كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
نور الدين أفاية
ومقدمات نقد عوائق الفكر الفلسفي العربي الراهن
صار النقد في المجمل هو مفتاح درب محمد نور الدين أفاية وسبيله وطريقه من ناحية كونه البداية والنهاية، الانطلاق والوصول، والمعبر والقنطرة التي تتوسط دروب التفكير ومآلاته. النقد عنده كتابة للتاريخ ومساءلة له، حتى إنه يجري وضعه في خانة مماثلة للفلسفة باعتبارها تعرف به ويعرف بها، فما تكون الفلسفة إلا تفكيرًا متبرمًا بروح نظرية من كل عوائق الاستكانة والخضوع والقبول والإيجاب، تأكيدًا أن النقد هو الفلسفة والفلسفة ما هي إلا النقد الدائم والمستمر للرؤى والأفكار والتصورات والتأويلات والتفسيرات الموجودة، وامتحان دائم لمقولاتها بصفاء نظري ومنهجي. فكيف أمكن لمشروع واحد أن يكون بهذه الفرادة الفلسفية في النقد، وبهذه الفراسة النقدية في التفلسف؟ وعلى أي أساس يكون النقد سبيلنا في الآن العربي، للتفكير في المسكوت عنه، واللامفكر فيه بمعية أفاية ومن معه؟
في معنى أن تكون الفلسفة نقدًا والنقد فلسفة
تحيا الفلسفة بالنقد ويحيا الأخير بها، وهذا درس من دروس الفلسفة جعله أفاية مركزيًّا كتابة وتفكيرًا(1)، ففي ظنه صار النقد يسري في الزمن الحديث والمعاصر لا باعتباره موضوعًا للفكر ومُكونًا من مكوناته، بل باعتباره يحيل في الزمن الراهن «إلى نمط من الفكر، أو إلى سلوك، بل إلى علاقة اجتماعية يكتسب فيها صفة التخصص المنتج لمعرفة يقظة»(2)، ولأنه كذلك وبهذه الأهمية فالأحرى الانكباب عليه كموضوع للتفكير، وآلية يمكن التفكير بها في الآن ذاته، استعانة بما زكته مشاريع النقد الكبرى بداية من كانط، وماركس، وصولًا حد تفكيكية دريدا وصحبه، مرورًا بكل التجارب الأخرى التي تتخذ من النقد موطنًا لها، بما فيها مدرسة فرانكفورت التي يشرح أفاية دواعي الانكباب على دراسة أحد أهم ممثليها -هابرماس- بتعلة أن «فكر هابرماس تميز بكونه أخضع كل الاجتهادات الفلسفية بخصوص الحداثة للسؤال والمراجعة والنقد»(3).
استوجب هذا من أفاية «إقامةً» في المشروع النقدي الغربي
بمُعايناته السابقة وبأسمائه الكبرى التي وجب الاستناد عليها وإليها، قصد حط الرحال في قراءة مستنيرة لحركية «التعقل النقدي» في تجربته النظرية العربية، إيمانًا بمدى صدقية وجدية المشاريع التي أسهمت بروحها الفلسفية في استشكال الموضوعات الرئيسة في هذه التجربة، مثل نجيب محفوظ وعبدالله العروي والجابري وأركون وناصيف نصار والخطيبي، وقبلهم بكثير مؤرخون وأدباء وشعراء، من طينة مغايرة ربما على شاكلة المتنبي…، كل حسب نمط السجالات وطبيعة المعارك النظرية التي خاضها وشكل التوجهات والمدارس التي اقتطف منها جزءًا من رؤاه(4)، بما يعنيه هذا الانخراط من اعتراف مباشر بخوضهم في النقاشات والجدالات الدائرة ضمن خانة ما يسميه مثقفنا مشروع «الفكر النقدي الإنساني».
