كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
بيوت في البودي وربما نيبالين
ما أكثر ما فكّر آسفًا أن والده كان قاسيًا، بل بالغ القسوة، عندما بدأ ينفذ مشروعه بهدم البيت الأيمن وبناء بديل، سيكون له سقف إسمنتي، وستتوزعه أربع غرف متراكبة، تتسابق أبوابها إلى الممر الضيق القصير. كان بدر -وهذا هو اسم الوالد- قد أحيل على التقاعد منذ سنة: دركي خيّال (شرطي صاحب حصان) أربعيني، ذو زوجتين، كبراهما تودع الثلاثينات، وله منها خمس بنات وثلاثة صبيان. والزوجة الصغرى تودع عشريناتها، وله منها أربع بنات، وهو مثلها في سباق إلى ذكرهما الأول.
كانت إذن أسرة كبيرة: خمس عشرة روحًا كما كان بدر يردد منتشيًا. وسيظل يردد منتشيًا، بل ومتباهيًا، عندما تصبح أسرته اثنتين وعشرين روحًا، وهو يودع خمسينياته. وقد كان له، كما لأسرته، أنه يفاخر بالبيت المديني الذي ليس في القرية مثله غير بيت واحد. وسيحضر البيتان في رواية «ينداح الطوفان» التي صدرت عام 1970م، ولكن دون أن يسمي الكاتب تلك القرية الجبلية -ارتفاعها 700 متر- التي تبعد من المدينة البحرية (جبلة) عشرين كيلومترًا.
والآن آن لقناع السرد بالضمير الثالث (الغائب) أن يتنحى، ليتقدم السرد بالضمير الأول (المتكلم). فأنا ابن الدركي المتقاعد الذي ورث المشيخة أيضًا عن أبيه. والقرية التي تنكرت في «ينداح الطوفان» فلم تحمل اسمًا، هي البودي التي دخلتها السيارة في منتصف خمسينيات القرن الماضي وستدخلها الكهرباء في سبعيناته، وكانت إقامتي فيها رهن الإجازات مثل والدي قبل إحالته على التقاعد.
وسط أكوام الكتب
في البيت الجديد انفردتُ بالنوم في أصغر الغرف على السرير الصغير الذي يشبه أسرّة العساكر. وكان قد لازمني منذ الإقامة في بيت من غرفتين في طرطوس، حيث احتفظ أبي بزوجته الجديدة وبناتها، ونفى أمي ورهطها إلى البيت العتيق الترابي في البودي. وسيرافقني السرير (العسكري) من بعد أثناء دراستي في الثانوية الصناعية في اللاذقية (1959- 1962م).
سوى السرير كان لي في الغرفة الصغيرة ركن تتوزع عليه كتبي بين الأرض الإسمنتية وكرسيين خفيضين متباعدين، يصل بينهما لوح خشبي عريض وعتيق. ثمّ ستتكوم المعلقات العشر وطبعات شعبية من دواوين مجنون ليلى وعنترة والخنساء وسواهم. وستتكوم، سنة بعد سنة، الكتب الضخمة لناصر الدين الأسد، وإحسان النص، وجودت الركابي، وأمجد الطرابلسي، وعمر موسى باشا، وصبحي الصالح، ومازن المبارك، والجرجاني، وعمر الدسوقي، وأنيس المقدسي، والغلاييني، وابن هشام، والقزويني، والسيوطي و… مما لا زلت أحتفظ بها بعد تجليدها فنيًّا. فهذه الكتب التي لخصتها جميعًا على دفاتر أحتفظ بها أيضًا، هي أبرز ما درست في قسم اللغة العربية في جامعة دمشق بين 1963- 1967م.
غير أن ما تكوم أيضًا، ولكن على الأرض بجوار اللوح الخشبي (الجامعي) كتب أخرى كانت لا تفتأ تغمزني وأغمزها كلما التقت نظراتنا ليل نهار، من الطبعات الشعبية للقصص التراثي الشعبي إلى روايات ألبير كامو «الطاعون»، وكولن ويلسون «ضياع في سوهو»، وهمنغواي «وداع للسلاح»، وسارتر «الغثيان»، ونجيب محفوظ (الثلاثية)، وحنا مينه «المصابيح الزرق» و… وبالطبع كتابٌ لجبران، وآخر لميخائيل نعيمة، وثالث لإحسان عبدالقدوس، ورابع ليوسف السباعي. وكانت هذه الفئة الأخيرة قد بدأت تلازمني منذ إقامتي في طرطوس أثناء الدراسة الإعدادية. وبين هذه الأكوام دسست قرابة ثمانين صفحة من محاولة روائية كتبتها بين أشجار المشمش العملاقة التي تتعانق يمين البيت الجديد، وعجزت عن إكمالها. كما دسست أوراقًا خططت فيها لكتاب عنوانه: «اللامنتمي في الأدب العربي» تيمنًا بكتاب كولن ويلسون «اللامنتمي». وعزمت على أن أبحر في الكتاب الموعود عبر عصور الأدب العربي، منذ الجاهلية إلى آخر ما قرأت آنئذٍ من قصيدة النثر في ميعة صباها: ديوان «أشياء عذبة» لصالح درويش.
كانت غرفتي تتحول يوم الجمعة إلى حمّام لأفواج الأسرة، فيُوصد الأباجور على نافذتيها، وأنأى عنها حتى تقرر والدتي متى يأتي دوري. وكنت، حين هدم والدي بيتًا وبنى بيتًا، قد حملت شهادة البكالوريا الصناعية على كتفي. ولأنه لا يستطيع أن يلبي طموح ابنه إلى دراسة الهندسة في جامعة دمشق -لم يكن طموحي أن أدرس الأدب العربي- اندسست في جحفله سنةً توّجتها بالثانوية العامة (الفرع العلمي)، وحملت البكالوريتين إلى قسم اللغة العربية في الجامعة؛ لأن ذلك لا يتطلب الدوام، ولا الإقامة في دمشق، وفي الآن نفسه حصلت على كنز الوظيفة: معلم وكيل في مدرسة القرية.
أطياف سكنتني صغيرًا
كان البيت العتيق يتوسط ما غدا إلى يمينه بيتًا إسمنتيًّا، وبيتًا ترابيًّا آخر إلى يساره، هو نصيب عمي من الإرث الذي ما كان ليتجاوز البيت العتيق لولا سنوات الدركي الخيّال التي أربت على العشرين، وتطوح خلالها في أرجاء سوريا. ولأن البيت الجديد أخذ يضيق بجحفلنا، ابتدأ الزحف على غرفتي، فأسرعت في الفرار مع كتبي إلى البيت الأيسر، فعمي عسكري لا يحضر إلا في إجازات متباعدة. أما البيت العتيق فقد أخذ الهجران ينال منه سريعًا. وكان جدي قد بنى هذ البيت قبل الحرب العالمية الأولى. ولما احتلت فرنسا البلاد، وثارت ضدها البلاد، كان نصيب قرية البودي قذائف المدفعية التي ستحرق واحدة منها هذا البيت الذي فرّ منه أهلوه كما فرّت البودي إلى مغائر الأحراج القريبة. وسوف يظل سواد الحريق يلوّن سقف البيت، بينما يضاعف السوادَ دخانُ التدفئة الشتوية المنبعث من حطب السنديان والبلوط ملء الحفرة التي تتوسط مصطبة (صالون) البيت، وهي شطره يسار الباب بارتفاع يسير.
من الأطياف التي سكنتني صغيرًا، فلا براح، ما جعلني أتهجد كبيرًا بما قاله الحارث بن عبّاد (570م): «أحنّ إلى تلك المنازل كلما/ غدا طائر في أيكةٍ يترنمُ»
كان الليل الشتائي العاصف، أثناء عطلة المدارس منتصف العام الدراسي، يزنّر حفرة النار بنا في دائرتين: الأمامية للجد وضيوفه ولحفيده المدلل الذي لا يناديه إلا محمد، ولا يُنادى في حضوره إلا بمحمد، وإن يكن اسمه «نبيل». أما دائرة التدفئة الثانية الخلفية فهي للنساء وللصغار. وتحت الجمر يتابع الجد شيَّ حبات البلوط: الدوّام، كستناء الفقراء، ومرة: البصل الصغير، ونادرًا جدًّا: بيضة أو اثنتين إكرامًا لضيف أو ضيفين. ولا تكتمل الوليمة الشتائية إلا بقرون الخرنوب وحفنات التين الذي جرى تيبيسه في الشمس وتخزينه في الصيف.
من الربيع إلى الخريف كانت والدتي وزوجة أبي وجاراتهما ينهضن فجرًا، وتتزنّر الواحدة منهن بمنجل قاطع صغير وحبل طويل. كنّ يتسللن إلى الغابة (الحرشة) القريبة، وتقطع الواحدة ما يربو على متر مربّع من الحطب. كانت أمي ترزم بالحبل حملتها وتنهض بها على كتفها، شأن الأخريات، ليبدأ السباق مع الشروق، تحاشيًا لحارس (حريشاتي) الغابة، ابن الحكومة الذي يصادر منجل المرأة وحملها ويغرّمها بخمس ليرات لا قِبَلَ لها ولا لذويها بسدادها.
قبل أن ينهض البيت الإسمنتي كانت أسمار الليالي الصيفية تتلوّن على المصطبة الخفيضة أمام البيت العتيق. وكان سحر السهر يتضاعف في الليالي المقمرة. أما في الليالي المعتمة فيكون لضوء اللوكس سحره أيضًا، فهو يشعشع أضعاف ضوء القنديل أو الفانوس. وإضافة إلى اللوكس من علامات التمدن، كان لنا أيضًا الراديو الوحيد في القرية. وكان أبي يخرج به من مكمنه إلى كرسي خفيض وسط المصطبة. كان الراديو يهيمن علينا وعلى الضيوف اليوميين من الجيران والأقرباء، وعلى الصبيان الذين ينبطحون على السطح، وتشرئب أعناقهم من عل، ويرهفون السمع لهذه التي تغني، أو هذا الذي يضحك من دمشق أو بيروت، فتترجّع الأغنية أو الضحكة في البودي!
مصاطب ممتلئة بالسهر
حول وأمام وخلف البيوت كانت الحواكير تزهو بشتلات الدخان إلى أن يتم قطافها وتهيئتها للتسويق، فتتحول حاكورة هنا وأخرى هناك إلى ملعب للشباب في السهرات. أما الصبايا فيتابعن مباريات الشباب في ألعابهم. وسواء هنا، أم في سهرات المصاطب أمام البيوت، تبرق المغازلات مواربةً أو جهيرة. وما لا أنساه ذات سهرة صيفية أن الحاكورة أضاءت عندما ظهرت شابة قيل: إنها (أميرة) القادمة من بيروت. وفي بيروت تعمل أميرة خادمة، لكنها في الحاكورة تسطع بشعرها القصير وتنورتها القصيرة وقامتها القصيرة أيضًا. وعندما انتبهتْ إلى الصبي الذي يلبس بنطالًا قصيرًا، وتلمع عيناه الزرقاوان، وتعبث النسائم بشعره الأشقر، بينما تأكلها نظراته، أومأت إليه، فبوغت وخاف، فأومأت ثانية ومدت ذراعها وضحكت، فدفعته أكفّ إلى حضنها. وأنّى للفتى أن ينام من بعد أن احتضنته أميرة وسألته عن اسمه وأوقفته إلى جانبها، ونسيت أصابعها في وعلى شعره!
بعد سنوات، أثناء عملي معلمًا في القرية بصحبة زميلين، تردد أن خادمة في بيروت وصلت إلى القرية المجاورة (العرقوب) التي يفصلها عن البودي الوادي ونبع المياه في قعره.
في مساء ذيوع خبر فريحة -اسم الخادمة- أسرع إلى السلام عليها المعلمون الثلاثة. وعلى المصطبة التي امتلأت بالسهارى، تصدر المعلمون، وإلى يمين أصغرهم جلست فريحة، فتوّهني عطرها ولهجتها اللبنانية. وانتبهت إلى صفّ شجرات التوت والدوالي أمام البيت، كما هو أمام بيتنا، فأحسست بالألفة التي كانت تملؤني فقط في بيت آخر من البودي، هو بيت السنديانة.
تنهض البودي صُعُدًا من الأسفل حيث البيت الإسمنتي الآخر الأقدم من بيتنا، إلى أن تبلغ القمة العامرة بالآثار قمة (نيبال) التي تعود إلى العصر الروماني، والشهيرة بـ(كتف البير)، نسبة إلى البئر المحفور في الصخر وسط المجمّع الروماني الديني. وما تقدم عن بيتنا العتيق تشترك فيه بيوت البودي. لكن منها ما يتفرد به مثل البيت الذي تظله سنديانة هائلة، تضرب في السماء ربما عشرين مترًا، وقطر ساقها متران ونيف. وتحتها مصطبة فسيحة، يتقاطر إليها الشبان عصرًا وعشيًّا، فللبيت سنديانة فاتنة أخرى، هي (سكّر) العشرينية المطلقة التي كانت وحدها من صبايا القرية تحمل جرة على كلٍّ من كتفيها إلى البيت.
سكّر رحلت، والبيت حلّ الإسمنت محله، لكن السنديانة لا تزال سامقة. ولا زلت أحوّر في قول ذي الرمة (696- 735م)، فأبدل اسم زينب باسم سكّر، وأنشد: «مررت على أطلال سكّر بعدها، فأعولْتها، لو كان إعوالها يغني».
في غير رواية «ينداح الطوفان»، حضر بعض ما تقدم، وذلك في رواية «هزائم مبكرة» التي صدرت عام 1985م. وبما أن الأوان الآن لم يعد للقناع السيري في الرواية، بل هو أوان السفور، أكتب أن شخصية أحمد في الرواية الأولى وشخصية خليل في الثانية هما ظل الكاتب الظليل. وفي الروايتين من بيوت البودي كثير. أما في رواية «تحولات الإنسان الذهبي» التي صدرت عام 2022م، فقد حملت البودي اسم (نيبالين) المشتق من قمة نيبال الأثرية. لكن البيوت تبدلت، وما بقي إلا بيت من الشعر أرسله الوليد بن يزيد (576- 744م): «منازل لو مرّت عليها جنازتي/ لقال الصدى يا حامليّ انزلا بيا».
المنشورات ذات الصلة
صيف إنجليزي… مشاهد مستعادة من الذاكرة
من المعهد البريطاني في بغداد رُشّحْتُ عام 1978م لدورة صيفية للغة الإنجليزية في بريطانيا. تُقامُ الدورات كل عام في كلية...
البترا بلاغة الحجر
البحر الميت، أولًا اليوم نبدأ الطريق إلى «البحر الميت». سائقنا «شبْسو» الأشقر القصير المتحفّز مثل قط أريب، يشرح لنا...
على حافات الألب السويسرية.. مشاهد واستذكارات
«إنه الليل: هي ذي الينابيع الفياضة ترفع صوتها في حديث مسموع، وروحي أيضًا هي نبع فياض.. إنه الليل: هي ذي أغاني المحبين...
0 تعليق