كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
حكاياتي مع رواية:
موبي ديك
سألتُ الأستاذ الراحل إحسان عباس النصحَ في القراءة، قال بلا تردد: اقرأ رواية هِرمان ميلفل: موبي ديك، فهي من أجمل ما قرأت لغة، ومن أعمق الروايات منظورًا وفلسفة.
يروقني فيها بعدٌ فلسفيٌّ مزدوج المستوى ولغة كثيفة تأمر بالاجتهاد ومعاودة المساءلة. عمل بطل الرواية البحار العصابي المبتور الساق على اغتصاب الطبيعة، محاولًا ترويض طبيعة عذراء لا تروّض؛ ذلك أن الحوت الأبيض الذي طارده وجه من وجوه الطبيعة، ينصاع إلى قوانينها ويُعرض عن رغبات إنسانية آبقة ممتلئة بالشر، ولا تدري.
توهم البحار، الذي أعماه غروره أنه يعاقب الشر، جاهلًا أن الشرّ يقوم في نواياه لا في علاقات الطبيعة السليمة. وتراءى البعد الآخر في بحّار شائه الطبيعة يقود بحارته إلى الهلاك، متوسلًا لغة خطابية وقطعة من ذهب ثبتها، لامعة، على عمود الشراع. أدرك آخاب بحدسه الشرير، أن الخطابة المتقنة الكلام خدعة سهلة، لا تملأ البطون وترضي العقول الفارغة. وأن في الذهب قوة تخلق الانصياع والخضوع إلى الإرادات المستبدة.
أقنعني البعدان الفلسفيان في رواية موبي ديك بقراءتها بإمكانياتي المتاحة، وبملاحقة طبعاتها المتواترة، فاحتلت حيّزًا من «مكتباتي» التي توزّعت، غصبًا، على أكثر من مكان ومدينة لو تحررّتُ من استبداد المكان والزمان لكان عندي الآن من تلك الرواية، التي ترجمها إحسان عباس، ما يشبه المكتبة. ترجمها إحسان بفكره وعقله وروحه، وأثنى على الترجمة، طويلًا، الراحل غسان كنفاني.
«عثرتُ» على الرواية في المرة الأولى عام 1956م، في المكتبة العمومية في دمشق. أستذكر صديقًا معي في الصف السابع، انتهى الآن أستاذًا جامعيًّا في إفريقيا؛ ذلك أننا رأينا الرواية في المرة الأولى معًا وسبقني إلى شرائها واعدًا تعويض «الخسارة» بطبعة جميلة لرواية «جزيرة الكنز»، لروبرت ستيفنسون. غير أن الزمن كان معي كريمًا، ورجعت فاشتريت «الطبعة المغدورة» بعد مرور عشرين عامًا وأكثر.
كنت أتهيأ لمغادرة باريس نهائيًّا في أكتوبر 1974م، عائدًا إلى بيروت حين قررت أن ألقي «نظرة وداع» على المكتبات الصغيرة التي تحاذي نهر السين. مكتبات تجمع القديم والجديد، الكتب الناقدة والمجلات النافذة… رأيت هناك كتابًا أليف الغلاف، «يغمزني» ويدعوني إلى صحبته. كان الكتابُ هو: رواية موبي ديك، تواطأت معه، جديدًا كان يبدو، رخيص السعر رخصًا «مهينًا». اشتريته «بفرنك» واصطحبته إلى البيت فرحًا، لم أضعه في حقيبة الملابس، تركته في كيس ورقي مستقل تحت نظري خشية الفقدان. تذكرت عندها صديقي القديم، الذي لن أراه ثانية، واعتبرت الرواية تحية متأخرة من رفيق اشتاق إليه. وحين رجعت إلى بيروت كانت هناك ترجمة الأستاذ إحسان عباس، سميكة، أنيقة، صدرت عن: «دار مكتبة الحياة»، إذا لم تعبث بي الذاكرة. لم أكن عندها التقيت الأستاذ «إحسان»، تلمست آثاره في انتظار نصائح وصداقة قادمة.
ظل يتأمل الكتاب كما لو كان يحرسه
ويطرد عنه الأرواح الشريرة
زارني في بيروت، التي سأقيم فيها خمس سنوات، صديقًا من أيام الطفولة، تسكعنا في «جنيف الشرق الأوسط» آنذاك، ومررنا «بالروشة»، صخرة العشاق اليائسين، كما بدت لي، وبالجامعة الأميركية المطلّة على البحر، التي درس فيها «قادة الشرق الأوسط» ذات مرة، وسرنا الهوينى في «شارع الحمرا»، الذي لم تهلك هالته بعد، وألقينا التحية على أكثر من مكتبة، ليس آخرها «مكتبة صايغ».
الصديق القديم «وليد»، هذا اسمه، أعجبه مدخل مكتبة افترشته أغلفة كتب كثيرة، بالعربية والفرنسية والإنجليزية. لم يقاوم فتنة الكتب فدخل ودخلت معه، وصادف أن وقف أمام «موبي ديك»، طبعة متميزة زيّنتها رسوم «ريكول كِنْت»، بالأبيض والأسود. ظل يتأمل الكتاب كما لو كان يحرسه ويطرد عنه الأرواح الشريرة… فتركته وعدت إلى بيتي مضطرب الطويّة، كما يقول البلغاء. حين رجع الصديق، الناحل الطويل القامة، إلى البيت، بوجه راض وابتسامة متخابثة، تقدّم مني ووضع أمامي رواية ميلفل ببحارها المبتور الساق الذي عالجته ريشة الرسام الأميركي «كِنْت»، فبدا أكثر طولًا وأوسع تجهّمًا، وقال: نظرتُ إليك وأنت تغادر المكتبة وشعرت أن جزءًا من روحك ظل إلى جانب الرواية، فأبيت إلا أن أشتريها وأضعها بين يديك، فهذا من أصول الصداقة الصادقة…
فوجئت وفرحت واضطربت وحضنت الرواية كصديق عائد من السفر وتذكرت صديق المراهقة -محمد عمر فاروق البزرة- الذي انتهى إلى إفريقيا أستاذًا جامعيًّا لمادة الكيمياء، وقلت في نفسي: لو كان الصديق البعيد معنا لوجّه تحية إلى صديقي الصادق الذي أراحه من عتاب قديم. وشعرت أن الرواية صديقة الصديقين، تهمس في أذن أحدهما بفرح وتعبّر لثانيهما عن امتنان عميق طليق الكلمات. وتساءلت عن معنى الأفراح الصغيرة الجليلة التي توزع الفرح على أرواح نقية لا تعبأ بالمال والسلطة وتلهج سعيدة بعلامات المودّة. سألتُ عندها عن الفرق بين برودة القيود ودفء الحرية، ولماذا انصاع البحارة إلى أوامر بحّار يسوقهم إلى الموت، وعثرت على الجواب في: الخوف من المتسلطين الذين يتحدثون بأيديهم وعيونهم وأرجلهم ويكتفون بإشارات قاتلة، لا هي باللغة العاقلة ولا بحركات الوجه المستريحة، وعرفت آنذاك لماذا يتكلّم المستبدون بأجسادهم، ولِمَ توقظ الأرواح السليمة رهافة اللغة وتحترم القواميس المتوارثة… وقلتُ: هل يعطل الاستبداد اللغة، كيف يشوّهها ويشوّه المتحدثين بها؟ وهو ما أشار إليه الفلسطيني روحي الخالدي في كتابه الذي ظهر في أول القرن العشرين، عنوانه: «تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوغو».
ما زلت أذكر كيف استقبلتُ الكتاب المزيّن بالرسوم، الذي حمله الصديق القديم إلى صديقه في بيروت. تأملت غلاف الكتاب الخارجي، مسحته مرتين، وداعبته مرتين، وبحثت له عن مكان مرتفع في البيت يعلن عن حضوره ويومئ إلى قيمته فبدا موضوعًا جميلًا تعلوه قداسة. كان كتابًا وصار زائرًا كريمًا، وكان سلعة للبيع والشراء وغدا شيئًا متعاليًا لا نقترب منه إلا بعد غسل اليدين.
عدت إلى دمشق بعد بيروت والتقيت الصديق الراحل الدكتور صادق جلال العظم، كان أستاذًا للفلسفة في جامعة دمشق، لا يكترث بلباسه ويركب سيارة «رقيعة» لا مكان لها بين السيارات «العالية»، ويردد ضاحكًا: إنه تسامح النبالة، فقد كان فخورًا بانتسابه إلى عائلة عريقة ثرية يمحو نبلها الأخطاء الصغيرة والكبيرة.
أطلق صادق، كعادته، ضحكة مجلجلة، تسبقها سخرية وتتلوها سخرية، وقال: عندي في الجامعة مجموعة طلبة تحضّر أكثر من «دكتوراه» في أكثر من موضوع، مراتب هؤلاء الطلبة عالية، بل شديدة العلو، في الحياة المهنية والاجتماعية. لو التقيتَهم لسرّك بعضهم ولأمضّك بعضٌ آخر لا يعبأ بالعلم ولا بديكارت وسبينوزا، فهم مأخوذون «بالتجمل الاجتماعي» الطريف، حيث التاجر يلفظ بشكل مغلوط اسم «فرويد» قبل أن يقرأ أعماله، أو يلعن «هيغل»؛ لأنه يقيم في ألمانيا الغربية لا ألمانيا الشرقية صديقة العرب، وقد تجد من لا يعرف الفرق بين أفلاطون وأفلوطين.
الصدفة في التاريخ
كان من بين هؤلاء «الطلبة» شخص دمث رفيع الأدب يتعامل مع الفلسفة بجدية غير مألوفة، اختار موضوعًا عويصًا عن «الصدفة في التاريخ» سألني، بعد أن تعرفت إليه، أن أقدم رأيًا في موضوع أطروحته، بعد أن أثنى عليَّ الدكتور صادق و«اتهمني بالجدية!». أراد الطالب «العالي المقام» أن يشكرني على ما تقدمت به، قال: أنا لا أهتم بالأدب والروايات وقد جاءني أحد معارفي بهذا الكتاب الملون الهائل الحجم، كما ترى، وأرجو أن تقبله وأنت الذي تهتم بالأدب والفلسفة معًا.
لم تقع عليّ صدفة من التاريخ، وصُدفهُ موجعة غالبًا، بل أصابتني صدفة مرجوّة أضافت إلى «مكتبتي الصغيرة الخاصة برواية ميلفل» طبعة جديدة، عالية المقام أيضًا، من موبي ديك استقرت بين طبعات أخرى، وبدت الطبعة الأكثر أناقة و«هيبة» أيضًا. ذكرت عندها «الولع بالكم» ولم أكن راضيًا، ذلك أن المطلوب، منطقيًا، الاحتفاء بالكيف والإعراض عن الكم الذي يفضي في حال «النفوس الدنيئة» إلى السطو والسرقة والعبث بما يخصّ الآخرين.
كان من صدف التاريخ القاسية أن أترك دمشق، فجأة، وأن أدع مكتبتي نهبًا للغبار والضياع والنهب المنظم، وأن أتأسى على رواياتي الأثيرة مثل: «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ، والطبعة الأولى من رواية طه حسين «دعاء الكروان»، وأن أفتقد الطبعة الأولى الإنجليزية لرواية همنغواي: «العجوز والبحر»، التي اشتريتها عام 1955م من مكتبة تائهة بين أحياء دمشق، ورواية جون شتاينبك: «رجال وفئران» التي تعود طبعتها إلى عام 1937م، وأن أفتقد طبعة قديمة من رواية الإنجليزي غراهام غرين: «الأميركي الهادئ»، ورسائل بين صفحات الكتب كنت ضنينًا بالبوح بأسرارها.
بدت لي مكتبتي القديمة- الجديدة في العاصمة الأردنية متشحة بالسواد، أخذت منها كُتبًا إلى دمشق، ولم أكن صادقًا بتعويضها عمّا فقدت. كان بين المفقود رواية: موبي ديك. أردت أن أردّ إلى الرواية- الصديق بعض الجميل الجديرة به، وتذكرّت مباشرة طبعتها الفرنسية في سلسلة «بِليّاد» عند غاليمار، الطبعة الأكثر أناقة وحظوة وأمانة فلها مقدمة ضافية، صفحات مبرّأة من الخطأ.
وها هي الآن الطبعة الفرنسية أمامي تستقر في غلافها الأبيض السميك، وعلى صفحتها الخارجية الأمامية اسم هِرمان ميلفل، وقد كُتب بلون أحمر، وتحته بخط أسود: موبي ديك، بيير أو الغوامض، المجلد الثالث، يقع تحته بخط أسود صغير: طبعة نُشرت بعناية دو فيليب جاورسكي، بالتعاون مع مارك أميرفيل وهيرشل باركر… وفي أسفل الصفحة الأولى بلون أحمر: مكتبة البِليّاد. غاليمار. عام النشر 2006م، وتقع كاملة في 1407 صفحة.
وقد أَسال، أو أُسأل: ما أسباب تعلّقي برواية إلى حدود الإدمان المتزمت، كأنها عادة لا يمكن التحرّر منها؟ يتناثر الجواب قدر ما يستطيع ويحتفظ بمركزه. فهي الرواية الأولى التي اشتريتها بنقود تتجاوز إمكانياتي كطالب ثانوي، تعيد إليّ ربما ذكرى صديق غاب، أحببته وافتقدته إلى اليوم، وربما تذكّرني بالسيدة صاحبة المكتبة، الرقيقة الأنيقة الأسيلة الخد، التي ما التقيتها، صدفة، إلا ذكرت الرواية وصديقي القديم، أو ربما الحنين إلى بداية دافئة ستمتد طويلًا ويصحبها التغير والاختلاف!
من المحقق أن صورة البحار المستبد الذي ساق قومه إلى الهلاك استقرت في ذهني وأحالت، بلا صوت، إلى مستبدين آخرين لم يكن لهم، للأسف، مآل البحار الموتور، الذي وقف فوق ظهر الحوت الأبيض متوعدًا متغطرسًا رافعًا صوتًا يقول: «ها أنا أوجّه إليك آخر طعناتي»، ناسيًا أن الطعنة سترتد عليه، حين يغطس الحوت في الماء ويعود إلى السطح وقد صار البحار جثة مكبلة بالحبال… ومن المحقّق أيضًا أن في سلوك البحار ما يذكِّر بالكارثة، فقد غرق وأهلك الذين معه، موحيًا بأنه المخلِّص العليم، الذي يُغرق الماء ويتأبى على الغرق كأنه واحد من صغار المستبدين الذين عاقبوا شعوبهم ألف مرة، وسقطوا أمام أعدائهم في الجولة الأولى بلا قتال، تاركين الرواية تقول: الأسرى لا يحاربون، والذي يحارب شعبه بلا شفقة يخسر قبل الذهاب إلى المعركة ويزْهد به الذباب.
المنشورات ذات الصلة
لم يتم العثور على نتائج
لم يمكن العثور على الصفحة التي طلبتها. حاول صقل بحثك، أو استعمل شريط التصفح أعلاه للعثور على المقال.
0 تعليق