إنه المشروع الذي يقتضي الانتقال من فهم الأصول النقدية في التجربة الغربية من أجل إدراك امتداداتها في أسئلة الراهن العربي، بروح هادئة ترفض تكرار لغة المؤامرة والمآسي، أو ما يقابلها من لهجات التفوق والنشوة العربية؛ لتجاوز أي حالة من «السادو- مازوخية» في الوعي العربي المعاصر، قصد الانتباه إلى متغيرات هذا الوعي العربي في شقه النقدي المتكئ على نوع من الشقاء النظري الذي يسكنه. ففي ظن أفاية قد بدأ بالفعل «وعي عربي ذو طبيعة نقدية يتحرك، وهو يسعى إلى خلخلة الفهم المشترك الذي تعود عليه الإنسان العربي، سواء في تعامله مع ذاته أو تراثه أو واقعه، أو في سلوكه إزاء مظاهر الحداثة وأشكال التنظيم والعقلانية كافة»(5)، وهو نقد قوامه الانطلاق من مبدأ أن «هذا الآن العربي هو الذي يحتاج إلى مساءلة ونقد»(6).
والقصد أن تَملِك التجربة العربية الراهنة الشجاعة على اتخاذ قرار الترحال بصيغته الكانطية شريطة أن تكون أصيلة، ورفض المكوث في شروط مغايرة لوعي يحترق من أجل خلق واقع يناسبه، بواسطة التفكير في نقد النقد كما هي حال النقلة التي حصلت مع محمد عبده الذي صار فيما بعد وسيطًا لعملية نقدية أوسع وأشمل، وكأنه حرك حجرة الاستكانة والقبول دون أن يرمي بها بعيدًا أو أن يدفعها نحو التدحرج، لكنها زحزحة كانت في محلها كمنطلق وبداية اقتضت فيما بعد خلق سجالات وحوارات أفضت إلى تأسيس حالة من النظر النقدي صوب معقوليات التجربة العربية المعاصرة، كما في صيغتها التي ساقها محمد عابد الجابري «المطلع على التراث، المتابع للفكر المعاصر، المسكون بهاجس البيداغوجيا، والخبير بشؤون السياسة»(7)، وبعده ناصيف نصار(8)، وما تلاه من فتح لأبواب متن الخطيبي الذي سيج النقد العربي بمقولات جديدة منطلقها التفكيك وتدوير عمليات التفكير، حين يعلن حضوره من غير استئذان(9). فكان هذا التنقل المرن هو مانِح المعنى للدرس الفلسفي باعتباره درسًا في الراهنية الدائمة. وهي كذلك عند أفاية؛ لأنها ابنة زمانها بلغة هيغل، وتتوسد على فكرة أن «ما يميز فلسفة عن أخرى هو نمط سؤالها وقدرتها على إبداع المفاهيم، أو على الأقل الاستعمال المبدع لها»(10)، والحجة عنده أن «الفكر النقدي فكر ناقد لذاته.. فسواء كان محكمة، أو محاسبة جدلية، أو مطرقة، أو إستراتيجية تفكيك، فهو يعمل بلا توقف على تجذير الروح النقدية في الفكر والنظر»(11)، وفي النهاية مساءلة كل ما له صلة بالوضع البشري، ورفض القول باللامفكر فيه.
النقد سبيلًا للتفكير في اللامفكر فيه
مهمة هذا السفر الدائم بوساطة جرأة النقد كعدة نظرية ومنهجية، تستوجب تملك حس سليم في إدارة التفكير والمساءلة والمطارحة، من خلال الإبقاء على الخيوط منسوجة بين «المفكر» و«اللامفكر فيه»، أو بين الأنساق العقلانية في زينتها المنهجية والمنطقية، وبين أشكال الثورة على هذا الإرث تحت كثير من المسميات المجاورة للتفكيك وما بعد الحداثة. وأفاية يجيد في ترحاله أمر اللعب على الأمرين وترويض القولين، فهو يرفض كليًّا انتهاك سيادة العقل خاصة في ظل حالة الصراع مع ترهات القول في الثقافة العربية تحديدًا، لكن من خلال العمل على تجاوز تقديساته وتَكَدُّساته التي تريد لنفسها أن تكون منزهة عن معول النقد ومطارقه. ووصفته هذه، كما يقول نبيل فازيو مثلًا، تنم عن وعي الفيلسوف المغربي بضرورة مراعاة مقتضيات الراهن العربي وقيام الحاجة فيه إلى مطلب عقل وعقلانية، أمام ردود الأفعال غير العقلانية التي يدفعنا إليها تفاعلنا مع الحداثة والعقل الغربيين من جهة، وأمام تضخم منسوب اللاعقل في ظل هيمنة ثقافة الإدراك على الوعي العربي المعاصر من جهة ثانية(12).
وحجة أفاية في إقامة هذا التوازن في التفكيكية وثنائية «المركز» و «الهامش»، أن يعاد النظر في الاعتبارات التي ارتأت التوجه للتجربة الإنسانية من منظور ثنائيات تصنيفية بموجبها تُدفَن إحداها في «الهامش» وتُمَجَّد الأخرى باعتبارها «مركزًا»، كما في تعاطيه مع ثنائية «الشرق» و«الغرب» مثلًا، معتبرًا أن الحديث عن فكر غربي مركزي وآخر عربي هامشي، هو حديث فيه نوع من التجني «ذلك أن الفكر المبدع هو فكر إنساني، كيفما كان مكانه، فقد يكون له منشأ ومؤلف وسياق ولكن بُعده الإبداعي يتجاوز الحدود وينتقل من لغة إلى أخرى ومن نص إلى آخر»(13)، مع ما يعنيه هذا الأمر من ضرورة إلزام الفكر الإنساني بأهمية تجاوز تلك التصنيفات الضيقة(14)، حتى حين يتعلق الأمر بالتصنيفات ذات الصلة بالأسئلة والمطالب الجدلية كموضوعات النهضة(15) والديمقراطية(16) والدولة والسلطة، في مقابل السكوت عما قد يعد في الآن العربي هامشًا من قبيل أسئلة الصورة والسينما والمرأة والاعتراف.
على سبيل الختم
«أفاية الفيلسوف والناقد» هو باختصار أستاذ الدروب الصعبة والمهمات الشاقة في الفكر والنظر، ومنه أتت صعوبة تحديد موضوعات كتاباته حتى صار أمر التعرف إلى ما كتبه أفاية مقترنًا بالتنقيب عما لم يكتبه، والسبب ببساطة أن «الترحال» دربه، فهو لا يسلم بمشروع حصر التفكير ضمن مساحة المقولات المركزية للفكر المعاصر، كالديمقراطية والنهضة والدولة والنقد والهوية والسياسة والسلطة والعقل والوعي…، حين يفتش عن المسكوت عنه واللامتداول كشفًا لأهميته، بفتحه الباب على أسئلة المرأة والهامش والاختلاف والاعتراف والآخر والصورة والسينما…، وكأنه يعاند صرامة القول العلمي والمنطقي بجفافه وقسوته، من خلال الانخراط في معضلات وأزمات الزمن المعاصر، اعتمادًا على شواهد قول مغيبة في الفن والسياسة والأدب، ويواجه تصلب الهوية بانفتاحات الاختلاف، وهيمنة كونية الليبرالية والديمقراطية بتعددية التثاقف والاعتراف.
(1) يقول أفاية واصفًا حركية التفكير النقدي وقدرته على إحياء المقولات الفلسفية ضمن تأويلية منفتحة: «إن النقد موجود بشكل أصلي في لعبة اللغة، فكل نشاط يمكن أن يكون نقدًا كلما برز معنى جديد، قادر على تغيير -أو تعديل- منطوق نص أو معنى أو علاقات ما… يستمد الفكر النقدي جدارته ويكتسب وظيفته ويستحق تسميته كلما انتزع لذاته فضاءً مناسبًا في الإنتاج الفكري والنظري والثقافي، وذلك ما لا يمكن الوصول إليه من دون تفكير منتبه إلى العمل الفلسفي والفكري باعتباره تفكيرًا مجادلًا، مساجلًا، برهانيًّا، باحثًا عن المعنى». محمد نور الدين أفاية، «في النقد الفلسفي المعاصر: مصادره الغربية وتجلياته العربية»، منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، يوليو 2014م، ص 8.
(2) محمد نور الدين أفاية، «في النقد الفلسفي المعاصر: مصادره الغربية وتجلياته العربية»، مرجع سبق ذكره، ص 8.
(3) محمد نور الدين أفاية، «الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصر: نموذج هابرماس»، منشورات إفريقيا الشرق، الدار البيضاء – بيروت، الطبعة الثانية 1998م، ص 7.
(4) يقيم أفاية تمييزات دقيقة في تصنيفه للمشروعات النقدية في لبوسها العربي المعاصر المحتك بغيره من الإنتاجات والمدارس، ويميز على إثرها وبدقة شديدة بين نقد نجيب محفوظ وعبدالله العروي والجابري وأركون وناصيف نصار والخطيبي…، ينظر: محمد نور الدين أفاية، في النقد الفلسفي المعاصر: مصادره الغربية وتجلياته العربية، مرجع سبق ذكره، ص 14.
(5) محمد نور الدين أفاية، «في النقد الفلسفي المعاصر: مصادره الغربية وتجلياته العربية»، مرجع سبق ذكره، ص 151.
(6) محمد نور الدين أفاية، «في النقد الفلسفي المعاصر: مصادره الغربية وتجلياته العربية»، مرجع سبق ذكره، ص 152.
(7) محمد نور الدين أفاية، «في النقد الفلسفي المعاصر: مصادره الغربية وتجلياته العربية»، مرجع سبق ذكره، ص 164.
(8) يفصل الأستاذ أفاية ضمن مؤلفه «في النقد الفلسفي المعاصر» في مشروع ناصيف نصار لإبراز الإضافات الجوهرية التي يبتغي إضافتها في التعامل مع أمر التلقي العربي للفلسفة في لبوسها النقدي، وكأنه يصف بشكل ضمني مسارات هذا التنقل والسفر والترحال بطرقه ومشاقه وإحراجاته ومخاطره ولذَّاتِه في الآن ذاته. ينظر في الجزء الخاص بناصيف نصار: محمد نور الدين أفاية، «في النقد الفلسفي المعاصر: مصادره الغربية وتجلياته العربية»، مرجع سبق ذكره، ص 184 – 194.
(9) محمد نور الدين أفاية، «في النقد الفلسفي المعاصر: مصادره الغربية وتجلياته العربية»، مرجع سبق ذكره، ص 208.
(10) محمد نور الدين أفاية، «الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصر: نموذج هابرماس»، مرجع سبق ذكره، ص 19.
(11) محمد نور الدين أفاية، «في النقد الفلسفي المعاصر: مصادره الغربية وتجلياته العربية»، مرجع سبق ذكره، ص 12.
(12) نبيل فازيو، النقد، المعنى، الاختلاف: محمد نور الدين أفاية قارئًا للنزعة النقدية، منشورات مجلة المستقبل العربي، العدد 440، أكتوبر 2015م، وأعيد النشر في موقع «مركز دراسات الوحدة العربية».
(13) محمد نور الدين أفاية: لا مجال للحديث عن ديمقراطية بدون ديمقراطيين، حوار مع أشرف الحساني، منشورات مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، منشور بتاريخ 1 مارس 2020م.
https://www.alfaisalmag.com/?p=17864
(15) يمتحن أفاية سؤال «النهضة» باعتباره معدودًا على مقولات المركز بالحس القائم على رفض الدعوة الدائمة إلى التعامل مع هذه الموضوعات باعتبارها مركزًا ثابتًا، من خلال امتحان شروطها وممكناتها وعوائقها وتعلقاتها وترسباتها بشكل دائم ومستمر. ينظر: محمد نور الدين أفاية، «النهضة المعلقة»، منشورات المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء – بيروت، الطبعة الأولى 2020م.
(16) يقارب أفاية سؤال الديمقراطية في كثير من أعماله بروح جديدة ترفض نسفها كتجربة إنسانية تعبر عن نوع من المعقولية التي على أساسها يمكن إقامة حالة التوازن بين «المركز» و«الهامش»، حين يجعلها السند المساهم في حماية الاختلاف والمرأة والاعتراف والآخر…، لكنه يحاورها بشك وريبة في تجربتها العربية على هيئة أمل معلق ومرجو، وكأنه يريدها بدون «نقائصها» حتى تكون مركزًا يحمي المرأة والآخر والمختلف…، أي مركزًا يحمي الهامش بتكسير هذا التقسيم الجائر نفسه، ينظر: «الديمقراطية المنقوصة: في ممكنات الخروج من التسلطية وعوائقه، تقديم عبدالإله بلقزيز»، منشورات منتدى المعارف، بيروت، الطبعة الأولى، 2012م.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم: القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق