كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الغفران مستوحاة من قصة «التاجر والجني» ألف ليلة وليلة
لم أفكر لحظة أن الموت قد يصيرُ قريبًا مني إلى هذه الدرجة. أنا الآمر الناهي، سليل جني سليمان الأثير خريط بن زخبيلة، حارس التلال وملك الجبال، الذي يملك بصرًا يمكِّنه من النفاذ في الجدران الصلبة، والصخور القاسية، والرمال المتراكمة، والجلاميد البارزة، وبصيرة تعينه على رؤية الكلمات وهي براعمُ تتشكل، والخطط قبل أن تنضجها نارُ التفكير في عقول أعدائه، فيفاجئهم بما لم يخطر لهم على بال. يرعبُهم كلامُه، ويقهرُهم صمتُه وتؤرقُهم عزيمتُه وجبروتُه.
كان الموت بعيدًا من مملكتي، ومن عرشي، باستثناء أنه يجيء كل بضعة عقود ليحصد روح بشري ممن اصطفيتُهم في عرشي. غفرتُ لهم تلهفهم على كنز قطع الذهب. إنهم يموتون بعد بضعة أيام بحساب أعمار الجن، لكنهم يعيشون سعداء إذ يعتقدون أنهم امتلكوا الثروة. أحبوني لأنني ملأت جيوبَهم وخزاناتِهم وصناديقَهم الخشبيَّة بكنوز الأرض والبحر، وخدموني كما لو كنت من لحمهم ودمهم. كنت أخمد الغيرة في مهدها حينما تشبُّ في نفوس قوَّادي، فخلف عرشي مكتبة تصطف فيها قماقمُ النحاس. من يعص لي أمرًا، من يتعرض لبشري بسوء يعش قرونًا مدكوكًا مدحورًا في قمقم يستقر في أعماق البحيرة أسفل عرشي.
أدركتُ أن البصر ينفذ عبر الجدران لكنه لا يخترق حجاب الغيب، وأن القوة تقف عاجزة أمام الغفلة، وأنك قد تطوي البحار طيًّا، وتدك الجبال دكًّا، وتلامس السماء، لكن سلطانك العظيم يبدو أقصر من صولجانك. وقوتك تصير حبيسة جسدك لا معنى لها.
كنت أمارس قيلولتي بعينين نصف مغلقتين، أنشغل بشمِّ رائحة البخور والورد والأخشاب حتى روائح الجلد مهما أخفتها النظافة. أُميِّز إن كان شذا العطر صادرًا عن الملكة، أو ابنتي، أو الجواري. أفكر -كما أفكر على الدوام- أنه لا شيء في مملكتي يقلقني سوى ذلك السكون الأبدي. وما من شيء قادر على هز مملكتي، ولا حتى الموت، لكنه جاء فجأة واختطف ولدي.
لا يكف الصبي عن اقتحام مناطق الجند. كان يهرول في الأرجاء بينما ينشغل أحد حراسي بالتدريبات في ساحة خارج القصر، وكان الحارس في ذروة الكرِّ. أراد أن يغمد السيفَ البتَّار في قلب عدوٍ لا يراه، عدو يقف خلفه. وقد تصوَّر الحارسُ أنه يغمده في الفراغ، لكنه أغمده في قلب ولدي. زأرتُ فتصدَّعتْ جدران المملكة. انتاب القلوب الفزع، وخمَّن الأعداء أنها قيامتهم. وفي لحظة واحدة أحاطتني الملكة والابنة والقواد والوحوش والحيوانات الكاسرة والأفاعي، وفي عيونهم الدهشة والفزع والأسئلة. ارتجفتُ وأنا أشاهد الحارس من وراء الجدران يحمل ولدي، ويسير بساقين مهتزَّتين نحو بوابة القصر.
* * *
يوم المحاكمة لم يرفع الحارس وجهه من الأرض. جثا ولمس طرف الصولجان بشفته. كانت الملكة غاضبة؛ لأنني سمحت له بالحضور بدون أن آمر بتصفيده في أغلال النار، لكنها لم تجرؤ على عصياني، لا هي ولا ابنتي ولا قوادي.
أشرت للحارس فوقف، ومن خلفه وقفت مملكتي. قلت:
– فلتعلم أنني أُميت لكن لا أُحيي. الإله وحده يحيي ويميت. لو كانت لديَّ القدرة لأحييت ولدي، ومن قبله قومي على مدى الزمان وصولًا إلى أجدادي في مُلك سليمان. ولتعلم أيضًا: لو أردتُ لخلعت قلبك دون أن أتحرك من مكاني، لو أردت لحوَّلت دماءك إلى حديد مصهور، لو أردت لصيَّرتك تمثالًا من الصلصال التافه تكسره الريح إذا زمجرت، أو نفثة دخان في قمقم، لو أردت لأمرت البحيرة التي تقف فوقها أن تلقمك، فقل لي كيف أحصد روحك؟
خُيل إليَّ أن الحارس تحوَّل إلى تمثال من تلقاء نفسه. لم يتحرك ولم يهمس لمدة مرت بطيئة جدًّا، حتى قال:
– اعلم يا مليكي العظيم أنني وهبتك روحي عن رضا حين وقفتُ أمامك ها هنا منذ مئة سنة. لطالما تمنَّيتُ لو يحصدها عدو وأنا أدافع عن جلالتك، وأرفع راية سلطانك العظيم في كل الممالك.
تسرَّب إليَّ همس عقول شيوخ وشباب ونساء مملكتي. بعضهم يراه بريئًا لم يقصد ارتكاب ذنبه، وبعضهم يعتبره جانيًا متهورًا، خاب ظنهم في فطنته وسرعة رد فعله، لكنني عدت للتركيز مع الحارس. قلت:
– ما أنا بظالم ولا جبار. لن آمر بحصد روحك، ولن أسمح لأحد بمطاردتك إن وهبتك حياتك، ولا بقتل ابنك. إنني أحكم عليك ومن قبلك على نفسي بالصفح فأزيدها حريقًا، لكني أحكم عليك أيضًا بأن تعاني من اللعنة التي وصمتني بها. لعنة تحمُّل الصفح بعد أن تفقد عزيزًا لديك. إن ألم الغفران أحيانًا يكون أشد على النفس من ألم الموت.
تحركت الأقدام وتصاعدت الهمسات فصارت جلبة كبيرة تعصف برأسي. أنهيتها ضاربًا بصولجاني سطح البحيرة. تناثر رذاذها على المملكة فأسكتها.
* * *
راقبته لمئة سنة يهيم على وجهه في صحراء سومر، صحيح أنه ينعم بقرب زوجته وولده إلا أنه يقضي أيامه واجمًا. يفكر فيما اقترفته يداه. قلبه مثقل بحزني ومحبتي، وعقله أسير لعنتي.
في أحد الأيام خطر لي أن أتجسَّد له في صورة شيخ عنده علم الكتاب. آنس لي، فقد تجسَّدت بوجه شيخ علَّمه صغيرًا.
سألته:
– لماذا أنت بائس وأنت في جنتك الصغيرة؟
فقال بأسى:
– الجنة في القلب. تُقفر إن أقفر.
فسألته:
– هل تخشى مغبَّة اللعنة؟
فقال بحسم:
– إن مات ابني مت معه.
فقلت دهشًا:
– لكنك تعيش ميتًا وأنت حي.
فقال بتسليم:
– كأنني شوكة تنبت في صحراء الانتظار.
فتساءلتُ وقد رقَّ قلبي له:
– هل أخطأ الملك بإنزال لعنته عليك؟
فقال وهو يهز رأسه:
– كان كريمًا مع روحي.
فسألته وأنا أراقب زوجته وهي تلاعب ابنهما:
– قد يقصد بلعنته موت زوجتك؟
فقال بصدق:
– لو عَلِمتْ أنها المقصودة لقدَّمت روحها عن طيب خاطر.
فقلت وأنا أعود لمطالعة وجهه ولحيته المعفرة:
– تعلم أن الملك لا يستطيع فك لعنته.
فنظر لي مبهوتًا كأنه يعرف الحقيقة لأول مرة، لكنه قال:
– أغفرُ له الآن، لكنني لا أطيق المزيد من الغفران.
* * *
بعد خمسين عامًا أخرى كان الحارس يراقب ولده وهو يلاطف السحالي، بينما تغط زوجته في النوم تحت أجمة من أشجار «دقن الجن». لحظ أن تاجرًا يمر بالطريق كما يمر به كل شهر تقريبًا. أناخ ناقته. أخرج من حقيبته قِربة، وقطعة خبز وكيسًا مملوءًا بالتمر.
ولده لمح التاجر الذي كان يغنِّي بصوته الرفيع ليؤنس نفسه، وكان الولد قد ألِفه مثلما ألِفه أبوه الحارس وزوجته فلم يكف عن لعبِه. شاركه التاجر اللعِب بدون أن يقصد، فكلما أكل تمرة، صوَّب نواتها على رأس السحلية، لكنه أخطأها مرة بعد مرة، حتى هربت واختفت تحت حَجَر. ثم فجأة بدأ التاجر يلقي الأنوية في كل اتجاه، حتى أصابت إحداها عين الولد، فسقط كأنه حجر ثقيل على الأرض.
نهض الحارس. طار في الهواء إلى ولده. جسَّ نبضه، وتأكد أنه مات في الحال. كاد يصيح: يا نجوم انكدري، ويا شمس انفجري، ويا سماء انطبقي. كان يصرخ دون أن تغادر فمه الصرخة. ما أقسى الموت. إنه لعنة لا تميِّزُ بين الجن والإنس. يأتي في غمضة عين، إن لم يكن بالسيف فبنواة بلح. استل سيفه البتَّار واتجه إلى التاجر. تجسَّد له كمارد. صرخ فيه:
– سأقتلك كما قتلت ولدي.
فزَّ التاجر مرعوبًا وصاح:
– أنا لم أقتل ولدك ولا قتلت ولد أحدٍ آخر، إن أنا إلا رجل مسالم، يسعى لرزقه بين التجَّار، من قرية إلى قرية. المؤكد أنك أخطأت هدفك وتقصد شخصًا آخر.
فقال الحارس بنفس نبرة غضبه:
– كنت تُلقي بالنوى في كل اتجاه فأصبت ولدي فمات في التو.. قل لي كيف أحصد روحك؟
فصاح التاجر برجاء:
– لم أقصد أن أقتله. إن أنا إلا رجل تعِس أنتم أهل الجن تروننا ولا نراكم، فما ذنبنا ونحن أقل منكم قوة وشأنًا؟!
فقال الحارس بغضب أكبر:
-ذنبكم أنكم تنشرون الخراب في كل مكان تطؤه أقدامكم. قل لي كيف أحصد روحك؟
بدأ التاجر يبكي وقال برعب:
– لي زوجة وابنة جميلة كانت ستتزوج بعد أيام، فإن اختفيت فستحزن ولن تتزوج من بعدي. هل تمهلني وقتًا لأشهد زواجها وأعود إليك في مثل هذا اليوم من العام القادم؟
ولما رأيتُ إصرار الحارس على الانتقام لولده من التاجر، تجسَّدت له من جديد في صورة الشيخ، وقبلها مرَّرتُ يدي على رأس الزوجة النائمة وألقيت عليها تعويذة بألا تصحو، وصحت به:
– اعف عنه كما عفا عنك الملك.
فقال بغضب:
– ليته ما عفا عني. لقد لعنني بما هو أكثر قسوة من الموت.
وكان التاجر يظن في أثناء حوارنا أن الحارس يفكِّرُ في كلامه فامتلأ بالرجاء والأمل.
قلت للحارس:
– الغفران مؤلم لكنه يطهر الروح.
فقال الحارس بغضب:
– الحكمة تليق بالفلاسفة والملوك، والغضب خُلِق للجنود.
فقلت:
– أعطه فرصة على الأقل ليودع زوجته ويزوج ابنته.
فنظر الحارس إلى التاجر وقال منذرًا:
– اعلم أنني أعرف أصلك وفصلك. أعرف عنوانك، وأرى أولادك وزوجتك الآن بينما تمثل أمامي وهم يتحلقون في الطابق الأرضي من بيتك في سومر، فإن تأخرت عليَّ جئت وقبضت روحك وأرواحهم عقابًا على عدم برِّك بوعدك.
فقال التاجر وقد لاحت على شفته شبه ابتسامة سرعان ما ماتت في كومة ملامحه الميتة:
– في الموعد أسلمك روحي.
وبينما يبتعد أبطلتُ التعويذةَ فاستيقظت الزوجة. اقتربتْ من ولدها وحين لمستْه صرختْ فرددت الوديانُ صرختها.
* * *
لم تكن بالحارس رغبة في الكلام، لكنه لم يقو على إحراجي. كانت زوجته تجلس على مبعدة ساهمة، ألقيت عليها تعويذة بألا تسمعنا. قلت له:
-أعلم أنك كذبت على التاجر فأنت لا تستطيع رؤيته من بعيد. تلك قدرة خاصة بالملك فقط.
فقال بدهشة وتسليم:
– لكنني دخلت رأسه وعرفت كل شيء عنه.
فمددت يديَّ وقربتهما بحيث تصنعان دائرة، ثم سرعان ما امتلأت المساحة بينهما بدخان، ما لبث أن تشكل صورة للتاجر في بيته. ابنته تمسح دمعه وتهتف:
– لن أبعد عنك يا أبي. البيت بجوار البيت وإذا شئت أن نعيش معك هنا أنا وزوجي. لماذا تبكي منذ أمس؟!
وقالت زوجته:
– أنت لم تقرب الماء والطعام، كأن بك ضرًّا.
ووضعت ابنته الجميلة يدها حول رقبته وقالت:
– اشتقت إلى حكاياتك الغريبة عما تقابله في الصحراء.
ويبدو أن كلماتها حفزت الأب فقال وقد بدا على وجهه الارتياح من قراره بالإفضاء بسرِّه:
– هذه المرة قابلت حتفي. لا أستطيع أن أطوي السر في أعماقي أكثر من هذا.
وانتبهت المرأة والفتاة إلى أن هناك نذيرًا يحوم في ملامح وجهه، والأمر أكبر من حزنه على فراق ابنته حين تتزوج. مضى يحكي لهما ما كان من أمر أكله التمر وإلقائه النوى وظهور الجني وطلبه روحه بعد مقتل ولده. راحتا تبكيان بحرقة، حتى نشعت دموعهما على الجدران، وكانت كلماتهما تخنقه أكثر مما تريحه.
– نهرب إلى مدينة أخرى. معنا مال يوصلنا إلى نهاية العالم.
– نبحث عن رجل يخاوي الجن ونجد من يتوسط لك.
– خذنا معك سنموت جميعًا.
– لو شاهدنا الجني فربما يرق قلبه لك.
– لعل الجني يقصد إنسيًّا آخر.
– سندعو الله أن يحرقه.
مضت الأيام ثقيلة. أصر على زواج ابنته. قبلت صاغرة تحت ضغط دموعه وتوسلاته. قال لها بينما يمسك رضيعها بعد تسعة أشهر وأيام:
– طلبت أن يكون موعدي مع الجني بعد عام حتى يتسنى لي رؤية ولدك، علميه الشجاعة، (ابتسم بحزن) لكن حذريه أن يلقي النوى في الخلاء.
وجاوبتْ طلبه بهزة ودموع.
* * *
في اليوم الموعود أطلعتُ الحارسَ على رحلة التاجر.
في الطريق قابل رجلًا رقيق الملامح، ذا شعر مجعَّد، وبشرة سوداء صافية كأنها ليل الكهوف، يحمل على كتفه قردًا صغيرًا، تلمع عيناه بالذكاء، وسأله عن وجهته، فقال التاجر: إنه ذاهب لتسليم روحه إلى جني قتلَ ولدَه. عجب الرجل وفزع، وسأله ما حكايتك؟ استمع إليه، وتعاطف معه وطلب أن يصحبه إلى هناك ليحدِّث الجني فربما يقنعه بالعفو عنه. سأله التاجر:
– ألا تخشى أن يبطش بك أيضًا؟
فقال الرجل:
– لقد أرسلتني العناية إلى طريقك. ربما أكون سببًا في نجاتك. والجني لا يحمل ضغينة إلا لمن آذاه. البشر فقط ينشرون الأذى في الطريق.
وبينما هما يسيران قابلا رجلًا بدينًا، ذا ملامح حادة، يمسك في يده بسلسلة حديدية تنتهي بثلاث سلاسل تقبض على رقاب ثلاث بنات آوى. كانت تزمجر فيصيح بها فتصمت. سألهما البدين عن وجهتهما. تطوَّع الرجل الذي يحمل القرد بحكي قصة التاجر. تأثَّر البدين
واتخذ قرارًا بمرافقتهما. في أثناء سيرهم قابلهم قزم رأسه لا يكاد يحاذي ركبة التاجر، ذو خلقة بشعة. شعر التاجر ناحيته بالنفور، لكن القزم تحدث بصوت بدا كأنه لشخص آخر، قوي رزين. سألهم عن وجهتهم. تطوع الرجل الذي يحمل القرد بالحكي مرة أخرى، فتحمس القزم لمصاحبتهم.
أخيرًا وصلوا إلى مكان اللقاء. قلتُ للحارس قبل أن يتجسد:
– عذاب الغفران أقل من أذى الانتقام.
فقال الحارس:
– سأغفر له بعد أن أقتله.
ثم تجسَّد بضخامته المهيبة وبسيفه البتَّار. بدا على الثلاثة المرافقين أنهم لم يهتزوا لظهوره، بينما ذرف التاجر دموعًا صامتة كانت تسقط قطراتٍ قبل أن تتحول إلى خطين قويين ألانا الرمل.
الحارسُ سأل التاجر بغضب:
– قل لي كيف أحصد روحك؟
لكن القزم هو من تحدث:
– يا سيَّدي. لقد قابلنا التاجر في الطريق. استمعنا إلى قصته وتعاطفنا معه، وإن كنت تملك القوة فتذكر أنها لا تكفي لجعلك بطلًا في حكاية، وإنما الغفران.
وقال الرجل الذي يحمل القرد:
– يا سيدي إن كلَّ واحد منا له حكاية غريبة. هل تعتق الثلث من دم التاجر عن كل حكاية تُدهشك.
وقال الرجل الذي يشد بنات آوى إلى سلسلة:
– نحن أبطال حكايات فانضم إلينا.
قال الحارس بعد لحظة تفكير، وكنت أهز له رأسي من خلفهم بالموافقة:
– لو أعجبتْني حكايتان، وكرهت الثالثة فسيحلُّ لي ثلث دمه، وسأختار الثلث من جسده حيث يقع القلب.
فقال القزم:
-كان لي جسد ضخم، لكني استخدمته في زجر البشر بمن فيهم أبي وأمي وإخوتي. كنت سكرانَ نشوانَ ذات يومٍ وإذا بي أركل قطة فتتوجع وأعرف أنها ابنة جني، كسرت ضلوعها، فجاء يؤدبني وحولني إلى قزم. ولن أعود إلى سابق عهدي إلا إذا سرتُ مسافة ثلاثة شهور لا يغمض لي فيها جفن، وعلى هذا الحال أعتبرُ أن لعنتي أبدية، وبدلًا من البكاء على حالي قررت العناية بالبشر والحيوانات، ولما رأيت التاجر سرت معه على رغم أن لي سابقة سيئة مع جني آخر، فهل تجد حكايتي عجيبة؟
فقال الحارس وهو يتفرَّسُ ملامحه بدهشة:
– نعم حكاية عجيبة، لك ثلث دم التاجر.
افترَّ ثغر التاجر لكنه لم يبتسم فعمرُه لا يزال مرهونًا بحكايتين.
وقال الرجل الذي يحمل القرد:
-هذا القرد هو أخي. لقد ترك أبونا وصية لنا قبل أن يموت بأنه لا يجوز أن نتقاسم الميراث، وأن نُبقي على تجارته. نعيش مما تدره علينا من خير وفير، فإذا خان أحدنا الوصية فلا يبرأ من اللعنة إلا إذا اعتنى به أخوه لمدة سنة. ثار أخي ومزَّق وصية أبينا. حاول إقناعي بتقسيم الميراث، ولما رفضتُ جاء بعصْبته وضربني، ثم حبسني في قبو. ادَّعى أنني جُننتُ وسافرتُ إلى بلد بعيد. وذات يوم جاء إليَّ كما يأتي عادة ليضع لي الطعام، صاح أنه أخذ كل الثروة لنفسه، وما كاد يفعل حتى تحول إلى قرد. أخذت منه المفتاح، وحملته فوق كتفي، ومنذ هذا الحين لا أتركه لحظة. لا في الشارع ولا حتى في النوم. أُطعمه وأسقيه بيدي وأحرسه وهو يقضي حاجته خلف الأشجار وفي الخرابات. إنه أخي ابن أمي وأبي، ولن أتركه حتى يبرأ. فهل أعجبتك الحكاية؟
فهز الحارس رأسه وقال بصوت أقل انفعالًا:
– لديك قدرة كبيرة على الغفران. نعم الحكاية أعجبتني ولك ثلث دم التاجر.
فرح التاجر لكن فرحته لم تدم إلا ثوانيَ. تذكر أن هناك حكاية أخيرة يجب أن تكون مُقنِعة وإلا يسلبه الجني روحه.
وقال الرجل البدين وهو يشير إلى بنات آوى:
-هنَّ بناتُ أخي الراحل. كانت امرأتي عاقرًا لكني ذهبت بها إلى جني صالح فعالجها، وحين فرحتُ قال لي: لا تفرح فولدك سيُلقى للسباع. سألته بخوف وغضب: من سيفعل؟! وحين عرفتُ بمكر بنات أخي طلبتُ منه أن يسخطهن إلى بنات آوى إن أقدمن على فعلتهن النكراء، فبنات آوى تأكل الجيف وتذكِّر الناس بالموت.
أرادت بنات أخي كلَّ مالي إذا متُّ، ومن يدري ربما خططن لقتلي. خطفن رضيعي، وألقينه في الجبل. لكنَّ السباع أحاطته بالعناية. قال لي الجني في رحلة بحثنا عنه: إنها لحسن الحظ كانت تناولت غداءها، والوحوش لديها مشاعر تمكنها من معرفة الصغار. مشاعر تقوى إذا شبعت، وتنخفض إذا جاعت. ظلت تحيط الرضيع وتتشمَّمُه حتى حمله الجني إليَّ حيث أختبئ وراء تلٍّ قريب. ذهبتُ إلى أهل القرية لأسلِّمهم بنات آوى، فقرروا إحراقهن، لكني لم أتحمل وزرهن، وقررت تهريبهن إلى مدينة بعيدة.
فقال الجني بغضب:
– لكنك ستؤذي الناس في المدينة البعيدة!
ارتعب التاجر عند ذاك، فنبرة الحارس تشي بأن الحكاية لم تعجبه، وقال الرجل البدين بسرعة:
– لقد أخبروني عن مدينة العماليق، إذا منحتهن لملكها سيصرن مجرد حيوانات أليفة تُوضَع في القفص، فلا تؤذي أحدًا.
فصمت الحارس بغضب متأملًا ملامحه. كنت أعلم ما سينطق به:
-الحكاية عجيبة جدًّا.. لك ثلث الدم الثالث.
ثم نظر إلى التاجر وقال بحزنٍ وأسى:
-غفرتُ لك وعفوتُ عن روحك.
* * *
عدت إلى الملكة وابنتي. حكيت لهما قصة الحارس والتاجر. قلت:
-في البداية أحرقتني نار الانتقام. عفوت عن الحارس لكني أردت أن يعاني معاناتي ويكتوي بألمي. ولما هدأت بعد مئة عام أو يزيد أدركت خطئي، وأن العفو لا يصبح عفوًا حين تشوبه شائبة الانتقام، وأن الإنسان الذي قَتلَ ولدَ الحارس لا ذنب له أن يكون ضحية لعنتي، فجمعتُ له ثلاثة رجال من المشرق والمغرب. وضعتهم في طريقه ليعينوه في مواجهة الحارس بقصصهم العجيبة ودروسها الغريبة. أنقذت الحارس أن يكون لعبة في يد الأقدار، وألا يصبح قاتلًا مرَّتين.
فقالت الملكة:
– سيعيش محزونًا على خسارة ولده كما ستعيش محزونًا على خسارة ولدنا.
فقلت:
-أما أنا فخسارتي أفدح.
فسألتني ابنتي:
-كيف؟!
فقلت:
– أدركت أن السلطان يزيد وينقص بالحب والغضب، وأنني قد أجاهدُ ألفَ عامٍ حتى أكسب القوة، لكني قد أخسرها بنزوة البطش، وقسوة التفكير، وخطأ التدبير.
المنشورات ذات الصلة
برايتون
... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر...
في طريق السفر تخاطبك النجوم
مغامرة صغيرًا كنتُ، صغيرًا جدًّا رميتُ صنارتي إلى البحر اجتمعت الأسماك معًا، رأيتُ البحر! * * * صنعتُ طائرة ورقية بسلك...
بين صحوي وسُكْرها
رغمًا ترددتُ.. لم أسكَرْ ولم أَصْحُ! في كأسكِ البرءُ أم في كأسكِ الجرحُ؟ قصّت جناحي بأفْق الحبّ أسئلةٌ ...
0 تعليق