كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الفلسفة فنًّا للموت
فقط بفضل الموت تساعدنا حيواتنا في التعبير عن أنفسنا.
بيير باولو بازوليني
يحتاج الفلاسفة أحيانًا شيئًا أقوى من الكلمات للتعبير عن أنفسهم، يوم لا تعود أقوالهم وحججهم تقنع أحدًا، ويوم تخونهم حيلهم البلاغية والخطابية فتتركهم عاجزين. وكان لزامًا عليهم، إذ لا يسعهم الصمت، اللجوء إلى نوع من وسائل التعبير غير الشفهية أو عبر الشفهية. وعلى الرغم من ذلك، فمن الواضح أن الفلسفة مرتبطة عضويًّا باستخدام اللغة وفن الكتابة والكلمات وإنتاج النصوص. فإذا ما صمتت كلمات الفلاسفة ونصوصهم، فماذا يتبقى لهم؟
عندما تفشل كلماتهم على نحو متعذر الإصلاح ويتعثر خطابهم، يبقى لدى الفلاسفة، على الرغم من ذلك، أداة فعالة للغاية، وهي حياتهم- أجسادهم. ويمكن لهذه الحيلة، الأخيرة بالضرورة، أن تكون، إذا ما استُخدمت على نحو صحيح، قوية للغاية. كان موت سقراط أكثر الوسائل إقناعًا التي استخدمها على الإطلاق، وآل الأمر على مر القرون إلى تكريمه ليس بسبب ما فعله عندما كان على قيد الحياة، ولكن بسبب الطريقة التي مات بها. ومن بين جميع الكتب التي لم يكتبها في حياته على الإطلاق، كان موت سقراط هو بالتأكيد تحفته الفلسفية الحقيقية. وفي الواقع، أرسى هذا الموتُ أنموذجًا لكل «الميتات الفلسفية» اللاحقة في تاريخ الفكر الغربي.
تأنيس و«ترويض» الموت
في دفاع أفلاطون، تظهر كلمات «الموت»، «الاحتضار» أو «الخوف من الموت» متأخرة نسبيًّا في متن النص. وهي تظهر بخجل في أول خطاب ألقاه سقراط أمام هيئة المحلفين. بيد أنها، بمجرد ظهورها، يُعاد استخدامها بوتيرة متزايدة، وهو ما يشي باضطراب سقراط المتزايد وتبلبل حالته الذهنية. وهو لا يني يواصل طمأنة جمهوره -وبخاصة نفسه- أنه ليس ثمة أي سبب على الإطلاق للخوف من الموت «ولا أرى اتقاء الموت يا رجال أثينا، إلا دليلًا على أن الإنسان يظهر برداء الحكمة من غير أن يكون حكيمًا، فيثق لنفسه بمعرفة ما هو جاهل به». فليس لدينا، ولا يمكن أن يكون لدينا أي معرفة قاطعة عن الموت؛ لذلك لا يسعنا ولا ينبغي لنا أن نخاف منه. فخوف المرء من شيء، يعني معرفة هذا الشيء. في الواقع، وكما سيُظهر سقراط في الدفاع لاحقًا، مهما كان الموت، فلا داعٍ للخوف منه على الإطلاق. «إن الموت واحد من اثنين: فإما أن الميت يصير إلى عدم، ويفقد كل حس للأشياء، وإما أنه، على ما يُقال، تغيرٌ يطرأ على النفس وينتقل بها من هذا العالم إلى عالمٍ آخر. فإن صح أنه فقدان كل الشعور، وأنه رقدة لا يرى فيها النائم حلمًا، فلا نزاع أن الموت ربح عظيم.. وأما إن كان الموت عبورًا من ههنا إلى دار أخرى حيث يستقر الأموات جميعًا كما يُقال، فأي خير يمكنه أن يكون أعظم منه؟» (المقبوسات والشواهد من «دفاع سقراط» من ترجمة الأب إيزيدور أبو حنا).
قد يكون سقراط على حق، وقد يكون الموت فعليًّا أعظم نعمة يمكن للمرء الحصول عليها، أو ربما كان على الأقل نومًا بلا أحلام. وعلى الرغم من ذلك، فإن المشكلة برمتها تنشأ على وجه التحديد من عدم اليقين بشأن ماهية الموت. وكلا الاحتمالين اللذين أشار إليهما سقراط سيكون مقبولًا على نحو متساوٍ، لكننا لا نعرف على وجه اليقين أيهما هو الحال بالفعل. فبالنسبة لسقراط العقلاني، سقراط الذي اعتقد أن الناس يفعلون الشر فقط بدافع الجهل، وأنهم إذا عرفوا ما هو الخير، فإن هذه المعرفة ستجعلهم فاضلين بشكل تلقائي تقريبًا- بالنسبة لسقراط هذا، الذي ساوى المعرفة بالفضيلة والسعادة، لا بد أن عدم معرفة معنى الموت كان بمنزلة إدراك مؤلم للغاية.
وبعبارة أخرى، فإن جوابًا منطقيًّا على سؤال: «هل كان سقراط خائفًا من الموت في هذه اللحظات؟» هو «بالطبع كان». لا بد أنه كان كذلك. كان في السبعين من عمره، وكان قد عاش فعليًّا حياة طويلة، طويلة بما يكفي لفهم أشياء كثيرة. فالحياة مخدر إدماني: فكلما طالت مدة حياة المرء، ازداد إدمانه الحياةَ؛ لذا من الأسهل، وإن كان الأمر مأساويًّا، أن يموت المرء في سن صغيرة منه عندما يتقدم في السن. فالشهادة تطيب عندما يكون المرء في العشرين أو الثلاثين من عمره: فحينها لا يُقيض للمرء الوقت الكافي لفهم ماهية الحياة حقًّا، وفي هذا العمر لا يعرف المرء بالضرورة ما يتركه وراءه وما ينتظره. لكن عندما تكون في السبعين من عمرك، يجب أن تخاف بالتأكيد من الموت. فبحلول سن السبعين، يكون المرء قد تجذّر في العالم ويكون العالم بدوره قد تجذّر في المرء، وحيث إن كل فراق لا يمكن إلا أن يكون مؤلمًا للغاية؛ لذلك كان لدى سقراط أسباب وجيهة للخوف من الموت.
سقراط البطل، سقراط الذي لم يشعر، ولو لثانية واحدة، بالخوف من الموت لا بد أن يكون مجيدًا. سيكون هذا سقراط أقرب للآلهة، بمكوثه بعيدًا وراء إكراهات وقيود الجسد. ولكن سقراط الذي كان يتعين عليه أن يبذل جهودًا للتغلب على خوفه من الموت، والذي كان عليه أن يجد شجاعته في أعماق خوفه، كان أكثر مجدًا. فالشجاعة والخوف، رغم تعارضهما، ليسا غير مرتبطين بالضرورة. وكما هو الحال، ففي بعض الأحيان تولد البطولة الفائقة على وجه التحديد من الجزع الشديد، والشجاعة المثيرة للإعجاب من الخوف الأكبر.
يمثل الجزء الأخير بأكمله من خطبة سقراط الأولى مقاربة متطورة لتأنيس الموت والاحتضار. فبفضل رواية أفلاطون الممتازة في دفاعه، نشهد هنا سقراط الذي يقترب تدريجيًّا من الموت، في حالاته المتعددة (كمفهوم فلسفي، كمصدر للألم، كحدث غير بعيد و كمكابدة وشيكة). نشهد سقراط الذي يتعلم طوعًا أو كرهًا كيف يفسح مجالًا جديدًا للموت في صميم كيانه. يتآلف سقراط مع فكرة الموت ويحتضنها ويحاول أنسنة الموت؛ للتغلب تدريجيًّا على خوفه منه: «إن حكمتم علي، وأنا على ما ذكرته، تضرون بي أقل من ضرركم بأنفسكم». «أما هل أخشى الموت أم لا، فذلك شأن آخر».
في هذه الأقاويل، كان سقراط ببساطة شديد الإصرار على عدم خوفه من الموت حتى لا يلفت انتباهنا إليه. الشخص الذي لا يخاف فعليًّا من الموت سيقضي وقتًا أقل في الحديث عنه. لكن هذا الإصرار بالذات له أيضًا دور أدائي: فسقراط لا يحاول إقناعنا كثيرًا بأنه لا يخشى الموت بقدر ما يقنع نفسه.
ومن ناحية أخرى، يتعين على سقراط التأكد من أنه لا يرسل رسالة غامضة إلى قضاته؛ إذ إنه بغض النظر عن مدى خوفه من الموت، فهو أكثر خوفًا من عيش حياة غير مُستحقة وغير سقراطية. إنه يطمئن جمهوره أنه ليس على استعداد على الإطلاق لخيانة نفسه، وخيانة ما كان يعلّمه طوال حياته. ولهذا يخبرهم مرارًا وتكرارًا أنه، بغض النظر عن نتيجة المحاكمة، لن يغير أسلوب حياته أبدًا.
فيلسوف انتحاري «كاميكاز»؟
كان إجراء أول تصويت لهيئة المحلفين وعدّ أغلبيتهم أن سقراط مذنب إحدى نقاط التحول في الدفاع، ولا بد أن خيبة أمل سقراط في أقرانه الأثينيين كانت هائلة. فحتى لو كان هذا التصويت يتعلق فقط بإثبات ما إذا كان مذنبًا أم لا، فإن الحقيقة المطلقة المتمثلة في عدّ أعضاء هيئة المحلفين أن سقراطَ «مُذنبٌ» كانت بالنسبة له إشارة واضحة إلى أن مهمته التربوية المدنية في مدينة أثينا قد أخفقت؛ لذلك أصبحت حياته في هذه المدينة بلا معنى نوعًا ما. ولا بد أن سقراط قد أدرك في ذلك الوقت أن موته، في ظل هذه الظروف، كان أفضل شيء وأنه لا توجد كلمات أو خطابات يمكن أن تجسّر تلك الهوة، هوة سوء الفهم والشك التي برزت بينه وبين أقرانه الأثينيين. وهكذا لم يجد سقراط سوى حياته بين يديه: كان عليه أن يستفيد منها إلى أقصى حد لترتيب الأمور بطريقة تجعل موته يحقق أكبر منفعة. وكان لاحتضاره أن يعبِّر عما لا تستطيعه رطانته اليونانية المتقنة، وكان عليه أن يحول جسده إلى برهان إزاء آذان الأثينيين الصماء، ولم يكن من المجدي أن يلقي المزيد من الخطب: فكل ما كان يمكنه فعله هو التعبير عن نفسه بأكثر الوسائل جذرية، أي جسده، وأن يموت بطريقة «مشهدية»؛ وهذا مما لا يمكن لأحد أن يتجاهله أو لا «يستمع إليه».
وعلى هذا النحو، كان على سقراط، بالوسائل المحدودة بين يديه، وفي المدة الزمنية القصيرة التي تُركت له، أن يحول موته إلى شيء -من وجهة نظره- يخدم قضيته ببراعة قدر الإمكان. كان يتجه نحو موته على أي حال: كل ما كان عليه فعله هو التأكد من أن الهدف لن يفوته، وأن من شأن هذا الحدث الفريد أن يجلب له، حينذاك وهناك، ولكن أيضًا بعد موته، أقصى إفادة من حيث الشرف، التغلب على الذات، المثالية والبطولة. وهذا مما لا يختلف كثيرًا عن إستراتيجية الانتحاري «الكاميكاز». كان سقراط الآن، كما يمكن للمرء أن يقول مجازًا، كاميكازًا عليه أن يجعل موته بليغًا قدر الإمكان، ومن ثم فقد قرر، بوعيه أنه في سن السبعين، وأنه سيموت عاجلًا أم آجلًا، على أي حال، والأهم من ذلك إن طلب العفو (أو عقوبة أخف) من شأنه أن يلقي بظلال مُحرِجة على اسمه، فلحظة الموت المناسبة قد أزفت.
وكان على سقراط، في المستهل، أن يتأكد من أنه سيحصل على عقوبة الإعدام، وليس أقل من عقوبة الإعدام. فقد كان من الممكن أن ينتهي به الأمر رهين النسيان في «الليمبو» (الليمبو أو الأعراف أو دهليز جهنم: Limbo في المسيحية، هو المكان الذي تذهب إليه أرواح من ماتوا ولم يُعمدوا، وبخاصة الأطفال. وهو مكان قبل الجحيم ومعناه «الشفاء»، وهو مخصص لأرواح الأطفال الذين يتوفاهم الله قبل أن يعمدوا وكذلك لأرواح الوثنيين الفاضلين، ممن عاشوا قبل المسيحية. وبحسب خريطة بورخيس هي منطقة مقابل جبل صهيون في القدس الشريف). لا ميتًا ولا حيًّا- منفيًّا، على سبيل المثال- ومضطرًّا إلى مواجهة العار بقية حياته بطلبه المغفرة من الأشخاص الذين وبخهم طوال حياته، ويموت عاجلًا أم آجلًا ميتة طبيعية شائنة. وعلى هذا كانت الحيلة التي استخدمها رائعة؛ إذ بمجرد إدانته، كما هو معروف، كان على متّهميه أن يقترحوا عقوبة (اقترحوا عقوبة الإعدام)، وبدوره، كان على سقراط أن يأتي باقتراح مضاد. في هذه المرحلة، وبدلًا من اقتراح عقوبة بديلة (بطبيعة الحال، أخف من عقوبة المتهِمين)، اعتبر سقراط أنه بعد حياة مثل حياته، كرّس نفسه فيها للرفاه الأخلاقي والروحي للأثينيين، لم يكن ما يستحقه عقوبة، وإنما مكافأة كبيرة.
وبشكل أكثر تحديدًا، طلب من الأثينيين أن يُطعم على حساب الدولة:
«فماذا استأهل على هذه الحال؟ لا بد أنكم تجازوني خيرًا، يا رجال أثينا، إذا كان لا بد من الجزاء. وماذا يفيد رجلًا محسنًا يحتاج إلى إخلاء ذرعه ليتوفر على نصحكم؟ لا أفيد له، يا رجال أثينا، من أن يُطعم في البريتانة».
كانت هذه آمن طريقة للحصول على عقوبة الإعدام ولا شيء أقل من ذلك؛ لأن أي شيء أقل من ذلك كان من شأنه إفساد كل مساعيه. وللتأكد من أنه ليس ثمة أي مخرج على الإطلاق بالنسبة له، مارس سقراط السخرية في خطابه الأخير بشكل أكثر حدة من ذي قبل: «ولا أحاول إقناعكم لأن زمن حوارنا قصير. أما وأنا على يقين جازم أني لم أسئ إلى أحد، فحري بي ألا أسيء إلى نفسي بأن أحكم بأني مستحق العقاب، وتجرع مضاضته». كما ليس من أثر للرقابة على الذات في خطابه الأخير: فسقراط الآن، ولأن لا شيء لديه يخسره، في أجرأ صوره. وربما يمكننا تسمية ما يُمارسه «بلاغة الانتحار»، فكل شيء قد قيل، ولا شيء مخفي: و«إني لم أعثر لفراغ يدي من الأدلة والبراهين، وإنما عثرت لعزوفي عن الجسارة والقحة؛ لأني لم أشأ أن أخاطبكم بما يطرب مسامعكم من عويل وبكاء ورثاء».
آتَت الإستراتيجية السقراطية أُكُلها، وحصل سقراط على عقوبة الإعدام ومات أعظم ميتة. ومنذ موته أُدرج سقراط بين أمجد الأبطال وأقدس الشهداء. وأصبح لموته النموذج الأسمى لجميع حالات الموت الفلسفي، وفي الواقع، الموت الفلسفي الأصلي. ولاحقًا، سيقول فولتير عن وفاة سقراط: «موت هذا الشهيد كان في الواقع تأليه للفلسفة».
تقريبًا لا شيء: حياة يان باتوكا
مات يان باتوكا (فيلسوف تشيكي، وآخر تلاميذ إدموند هوسرل ومارتن هايدغر) في 13 مارس 1977م، في أحد مستشفيات براغ، بعد وقت قصير من عيد ميلاده السبعين. أما سبب الوفاة فكان «نزيف دماغي حاد ناجم عن استجواب الشرطة، فخلال الشهرين السابقين، استُجوب بشكل متكرر، واستمر الاستجواب الأخير أكثر من 11 ساعة». وقد استُجوب بوصفه أحد المتحدثين الرسميين لحركة ميثاق 77 التي انخرط فيها خلال العام السابق. وكان فاكلاف هافل من بين مُحَرّضي هذه الحركة، وشارك مع بعض المنشقين الآخرين مباشرةً في دعوة باتوكا للانضمام إلى الميثاق، فقد شعروا منذ البداية أن باتوكا، أفضل من أي شخص آخر، يمكنه أن يمهر الميثاق ببعد أخلاقي». وسيجد ميثاق 77 في باتوكا قائدًا أخلاقيًّا لا ريب فيه، فهو لم يشارك في السياسة (لا الشيوعية ولا غيرها)، وهو مُحترم من الجميع، ويمكنه من ثم أن يمنح الحركة إحساسًا معينًا بالوحدة والاتجاه. ولعل المرء يميل إلى رؤية التوازي بين علاقة باتوكا بشباب ميثاق 77 وبين علاقة سقراط بشباب أثينا الذين كان «يفسدهم»؛ ففي كلتا الحالتين، كان ما يفعله الفيلسوف، من وجهة نظر النظام، فاسدًا مما يُوجِب التخلص منه.
يروي فاكلاف هافل في كتاب «تكدير السلام» قصة انضمام باتوكا إلى الحركة. فهو «لم يشارك من قبلُ مباشرةً في السياسة، ولم يكن لديه أي مواجهة مباشرة وحادة مع القوى الموجودة، وكان، في مثل هذه الأمور مترددًا وخجولًا ومتحفظًا». ولا بد أن يكون قد تعلم من سقراط -تمامًا كما ينبغي لأي فيلسوف حصيف- أن المرء الذي يسعى لتحقيق العدالة «إن كان ينوي البقاء على قيد الحياة حتى لفترة قصيرة، يجب بالضرورة أن يقصر نفسه على الحياة الخاصة ويترك السياسة وشأنها».
علاوة على ذلك، ثمة شيء لا بد أنه جعل من الصعب على باتوكا، لفترة من الوقت على الأقل، أن يكرس نفسه بالكامل للعمل السياسي المُعارض المميت. وتنبع هذه الصعوبة من بُعد معين لفلسفته، وربما من شخصيته. فثمة اتجاه محسوس في فلسفة باتوكا يتمثل في الاحتفال المستمر بالحياة، وعملية العيش، وتمجيد عالم الأحياء. كما أن كثيرًا من مطارحات باتوكا الفلسفية، المتجذرة بعمق في التقليد الفينومينولوجي الذي تقع في القلب منه مفاهيم مثل الحياة، الجسد، التجسيد، عالم الحياة والتجربة المعيشة، مخصصة لتحليل فينومينولوجي «ظاهراتي» مفصل لمفاهيم مثل التقبل، «الجذور الغارقة»، الأرض، المنزل، العناية والمفاهيم الأخرى ذات الصلة. ثمة شعور بالتعاطف الكوني في فلسفته: فهو لا يتأمل العالم كثيرًا بقدر ما يشعر به. فلسفة باتوكا هي فلسفة رعاية، وبالنسبة له، فإن معاملة الجسد بوصفه شيئًا من العالم الخارجي ليست مجرد خطأ فكري، بل هي شكل من أشكال الظلم للجسد نفسه. ولم ير باتوكا، مقتفيًا أثر ميرلوبونتي وآخرين، الجسد على أنه ما نفكر فيه، وإنما على أنه حاضر في عملية التفكير ذاتها، على أنه الذي يجعل التفكير ممكنًا.
الموت والعناية بالروح
ليست «الجذور الغارقة»، الانغماس في «الدفء الحيوي» لعالم الحياة، مع ذلك، سوى حركة أولى، مرحلة واحدة فقط من المراحل التي يتوجب على الشخص المرور بها ليكون إنسانًا على النحو الصحيح. ولا يعني العيش في هذه المرحلة البيولوجية المشاركة فقط في إيجابية الحياة (الولادة والنمو والازدهار)، ولكن أيضًا في نقيضها: الاضمحلال والفساد والتفسخ والموت. ليكون المرء إنسانًا بالكامل، يتعين عليه دائمًا أن «يتغلب» على هذه المرحلة الأولى.
فالحياة البشرية تُعاش في ظل الموت. وبغض النظر عن المسافة التي يقطعها المرء، فلن يذهب المرء بعيدًا بما يكفي للهروب منه. ورأى باتوكا، مُقتفيًا أثر هايدغر، الموت -احتمال الموت- بوصفه جزءًا لا يتجزأ من الحياة. وثمة طريقة واحدة فقط للتغلب على هذا التداعي الأنطولوجي «الوجودي» الأساسي، وتتمثل ببساطة في التحديق في وجه الموت.
إن الروح التي تعتني بنفسها فعليًّا لا تطفو بلا هدف على سطح الأشياء، وإنما تدنو منها بطريقة منضبطة وصحيحة. وهي الروح التي لا تغبن الأشياء، وإنما تعاملها كما هي حقًّا. هذا التصحيح المعرفي الرائع الذي تظهره روح تعتني بذاتها إنْ هو إلا انعكاس لنظام داخلي وحياة داخلية مكرسة للتفكير الصارم.
وبعد، فإن كل هذا الانشغال والانهماك بالحياة الداخلية للروح لا ينبغي أن يعطي انطباعًا بأن العناية بالروح شيء فرداني أو أناني. فعلى العكس من ذلك، للعناية بالروح بُعد اجتماعي أساسي: إن «المكان المثالي للعناية بالروح» هو المدينة، وهي «المدينة» «المكان المناسب للتاريخ». في الواقع، لا يمكن تصور حياة الروح خارج حياة المجتمع الذي تجد تلك الروح نفسها فيه. كما وتفترض العناية بالروح، بطريقة أساسية، هذا الانفتاح السخي على الآخرين والرعاية الفعالة بهم. علاوة على ذلك، وإذا لم يكن الأمر ينطوي على خيانة للذات، فيجب على الروح التي تهتم بنفسها أن تفعل ذلك بأي ثمن. وأفضل مثال، مرة أخرى، هو سقراط.
يثني باتوكا مرارًا وتكرارًا على سقراط لفهمه الكامل لماهية العناية بالروح، ولأنه كان أول فيلسوف غربي يضعها فوق أي شيء آخر، بما في ذلك حياته الخاصة. فلطالما حث سقراط، وفقًا لباتوكا، الناس على التفكير، أن يفكروا مثله، وأن يبحثوا، وأن يمحص كل امرئ، بطريقة خلاقة، كل فكرة، كل مُعتقد وكل رأي راسخ. وقد علّم مواطنيه الأثينيين أن «حياة غير مُمتحنة حياة غير جديرة بالعيش» حتى لو نجم عن عملية الفحص والسبر هذه أن يقف المُمتحِن أو الفاحِصُ، أحيانًا، في مواجهة مدينته. وفي النهاية، بفضل هذه التعاليم، وبفضل هذه العناية النشطة بالروح، أصبح «الوجود الكامل» لسقراط «استفزازًا للمدينة».
ويجادل باتوكا، من ناحية أخرى، بأن أثينا، باضطهادها سقراطًا، تفعل فقط ما هو جِدّ طبيعي بالنسبة لـ«مدينة بلا قانون». وبطريقة ما، حثهم سقراط على اضطهاده: لطالما كان أسلوبه في التفلسف دعوة مفتوحة للاضطهاد. هذه واحدة من تلك الحالات التي تُعرِّض فيها العناية بالروح الفرد الذي يمارسها للخطر: «فالعناية بالروح في مدينة بلا قانون تُعرِّض الإنسان للخطر، كما تُعرِّض للخطر نوع الكائن الذي يرمز إلى العناية بالروح، تمامًا كما يُعرِّض ذاك الكائن تلك المدينة للخطر؛ لذلك من المنطقي تمامًا أن تتعامل المدينة مع الأمر وفقًا لذلك». ليس من الصعب أن نرى أن باتوكا، في مثل هذه المقاطع، لا يتحدث فقط عن سقراط ومدينة أثينا، ولكن عن نفسه وعن تشيكوسلوفاكيا يومها. وعلى هذا النحو، فعندما يقول باتوكا أنه «من المنطقي تمامًا» أن تعامل المدينة من يسعى إلى العناية بروحه «وفقًا لذلك» «فإنه يرسل رسالة غير مباشرة مفادها أنه أيضًا مستعد بالفعل للموت من أجل طريقة حياة سقراطية. ويرى مهمته بأكملها كجزء من «الإرث السقراطي».
تجسيد الفلسفة
لا بد أنه كانت ثمة لحظة في حياة باتوكا عندما أدرك أن مقالاته العلمية ومحاضراته وندواته السرية، مهما كانت جريئة من حيث محتواها (التخريبي)، لم تكن كافية لإحداث فرق في العالم الحقيقي. ولا بد أنه أدرك أن تكهناته الفلسفية، مهما كانت دقيقة وعميقة وحقيقية، لا يمكن أن ترقى، بمفردها، إلى مستوى العناية النشطة (حد التضحية بالنفس) بالروح التي أثنى عليها كثيرًا لدى سقراط. فثمة شيء ما كان لا يزال مفقودًا: «تصل الفلسفة إلى نقطة لا يعود فيها طرح الأسئلة والإجابة عليها كافيًا، وحيث لن يتقدم الفيلسوف أكثر ما لم يتمكن من اتخاذ قرار».
كان اختبارُ فلسفته إذن هو هذا الأمر المفقود. فقد أصبح يدرك بشكل متزايد أن لحظة لا بد آتية عندما «سيضطر إلى وضع تفكيره على المحك… وأنه لا يستطيع تجنبها أو تأجيلها إلى الأبد؛ لأن هذا في نهاية المطاف من شأنه أن يجعل فلسفته برمتها موضع شك».
اتُخذت هذه الخطوة الحاسمة عام 1976 عندما قرر المشاركة بنشاط في حركة ميثاق 77. ومن المؤكد أنه عندما قرر اتخاذ هذه الخطوة، كان يعرف بالضبط ما كان يفعله: لقد كان يسير على خطى سقراط. كان الاضطهاد الشديد مسألة وقتٍ فقط. عندما وقع باتوكا على ميثاق 77، ووافق على العمل كمتحدث رسمي، وألّف وثائق له، كان ذاك بمنزلة دعوة لنظام هوساك لاضطهاده. كان قراره، قبل كل شيء، ذا طبيعة فلسفية. لم تكن أسباب باتوكا للانضمام إلى الميثاق مرتبطة كثيرًا بالسياسة (حتى لو كان لذلك آثار سياسية)، لكنها كانت ذات صلة أساسية بنوع الفلسفة التي كان يدرسها ويمارسها طوال حياته. ولو لم يقم بهذه البادرة، لما كان ليقول: إن فلسفته «نجحت»؛ إذا لم يكن بوسع الفلسفة فعل أي شيء لوقف الهمجية، فليس لها الحق في قول أي شيء ضدها.
لذلك يجب أن يُنظر إلى مشاركة باتوكا في حركة ميثاق 77 على أنها استمرار أو تطبيق أو ذروة لمفاهيم نظرياته الفلسفية. وتمامًا كما كان على سقراط أن يقول ما قاله في المحكمة حتى لا يخون جوهر فلسفته، كان على باتوكا أن يتدخل في ميثاق 77 (وأن يدفع ثمن ذلك لاحقًا بحياته) من أجل أن يثبت -لنفسه، لتلاميذه، للجميع- أن فلسفته كانت تستحق المتابعة والاستماع إليها. وهكذا يصبح باتوكا، على حد تعبير بول ريكور «أكثر فلاسفة العصر الحديث سقراطية».
موت هؤلاء الناس ليس نهاية، بل مجرد بداية. وأدركت الشرطة، التي طوقت المكان، أن وفاة باتوكا لها بعد سياسي، وأن جثته تحمل رسالة مدنية مهمة، وأن انتصارها على باتوكا كان انتصار محفوف بالمخاطر، وأن باتوكا الميت، بطريقة غريبة، كان أقوى وأكثر نفوذًا، وبالنسبة لهم أكثر خطورة من باتوكا الحي.
كان لديهم كل القوة في العالم وحولوه إلى جثة. والآن، في ظروف غامضة، هزمتهم الجثة. وفعلوا كل ما في وسعهم لمنع حياة باتوكا السياسية بعد وفاته: «صورت كاميرات الشرطة الجميع، حتى عند القبر. وغطى ضجيج طائرة هليكوبتر عسكرية، حلقت في سماء المنطقة، والدوران الثقيل لدراجات الشرطة النارية، في مضمار سباق قريب، على خطبة الكاهن». هذا يحدث طوال الوقت. ثمة ميتات تجعل المرء أقوى وأكثر خطورة مما كان عليه عندما كان على قيد الحياة.
إنهم يقتلون الفلاسفة، أليس كذلك؟
سقراط وباتوكا هما فقط الأول والأخير على التوالي في سلسلة طويلة من الفلاسفة ممن دفعوا حيواتهم، بطريقة أو بأخرى، من أجل معتقداتهم: هيباتيا، جيوردانو برونو، إيديث شتاين وآخرون. ثمة شيء رائع دائمًا حول هذه الشخصيات؛ إذ توقفوا في مرحلة ما من حياتهم عن استخدام الكلمات لإيصال رسائلهم وبدؤوا في استخدام أجسادهم. لم يقتصر الأمر على تجاوز هؤلاء الفلاسفة لأجسادهم، بل إنهم حوَّلوها إلى نصوص بليغة، إذا صح القول، إلى امتداد ما لنصوصهم المكتوبة. لقد ماتوا موتًا معبرًا وعنيفًا نظر إليه الآخرون من فورهم على أنه الإنجاز النهائي لعملهم، إنجازهم الأسمى.
يجادل بيير باولو بازوليني بأن حيواتنا تبقى «غير مُعبّر عنها» على نحو محتوم، طالما أننا على قيد الحياة: «من الضروري للغاية أن نموت؛ إذ ما دمنا نعيش، فليس معنى حيواتنا ولغتها بمتناولنا.. تبقى عصية على فهمنا، وتمثل فوضى من الاحتمالات، بحثًا عن علاقات ومعانٍ لا حل لها. يُمنتج الموت حيواتنا. فقط بفضل الموت تساعدنا حيواتنا في التعبير عن أنفسنا».
لم يكن سقراطُ ليكون سقراطَ على الإطلاق، بالمعنى الكامل للكلمة، حتى موته. وكذلك لم يكن لباتوكا أن يكون باتوكا، بالمعنى الحق للكلمة، قبل موته. ما جعلهم مثاليين هو أنهم عرفوا أنه لكي يصبحوا ذواتهم، كان عليهم أن يعلّموا أنفسهم فن الموت.
المصدر: http://dx.doi.org/10.1080/10848770701443577
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم: القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق