كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الأدب والفلسفة، جدلية العلاقة وتنافس الحضور
لا يبدو أن أحقية «تمثيل الحقيقة» والتعبير عنها قد حسمه أفلاطون؛ عندما أقصى الشعراء من جمهوريته وجعل النطق بها، أو عنها، حصرًا على الفلاسفة. فعلاقة الفلسفة بالأدب قد تكون دافعها الحقيقي «المنافسة والغيرة»، وليس بسبب خشية أفلاطون من دخول الوهم وتفشيه في الفكر.
هذا هو الجديد في الطرح والمقاربة للحكم الأفلاطوني، الذي حاول تقديمه في مرافعته الطويلة الباحث في الأدب الفرنسي كاميل ديموليي في كتابه «الأدب والفلسفة، بهجة المعرفة والأدب»، الصادر حديثًا عن معهد تونس للترجمة، ومن ترجمة الصادق قسومة.
الفضاء المشترك
يعتقد ديموليي أن الانشقاق الذي جعل الفلسفة مقابل الشعر هو انشقاق قديم، وأنه عبارة عن خلاف موغل في القدم أعلنه سقراط في الكتاب العاشر من الجمهورية بقوله: «إنه سيصفي حسابه نهائيًّا مع الشعراء، وينفيهم من المدينة الفاضلة». أما جوهر نقد أفلاطون للفنانين والشعراء، كونهم لا يعرفون ما يقولون، ولأن الفنان هو في النتيجة «محاكٍ»، وإنتاجه بعيد من الطبيعة بثلاث درجات، حسب نظريته في المثل: الدرجة الأولى هي درجة الجوهر أو النموذج، والدرجة الثانية هي درجة النسخ أو «الأيقونة»، والدرجة الثالثة هي درجة «الصنم»، أو التلذذ المتخيل. هذه المحاكاة -حسب أفلاطون- تدخلنا ذلك العالم المكون من الصور الزائفة؛ لذا الرسام والشاعر هما ساحران صانعا وهم ليس إلا. لهذا يرى الباحث كاميل، في مقدمة كتابه، أنه آن الأوان للانتهاء من هذا الموضوع نهائيًّا، وعليه أتت فصول الكتاب محاولة لحسم هذا الجدل.
أول دحض لهذا الحكم الأفلاطوني المتعسف، حسب تتبع الباحث، أتى من أرسطو الذي عدّ جنس «المأساة» الأدبي فنًّا علاجيًّا، بينما الشكل العملي للرد، كان من السفسطائيين الذين كانوا يمثلون حكمة يُعبر عنها من خلال خطاب لا تمييز فيه ولا انفصال بين الفلسفي والشعري. وهذه الممارسة أسست لنهج فلسفي يراهن على أنه لا وجود مستقبلًا لأي خطاب فلسفي غير مشوب بالأدب وبتأثيرات الكتابة. ومن جهة أخرى، لا وجود لنص أدبي خالٍ من استعمال فلسفة ما أو أيديولوجيا معينة. وبناءً عليه، يصبح الأدب بصفته متصورًا مفهوميًّا، وبصفته ممارسة فعلية تاريخية تربط مصيره بمصير الفلسفة، ومن ذلك الالتقاء بينهما، يستمد الأدب جوهره.
وعن طبيعة هذا الالتقاء، والفضاء المشترك الذي يشتغل عليه الأدب مع الفلسفة، وعن ظروف الاقتراب والابتعاد -أحيانًا- بينهما، تأتي بقية فصول الكتاب، لتنوع على هذه الإشكالات، مستندة إلى شواهد من حقب زمنية مختلفة، مع ملاحظة مهمة يدعونا الكاتب للأخذ بها من أجل استكشاف تلك الأبعاد، وهي ضرورة أن يكون الأدب ملتفتًا إلى حركة الأفكار؛ فالحركات الأدبية الكبرى لا يمكن أن تُفهَم خارج الحوار الفلسفي في العصر المعني بالدراسة. ولتبيان هذه الإستراتيجية، يقدم الكاتب أمثلة عديدة، أحدها المثال «الباروكي».
فالحركة الفنية -الباروكية- التي بدأت في إيطاليا منتصف القرن السادس عشر، ثم انتشرت في بعض البلدان الأوربية الأخرى، وكانت تقوم على الإيغال في الزخرف، وعلى اعتبار أن الأضداد يمكن أن تكون منسجمة. فمنشأ هذه الظاهرة، يرجعه الكاتب، إلى أنه كان نتيجة لأزمة حقيقية في الوعي الأوربي؛ ساهمت في فتح الأبواب لعصر الأنوار، حيث تتمثل في الانتقال من تصور قديم للعالم قائم على رؤية عالم الفلك اليوناني بتوليمي (٩٠- ١٦٩م)، إلى تصور قائم على رؤية عالم الفلك الإيطالي غاليلي (١٥٦٤- ١٦٤٢م). أي الانتقال من رؤية خلق للعالم يمثل الإنسان غايته ومركزه، إلى قطيعة مع النظام الإلهي، كما يصف الموقف كاميل، وعندها صارت الأرض مجرد كوكب في كون لا نهائي، تأمله فيما بعد بليز باسكال برعب.
وبهذا المفهوم الجديد للكون والإنسان، ابتدع الباروكي، كما رأى دولوز، العمل الفني اللامتناهي، أو العملية اللامتناهية، حيث فتح هذا اللامتناهي عالمًا مرعبًا، مظلمًا، ولا شكل له. فلسفة الباروك قائمة على الإحساس بتدهور النظام الكوني، وبضياع القيم وبقطع العلاقة مع الله، وهذا الإحساس يتجسم في شخصيات الفن وينفخ الروح في الصور الكبرى المعبرة عن ثورة بروميثيوس. وهذا ما أدى إلى تراجع قيمة الأدب في جميع أشكاله من أثر ما طرأ على الفكر من تحولات.
تأثير متبادل
أما عن مناهج القراءة التي يمكنها فرز ما هو أدبي عما هو فلسفي، وعن وضع تصور للعلاقات التي تربط بينهما، فالمؤلف كاميل، يرى أن تذهب في اتجاهين: تأثيرات الفلاسفة في الكُتاب، وتأثير الكُتاب في الفلاسفة، التي كان تمظهرها على الأدب المقارن الذي أبرزها في ثلاث طرق: «مشاكل التلقي»، و«مسألة التأثير»، ودراسة «المقارنة بالمعنى الحصري». ولعل أعمال نيتشه كانت من أبرز الدراسات خصوبة المُطَبَّق عليها؛ وذلك لاعتبار فلسفته تجربة كتابة وحياة، وقد دُفِعَتْ إلى أقصى حدود العقل، وهذا ما جعل منه بطلًا أدبيًّا حقيقيًّا.
ثم أعقب ذلك طرائق عدة لقراءة النصوص من هذا المنظور: تأثير فيلسوف في كاتب، أو العكس. أو وجود عنصر فلسفي في أثر أدبي، أو ربما وجود فلسفة تكون فاعلة في الأثر وموجهة له، أو وجود مشهد فلسفي لعصر معين فيه يندرج النص الأدبي ويعكسه أيضًا.
لذا، عند النظر إلى العلاقة بين الفلسفة والأدب انطلاقًا من نص أدبي فإنها تطرح مسائل متعلقة بالمنهجية وبالقراءة المقارنة. ومتى نُظر إلى العنصر الفلسفي بصفته خطابًا غريبًا في النص الأدبي، يمكن أن تُسند إليه ثلاث وظائف جوهرية، كما بيّن ذلك الفيلسوف الفرنسي المعاصر بيار ماشيري، الذي ينقل عنه كاميل. وهذه الوظائف هي: أولًا «المرجعية الثقافية»، باعتبار أن الفلسفي يَظهر، بادئ ذي بدء في النص الأدبي في شكل مرجعية ثقافية، وذلك سواء تعلق الأمر بمفهوم، أو بإشارة، أو حتى باسم فيلسوف. والثاني هو «فاعل شكلي»، حسب درجة إشعاع الفلسفي في النص الأدبي، وفي هذه الحالة تكون للأطروحة الفلسفية وظيفة شعرية حقيقية. أما المظهر الثالث فيبرز من خلال «حامل رسالة نظرية»، الذي يتحقق عندما يقوى الإشعاع فيه حتى يتغلب على الأدبي ويجعل الأثر «حامل رسالة نظرية»، هي الوظيفة التي نجد خير مثال عليها في الروايات ذات الأطروحة.
أما عن «الفلسفة الضمنية» للأدب، التي هي بصدد التطور بالتوازي مع الفلسفة، كما يقول ماشيري، فهو يتبع دروبًا غير مفهومية، وينظر إلى المشاكل على نحو خاص. وبدل أن يجيب عن سؤال أو أن يطرح نظرية، فإنه يرسم خطوط حدوده، ويوجد مواد ينشر من خلالها الفكرة ويجعلها مدار تدبر. والحاصل إذن، أن الأمر متعلق هنا باعتبار الأدب بصفته فلسفة، وهذا ما ختم به ماشيري قوله بالاستنتاج التالي: «هكذا، فإنه من خلال كل ما يقوله الكُتاب أو يكتبونه، فإنهم يمارسون الأدب بهذا المعنى، أي الأدب بصفته تدبرًا، وذلك بحلوله في العنصر الفلسفي السابق لجميع الفلسفات الخاصة. فمن واجب الأدب إذن أن يطرح الفلسفي الذي في الفلسفة».
لهذا يستنتج الباحث أن الأدب هو فكرة الفلسفة وذلك بمعنيين: أولًا هو فكرتها في معنى أنها ما وضعه قبالته؛ أي أنها إبداعه أو ابتداعه. ثم إنها مدار دراسته. وهكذا لا يوجد أبدًا أدب إلا للفلسفة، وهكذا صار الأدب هو منبع الفلسفة. إنها تعود فيه وكأنها تعود إلى أصلها المَنسيّ.
كان ذلك عن الأدب، أما الفلسفة، فهي منذ أصولها الأولى كانت تستعير من أشكال متعددة للخطاب الأدبي، وهي الأشكال التي تعتبر أنها غريبة عنها: الشعر، الحوار، الأسطورة، الحكاية، القصة… إلخ. فالفلسفة إذن منذ بواكيرها كانت تتزيّا أساسًا بالخطاب الأسطوري. ومؤخرًا، جاءت الحركة الرومانسية، ونقد نيتشه؛ ليقدما محاولات جادّة في إعادة الفلسفة والأدب إلى أصلهما الشعري، حيث الفلسفة يمكن أن تكون ضربًا من الشعر المتحجر، أي خطابًا بواسطة الصور والمجازات، أو هو بمنزلة قصة مثلية نسيت طبيعتها التخييلية. وإن الفلسفة تتعرف إلى ذاتها في الوجه الآخر منها؛ في الأسطورة، وفي الحكاية، وفي الأدب. والمفارقة أن الفلسفة كانت تفكر دائمًا ضد هذه الأشكال من الخطاب والإبداع، والآن صارت تفكر معها، بشرط أن تكون خواتمها دقيقة وألّا تحجّر الأدب لكي تجد مجددًا تفوقها عليه.
يختتم الكاتب في فصله الأخير، بأن الحقيقة تُحدد بكونها ثغرة في المعنى، وعليه فاللجوء إلى القصيدة هدفه احتلال المكان الشاغر، وإن المآل النثري للأدب يرافق مآلًا نثريًّا للعالم الذي عملت عليه الفلسفة، وأن هذا العالم هو ما نقوله عنه، وهو متخيلنا؛ لذا يدرج باحثنا الفرنسي كاميل ديموليي، مقولة للأديب والناقد الأميركي المعاصر كراولي، ونختم بها: «هذا يعني أنه بدل أن نقرأ الرواية بوصفها تصويرًا لفلسفة، يجب أن نقرأ الفلسفة بوصفها تعبيرًا عن منطق قصة».
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق