كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
السودان: نحو عقد اجتماعي جديد
إن التاريخ الاجتماعي السوداني لم يكتب بعد بالطريقة التي تسمح لأي باحث أن ينظر بأدواته نظرة موضوعية غير متحيزة. إن الذي نقع عليه في غالبه تحيزات وانصراف أكثر للمنهج الوصفي الذي من عيوبه أنه يركز على الإجابة على أسئلة «ماذا؟» بدلًا من، ما «سبب؟» موضوع البحث. فالغرض الرئيس من المنهج الوصفي في الدراسات الاجتماعية كما هو معلوم وصف طبيعة التركيبة السكانية التي تُدرَس بدلًا من التركيز على «السبب» في وجودها المستمر. وهذا هو الضرر من تعظيم المنهجية الوصفية في البحث، والباحث الذي يؤسس تحليله على الوصف فقط، فإنه يقع في التعميمات ويعجز عن الوصول إلى حقيقة الارتباطات بين المنهج والواقع. وزعمنا أن المنهج الوصفي هو الأطغى في العمليات البحثية فيما يتعلق بالتاريخ الاجتماعي للسودانيين.
الهويات المتداخلة ودور الاستعمار
إننا نعتقد أن المدخل الصحيح لفهم طبائع التفكير العرقي عند السودانيين ينبغي أن يبدأ من البحث عن المصدر الذي تستقي منه الثقافة السودانية ثنائيتها، ولعل هذا المصدر يتعمق حضوره أكثر في مناطق غنية بالتعقيد، وبحاجة إلى مِلَاحَة جادة لفهم أسرارها. فلو اكتفينا بالتحقيب التاريخي لمعرفة مصدر الثنائية فانظر إلى مملكة سنار أو ما يسمى بـ(لقاء العرب بالفونج) وهو لقاء أنتج مقولات (الهُوِيَّة المَزِيج)، وصنع السؤال الخالد: أنحن عرب؟ أم أفارقة؟ والإجابة أننا كل ذلك وأكثر.
ثم جاء الاستعمار التركي، وصنع فينا ثنائية أخرى وهي (الحكم التركي في السودان)، وبدوره صاغ سؤال مشرقية السودان من إفريقيته، أو طرح وجوده في فضاءين؛ أولهما: متوسطي مشدود إلى الشرق الأوسط، والآخر: إفريقي يتمدد في الغرب الإفريقي. ثم جاء الاستعمار (الإنجليزي/ المصري «الخديوي») وصنع مؤسسات للحداثة محروسة بالتمييز والمغايرة؛ لينشأ المتعلمون في أحضان سؤال (الأصالة والمعاصرة) (الحداثة والتراث) وغيرها من مفردات معجم الثنائية السودانية.
حقيقة، لا يمكننا أن نتغاضى عن الدور الاستعماري الذي يتحمل الوِزْر في تفشي العصبية القبلية، نعم، الاستعمار ليس مؤسسة خيرية تقدم لنا خدماتها من دون أن يكون ذلك دليلًا لتحصين وجود المُستعمر، ولست من دعاة إلقاء اللوم في كل مشكل اجتماعي عندنا على دور الاستعمار، لكن أيضًا إذا أردنا الخلوص من الأزمات فإن أُولى خُطانا ستكون التعرف إلى مكامن الأذى، والاستعمار هو الأذى كله.
لقد صُمِّمت هذه البلاد على أسس « قَبَلِيَّة» حتى يسهل على المستعمر إدارتها، وقد استقر في روع المُستعمِر وهو يقلب النظر داخل جغرافيا شاسعة، وبالطبع مُكلفة، أنه بالإمكان إحكام القبضة الاستعمارية في السودان عبر إقامة شكل من أشكال الشراكات مع السكان والأهالي. ولأن دوافع الاستعمار تتلخص في حفظ الأمن أولًا، فقد تقرر منح القبيلة في السودان دورًا في الإدارة أو ما بات يُعرف بـ«الإدارة الأهلية»، ومنحها صلاحيات تنفيذية، وهذا ما عزز حضورها ومنحها سلطة اجتماعية استقرت بالتقادم، فالقبيلة وجدت لنفسها موقعًا سياسيًّا وتحت حماية المُستعمِر. وهذا بالضرورة مكّن للخيال القَبَلِيّ من أن يؤسس وعي المجموعة الإثنية أو التي تدخل في حِلفِهِ جغرافيًّا، ففي ١٨ أكتوبر ١٩٢٦م عيّن سير «جون مافي» حاكمًا عامًّا للسودان، وقد كان قبلًا حاكمًا للإقليم الشمالي الغربي بالهند. وقد قال سير جون في تقريره عن سنة ١٩٢٧م: إنه مقتنع بتوسيع الإدارة الأهلية وبتطبيق توصيات لجنة «ملنر» ١٩١٩م و١٩٢١م وقد خوَّل الأمر الصادر من مجلس الحاكم العام في سنة ١٩٢١م بأن يكون له تأليف «محاكم أهلية»، أي تؤلَّف من الأهالي في أي جهة، وأن يكون هناك نوعان من المحاكم: المحاكم العليا والمحاكم الصغرى. («السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية» (الجزء الثاني) – 1935م – ص 149- منشورات مؤسسة «هنداوي» 2013م).
تجهيز القبيلة بسلاح الإدارة والمال
لم يقتصر الأمر عند منح الأهالي سلطات قضائية لحفظ الأمن؛ إذ وسَّع الاستعمار هذه الصلاحيات حتى يكون للقبيلة القوة في إدارة مجتمعاتها، ومن أجل ذلك مدّها بالمال والسلطة. ونقرأ كيف وُسِعّت الإدارة الأهلية عن طريق السماح للمشايخ الأكفاء والموثوق فيهم بالرقابة على ميزانيات القبائل، وألفت جمعية تعاونية مَدَّتها الحكومة بالمال تحت إشراف محكمة أهلية في طوكر بإدارة المال المخصص للسُّلف الزراعية للزرَّاع في دلتا البركة. وقد جعلت قبائل البجة مع الهدندوة تحت مديرية كسلا بدلًا من محافظة بورتسودان. وفي نهاية ١٩٢٩م كان هناك (72) محكمة أهليَّة في شمال السودان سمعت أكثر من عشرة آلاف قضية. وفي سنة ١٩٣١م صدر قرار بشأن القبائل اللادينية في الجنوب. كما صدر قرار آخر في صدد المحاكم الأهليَّة في الشمال حل محل التشريع السابق. (السابق- ص 150).
نعم لقد رتّب الاستعمارُ السودانَ على أساس التكوينات القبلية، وبذا جُهّزت القبيلة بسلاح الإدارة والمال حتى غدت مؤسسة بالمعنى الاجتماعي؛ أي لها أدوار ووظائف تتجاوز حدود تكوينها الأصل، والسلطات التي مُنحت لزعمائها أثمرت في الوعي الاجتماعي العام، ولم يستطع العقل السياسي أن يتخلص من حضور القبيلة، أو على الأقل أن يوجد بدائل سياسية تحل محل هذه السلطات. حتى قانون عام 1970م القاضي بحل الإدارة الأهلية، كانت تعوزه المعرفة الثقافية بأوضاع السودانيين؛ لأنه ليس بكافٍ أن تلغي قانونًا وتستبدل به آخر من دون أن يكون القانون الجديد قادرًا على تلبية مشاغل المجموعات القبلية، وأن يقوم بالأدوار ذاتها التي كانت توفرها قيادة الزعماء المحليين في مناطق السودان المختلفة؛ لذا يذهب عدد من المراقبين إلى أن العنف الذي انفجر في دارفور يعود إلى غياب الإدارة الأهلية التي كانت تحفظ السلم الاجتماعي بين الرعاة والمزارعين.
نعم، يمكننا وضع كل هذا الذي سبق في سياقه الطبيعي لتطور المجتمعات، وليس بمستغرب أن تعيش مجتمعات قديمة معركتها مع التحديث، والسودان ليس استثناءً، لكن المجتمع السوداني لم تَجْرِ فيه تحولات جذرية وظلت مشكلاته مُرَحَّلة وبصلاحيات غير نهائية. فقد ظلت القبيلة تتصف بقوة السلطة على أفرادها ولم يستطع المثقفون/المتعلمون أن يقيموا نظامًا سياسيًّا وطنيًّا يلبي حاجات السودانيين، بل ظلت الأنظمة (عسكرية/مدنية) في حالة خِصام مع البعد الثقافي للمجتمع، واعتقدت أنه من اليسير حُكم بلد شديد التنوع مثل السودان من داخل القصر الجمهوري فقط، أو أن شكلًا من أشكال الفيدرالية النظرية يصلح لحكم مجتمع التنوع.
العنف وأزمة الهوية
إن الثنائية التي مارست أقسى أنواع العنف ضد المجتمع السوداني هي ثنائية (نيل/غرب) أو (الشمال النيلي) و (الغَرّابة) وهي ثنائية تنتمي إلى ما قبل ظهور خُطة محمد أحمد في طرد الأتراك، وقبل ذلك دولة العنف الديني للخليفة عبدالله. هذه الثنائية هي خلاصة مُركزة للعنف الاجتماعي في السودان، وبمقدورنا نسبة مظاهرها إلى الحقبة السنارية والتركية، وقبلها إلى تاريخ الدويلات والشراكات القبلية التي ظهرت في سودان القرن الخامس عشر- الثامن عشر. فما الطبيعة المعرفية لهذه الثنائية التي تُعَدّ المصدر الرئيس لكل أشكال الصراع في السودان؟
هي المشهد الأكبر لأزمتنا في الهوية بين (أبناء البحر وأبناء الغرب) وإذ أردنا الخلاص؛ الخلاص من العنف في مستقبل بلادنا، فإنه ينبغي العمل على إزالة هذا الورم السرطاني من الجسد الاجتماعي السوداني، وعلينا أن نطرح الأسئلة الحقيقية حول الصراع المؤجل والمكتوم بين (أبناء البحر) ويقصد بهم أبناء الشمال والوسط السوداني، و(أبناء الغرب) من كردفان ودارفور وجبال النوبة، وبالطبع شرق السودان حالة ينبغي دراستها، لكننا هنا نشتغل على ثنائية (شمال/غرب).
لكن السؤال، هل هذه ثنائية عنصرية؟ أم هي شكل من أشكال اللاتوازن الاجتماعي بين السودانيين جميعًا؟ وما هذه الثنائية إلا مظهر سطحي لأزمة أكبر. والسؤال كذلك، هل أبناء غرب السودان هم جماعة ثقافية واحدة؟ أي أنهم متساوون في الامتياز الهوياتي لكونهم يعيشون داخل إقليم واحد؟ أم إن هناك ثنائيات مخفية يعيشها غرب السودان نفسه؟ ثم هل أهل شمال ووسط السودان هم أقلية ثقافية تعيش حالة من التعالي العرقي والاجتماعي على بقية السودانيين؟ هكذا ضربة لازب.. هذه أسئلة يجدر بنا البحث فيها ليس فقط طمعًا في الإجابة عليها بشكل نهائي، وهذا ليس بشغل المعرفة، ولكن بحثًا في حقيقتها المعرفية قبل كل شيء.
وباعتراف صريح ينبغي أن يُقِر السوداني المحكوم بالقبيلة أن عَقد الزيجات من خارج القبيلة أو الجماعة الثقافية مواجهٌ بتعقيدات تنتمي إلى الخلفية العرقية والإثنية لمن يراد مصاهرتهم. هذا يحدث في غرب ووسط وشمال وشرق السودان؛ لذا محاولة اتهام طرف دون آخر بهذه «العائقة الاجتماعية» التي تقف أمام محاولات التمازج الوطني تهمة يعوزها الدليل وتحتاج إلى الاعتراف بأنه فعل نقوم به كلنا وجهًا لوجه؛ لأن متاعب هذا النوع من المصاهرة، والمصاهرة من صَهَرَ، وتقول المعاجم العربية: صَهَرَ الشَّحْمَ بِالنَّارِ: أَذابَهُ. أي حوّله إلى كتلة واحدة. نقول: إن الذي يقف حائلًا دون عمليات المصاهرة بين السودانيين جميعًا، يعود إلى هيمنة الموروث وتقليدية البنى الاجتماعية التي لم تتطور بالصورة التي تجعلها تتخلص من ذاكرتها الحرجة تجاه نفسها والآخرين.
فالمجتمعات التي تعيش فيها القبيلة أطول تعاني متاعب في الاتصال والتواصل، أي أن قنوات العلاقات بين قبيل وآخر تحتكم إلى قوانين لا تنتمي مباشرة إلى الموضوع. بمعنى أن رفض المصاهرة بين الشمال والغرب لا يرتبط إلا بسبب عِرقي مقيت، وهذا السبب يقوم قانونه على (وهم) النقاء العرقي عند بعض المجموعات الثقافية، وهذا النقاء هو حصيلة تراكم الهوية بالعرق لا الثقافة؛ لأن معامل العرق لا يصلح لبناء معرفة جادة بالهوية الفردية أو الجماعية، وذلك لأن العرق ليس اختيارًا، ولا يمكنه أن يعيش في حالة يباس دون الاتصال بالأعراق الأخرى، وبالتالي يستطيع أن يعيش مدة أطول داخل أي مجتمع، بمعنى أن الهوية العرقية (وهم)؛ لأنها تقوم على مفهوم خاطئ للذات، مفهوم يفترض أن اللون؛ لون البشرة، وجَعَادة الشعر، وطول الأنف، وغلاظة الشفاه هي محددات ثقافية، وفي الأصل هي محددات عرقية تنتسب إلى دراسات الاستعمار حول الشعوب، وهي تلك التي تربط بين العرق والوعي.
وقد عادت العلوم الاجتماعية اليوم لتسخر من مفهوم (الهوية العرقية)؛ فمصطلح العرق «مفيد جدًّا»؛ لأنه لا أحد يعرف بالضبط ما يعنيه، وأنه من الصعوبة تحليل نشاط المجتمعات على أساس عرقي، كما أن مفهوم المجتمع «الإثني» يتلاشى عندما يحاول المرء تصوره بدقة. (نهاية العرق (بالفرنسية) -كريستل مولر- الصفحات (15). ولذلك يظل مسعانا يتصل بقبولنا هذا الاختلاف لكن مع العمل على تطوير المجتمع عبر الكتابة والبحث والدراسة، أن نعيد تركيب المناهج بالصورة التي تكشف عن محددات تضامننا الاجتماعي وليس تعزيز الفوارق، فلا مصلحة لأحد في هذه الجغرافيا الغنية بالإنسان والموارد أن يظل أبناؤه في اقتتال على تخريبه لا إعماره، تخريب يستند على مشكلات زائفة ولكنها تجد التوظيف المؤذي. حقيقة إن السودان بلد يستحق منا أفضل مما نفعل.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق