كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
صمتُ الجثة الغريبة بين الغرباء
(جملٌ يُطلُّ بعنقه الطويل، إلى مئذنةٍ على حافة الصحراء، بسَمْتٍ مهيبٍ كأنما يُصغي إلى النداء الربانيِّ الذي يمنحه العزاءَ والطمأنينةَ بعد رحلته الشاقة في بحر الرمال الغاضب).
هذه إحدى اللوحات التي تركها لي كهديةٍ الفنان العراقي الراحل (حَمّادي) الذي صارَ يوقعُ لاحقًا بِاسمِ (حمادي الهاشمي). أتذكره عبر هذه اللوحة كل صباح؛ لأنها معلقة في الصالة التي أتناول فيها القهوة والشاي وأستمع إلى الموسيقا مطلع كل يومٍ قبل الانطلاق إلى مكانٍ آخر. كان حمادي يعيش ضمن عراقيين كُثُرٍ في بلجيكا، وأتذكر أول مرة التقيته فيها بأمستردام حين أقامت جمعية الهجرة مهرجانًا شعريًّا، وكنت حينها مُقيمًا في (لاهاي) أو (دنهاخ). جاء إلى المهرجان جمْعٌ من الأصدقاء منهم سعدي يوسف، عبداللطيف اللعبي، فينوس خوري غاتا، ربيعة جلطي، عبدالمنعم رمضان. وكان حمادي قادمًا من بلجيكا القريبة، وقد كان بين الفترة والأخرى يزور عُمان كل شتاءٍ حيث تذكره هذه البلاد ببعض أجزاء العراق.
حمادي بشَعره الذي أطاله كثيرًا حتى أصبح يشبه شجرةً على الرأس، كان يحاول التحدث مع فينوس خوري باللغة الفرنسية، وهي تحاول الإصغاء إليه من غير أن تفهم القصد والدلالة. ذلك البَوْن الشاسع بين لغة أرستقراطية فرنسية لبنانية وفنان فوضوي لا يقيم وزنًا لقواعد أو ما شابهها. لكنّ الأديبة الكبيرة والحنونة دائمًا تصغي إليه وتخلط الحديث بلهجتها اللبنانية. أخبرني عيسى مخلوف في زيارتي الأخيرة إلى باريس أن فينوس بلغتْ حدًّا من وهن التقدم في العمر أطاح بمعظم قدراتها وجمالها الأخّاذ، حتى إنها صارت تستعجلُ النهاية الحتمية. ذات مرة خرجتُ من الفندق الذي كنا ننزل فيه ووجدتها أمامي بادرتني القول: «شو سيف صاحبك سعدي ليه عم يشرب قبل الفطور والقهوة؟» أجبتها: لا ست فينوس، لا أعتقد ذلك. قالت: كيف؟ قبل شوي شفت المشروب الأبيض اللألاء قدامه، تقصد المشروب الشعبي الهولندي… بعد فترة ليست بالقصيرة التقيتُ سعدي، لا أعرف بأي مدينة، ضمن الحديث الطويل قال منذ أيام كتبت رسالة إلى فينوس خوري بذاتها، الصديقة فينوس مطلعُها: «أنا صاحب الأبيض اللألاء، وأكملتُ الرسالة».
بشعره الطويل الأشيب
كان حمادي بشجرة شَعره الباسقة التي يعتني بها جيدًا يحضر يوميًّا الندوات والجلسات. ومرةً انبثق من العدم عراقيٌّ آخر أكثر غرابةً، أعرفه من الشام هو (أبو روزا وولف) كما كان يسمي نفسه في النصوص القليلة التي يكتبها وكان لاجئًا هو الآخر في هولندا. قال قرأتُ اسمك وجئت لأراك. بشَعره الطويل الأشيب المجدول كعقصٍ أخذ أبو روزا يتدفق بالحديث عن أيام بيروت والشام وتجربته في مجلة الرصيف، بمعية علي فودة ورسمي أبي علي، وكيف أن علي فودة أصابته قذيفةٌ أثناء الغزو الصهيوني الشامل على منظمة التحرير بفصائلها المختلفة، وفي مقدمتها (فتح) في لبنان آنذاك، وسقط فودة حيث أخذه الإسعاف الفلسطيني في منطقة الفاكهاني إلى ثلاجة الموتى، بعد فترة وجدوا فيه نَفَسًا ونبضًا وأسعفوه حتى استيقظ من غيبوبته. وتذهب الرواية إلى أنه قرأ خبرَ استشهاده في الجرائد وبعدها مات ميتةً حقيقية.
أتذكر أبا روزا في مطعم (اللاتيرنا) على جلسةٍ فيها مازات لنأكل وقت الغداء حين قال: «أنا نباتي لا آكل اللحوم». «طيب كُل حمص ومتبل وتبولة يا أبا روزا». أخذ يأكل ثم صرخَ صرخةً رهيبة: «شوفوا شوفوا، لحمة وسط الحمص مش معقول، أكيد المخابرات الأميركية والإمبريالية هي التي دست هذه اللحمة في الحمص لتدمير معتقداتي التي تحرم أكل اللحوم».
في رحلتي الأخيرة إلى باريس التقيتُ أدونيسَ وهو على ما أظن يكبرُ فينوس خوري غاتا، لكنه كان على نحوٍ جيدٍ من تماسك ذهني وجسدي وقد بلغ الخامسة والتسعين مثل الأديب الفرانكفوني الكبير صلاح ستيتية، الذي هو من أهم أصدقاء فينوس حيث رحل عن مثل هذا العمر، وقد كان ستيتية أيام هذه الندوة الشعرية في أمستردام سفيرًا للبنان في الأراضي المنخفضة، وألتقيه دائمًا وأستفيد من موسوعيته الفلسفية والأدبية العميقة. وكذلك مثقفةٌ أخرى كانت هناك سفيرة هي ليلى شهيد سفيرة فلسطين التي عرفتْ كيف تخاطب الرأي العام الأوربي بعدالة القضية، خطابًا عميقًا مقنعًا وكان لها حظوة بين مثقفي أوربا، وثمة نصٌّ مشتركٌ مع (جان جينيه).
وحده عبداللطيف اللعبي الذي التقيته في الرحلة الفرنسية إياها بدأتْ تستحوذ عليه هواجس الموت، فيمضي في مونولوج حول اقتراب النهايات، لكن ذلك لم يؤثر في وتيرة حيويته الخلاقة كتابةً ونضالًا من أجل قضايا العرب والإنسانية.
جملٌ أمام مئذنة
يصغي لأذان المغرب وزئير الصحراء
حمّادي في غيبوبته في البرزخِ الفاصلِ بين الموتِ والحياةِ، في المستشفى الذي زاره فيه الصديق نوري الجراح، وظل لدقائق يخاطب صمتَ الجثة وفي آخر نبضٍ لها قبل الرحيل، ربما قال له: يا صديقي، ما الذي أوصلك إلى هذا الحال؟ وما زلتَ لم تغادر فترة الشباب، ما الكوابيس التي مزَّقتْكَ إربًا في ليالي الغرب المدلهمة بالوحدة والصقيع؟
صمتُ الجملِ أمام المئذنة الوحيدة ورعب الصحراء، وهناك صمتُ الجثة الغريبة بين الغرباء.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق