأخذ نفسًا عميقًا، ثم يكتب قصة داخل القص. هكذا هي حكي داخل العمل السردي ووجوده ليس عبثيًّا، بل وجد ليقول من خلال الراوي شيئًا يبرز هويته، لكن «حقائق الحياة الصغيرة»، في مجمل المتن الروائي، في كل ميتاسرد، هي بالضرورة قص أليغوري خالص. «وكان إبليس يركض مناديًا السباع، مبشرًا إياها بأن طيرين قد وقعا من السماء، لم ير الراؤون أعظم منهما، تعالوا فكلوهما، يصيح بصوت يثير الأرض ويشقق سكينتها، فتتعاوى لصوته السباع. لم يكن قد مر وقت طويل على هبوط آدم وحواء، كانا كما قال إبليس مثل فرخي طائر مرتعشين، وكانت السباع تتعاوى وإبليس يتقافز…».
إن هذا النوع من السرد الذي يحكي عن قصة الخلق، على لسان الجدة هو خوض في تابوهات الدين، ومحاولة جعل الأساطير المثالية: الضوء والنار والمعجزة وكل المثل التي حظي بها الأنبياء، تلك السرديات الكبرى للأديان، جعلها سرديات أليغورية قابلة للتأويل. إنها محاولة لإعادة النظر في المقدس نصًّا؛ لأن تأويلاته المثالية خلقت أجيالًا بشرية من القطيع: «ماذا لو كان الأمر معكوسًا، نبية الأرض تقطع الطريق على نبي الله وجنوده». إذن فهذه الرؤية فيما لو ناقشنا أبعادها الأليغورية نصل أخيرًا إلى هوية الكاتب، هوية تنتمي إلى الأفق المطلق، الأفق الذي يسأل: إذا كان العالم بهذه الروح المثالية وكانت الأديان بهذه القيم، إذن فما الذي حصل ويحصل؟! إنها هوية المثقف الذي يجب أن يتساءل وألا ينتمي أبدًا.
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
«طبول الوادي» لمحمود الرحبي حياةٌ بين واقعين
الوادي الذي ليس فيه طبول، ولكنَّ ما يُقرع فيه هو تباين الحياة التي على ضفتيه. حياةٌ متذبذبة بين واديين هما وادي السحتن...
0 تعليق