كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد
بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا باتهام قريش للنبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه شاعر، وتنزيه القرآن الكريم له عن ذلك، وصولًا إلى ادعاء المتنبي النبوة، أو قوله بذلك حين شبه نفسه بأنه في أمة تداركها الله مثل صالح في ثمود، وصولًا إلى الديوان الجديد للشاعر المصري السيد الجزايرلي الصادر مؤخرًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، الذي حمل عنوان: «أنا رسول بصيرتي»، وفيه يعتمد الشاعر على بصيرته في معرفة الأشياء والحكم عليها، ومن ثم فهي التي تقوده في مسالك الحياة.
في هذا الديوان نجد أنفسنا أمام طرح صوفي يعتمد فيه الشاعر على إلهامه الخاص في التعرف إلى الوجود من حوله. وربما كان ذلك ما دعاه لاعتماد كل من ابن عربي وابن عطاء الله السكندري مدخلًا للولوج إلى عالم ديوانه، فقد اختار لابن عربي مقولته: «من لم يتحقق بحقائق الأسماء والحروف فهو عن كشف سر غوامض الأشياء مصروف»، واختار لابن عطاء قوله: «النور له الكشف، والبصيرة لها الحكم، والقلب له الإقبال والإدبار».
الشعر والتصوف
يضعنا الجزايرلي بدءًا من عنوان الديوان وتصديره له أمام علاقة مثلثة الأضلاع تربط بين البصيرة والشعر والتصوف، وتجمع كلًّا من المتبصر والشاعر والصوفي في آن واحد؛ إذ يعتمد كل منهم على وحيه الخاص، وتجربته الوجدانية، لكن تظل اللغة هي الجسر المعبر عن إلهامات الثلاثة. ومن ثم فقد منحها كل منهم عنايته الخاصة. والشاعر في هذا الديوان متبصر من نوع خاص، متبصر اجتاحه الحنين إلى وطنه، وهو لسان حال جماعته من المنفيين أو المغتربين عن أوطانهم، ومن ثم فإنه يقوم بالتعبير عن حالهم.
من السطر الشعري الأول في قصيدته الأولى، يتوقف بنا الشاعر أمام البلاد التي أتى من أجلها، وهي بلاد الحزن، موضحًا أنه لا هو ولا غيره ممن أتوا إلى هذه البلاد يسعون إلى تحقيق معجزة ما؛ لأنهم لم يأتوا بإلهام من الله، ولا برسالة من السماء، ومن ثم لا يعدون بتحقيق معجزة أو حتى أمر خارق للعادة. ويزيد الجزايرلي في توضيح مدى ضعفه الإنساني، وعدم إعجازه في مهمته، فرسالته للذين صلوا صلوات الموت في بلاد المنفى لم تصلهم، ومن ثم فبصيرته ليست موجهة لقوم فرحين مطمئنين في أوطانهم، لكنها من أجل المغتربين بعيدًا من الماء الذي نشؤوا فيه، والقرى التي ولدوا في أحضانها. ويبدو أن هذا التحديد لنوع البصيرة التي يمتلكها الشاعر وطبيعتها كان مطلوبًا من اللحظة الأولى في الديوان؛ لأن ذلك اتفاق ضمني بين الشاعر وقارئه.
السؤال والإجابة
تتنوع قصائد الديوان التي بلغت خمس عشرة قصيدة، وتوزعت ما بين التصوف والمعرفة الوجدانية، والحنين إلى الوطن ممثلًا في القرى التي خرج منها الشاعر، والرسالة المضمرة التي لا يصرح بها، لكن على القارئ أن يستشفها من بين السطور. ولعل قصائد مثل: (إغماءة، خرقة الصوفي، العراف، معراج) تعكس البعد الصوفي الذي شمل أجواء الديوان، انطلاقًا من كوننا أمام بصير لديه رسالة محددة، وليس معه وسيط سوى اللغة لتوصيل هذه الرسالة من خلالها. ومن ثم حملت اللغة في الديوان الشحنة الوجدانية التي أراد الشاعر توصيلها، ولم يرد الإفصاح عنها، عامدًا إلى أن تصل للقارئ بقلبه وشعوره وليس بوعيه ومنطقه قائلًا: «وكأن مائي سجدة/ غفرت لطمي الأرض/ تاريخ الظمأ».
يحتل الماء مركزا رئيسًا في الديوان، ليس بوصفه فقط أداة الطهر والنظافة، ولكن لأنه منبع الحياة وأصلها في مختلف الأساطير والديانات، كما أنه رمز للقرى التي أتى منها الشاعر، وهو أيضًا مقابل لأرض المنفى التي يسكنها من صلوا صلاة الموت، والموت هنا مقابل الحياة، والصلاة توءَم الماء.
يضعنا الديوان أمام بعد نفسي لا يصرح به الشاعر، وهو الاغتراب الذي يشعر به، ولا يمكن القبض على مفرداته الخاصة، فالشحنة الوجدانية في ظاهرها موجهة نحو التصوف والزهد والتسامي، لكنها في باطنها تحكي تاريخًا من الابتعاد والغربة عن الديار والأهل والوطن، ويتجلى حضور الوطن في العلامات الدالة عليه عبر عناوين قصائد مثل: «طين القرى»، «النيل»، «صوت الماء»، بينما تدل على الرسالة التي من أجلها كتب الشاعر ديوانه، أو دلت عليها بصيرته، عناوين مثل: (ملك أسير، بوابة المنفى، نشيد المحبطين، بياض الملح)، ولعل أول بوابات الغربة هي السؤال، ومن ثم تكمن بصيرة الجزايرلي في السؤال وليس الإجابة؛ لذا يقول في قصيدة «بياض الملح»:
«لماذا.. / كلما كُسرت جرار الوقت/ سال الحزن/ وارتبكت بيوت/ غلقت أبوابها قبل الغسق/ لماذا../ كلما وصل السراة إلى حدود الفجر/ تخذلهم قوافلهم/ لماذا../ عندما أغفو على نهر/ يمر الماء من غدهم إلى عطشي؟».
هكذا نجد أنفسنا أمام ديوان غني بالتساؤلات والرؤى والعوالم، يمزج فيه الشاعر ما بين التصوف والاغتراب النفسي والحضور الفني لفكرة البصيرة، وتوقف فيه دوره عن كونه ملهمًا إلى حدود أنه عضو فاعل في مجتمع كبير، وربما متصوف جديد يحركه شعوره بفقد وطنه وقراه التي نشأ في أحضانها، وماء أنهارها التي سرت في عروقه.
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
«طبول الوادي» لمحمود الرحبي حياةٌ بين واقعين
الوادي الذي ليس فيه طبول، ولكنَّ ما يُقرع فيه هو تباين الحياة التي على ضفتيه. حياةٌ متذبذبة بين واديين هما وادي السحتن...
0 تعليق