المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

في مديح البريكولاج

بواسطة | سبتمبر 1, 2024 | فكر

استنبات

لا يتعلق الأمر، هذه المرة، بما عودتنا عليه أفلام الكارثة، تلك التي تنحو منحًى عنيفًا في رسم نهاية العالم بالدم والنار. فكوكب الأرض لم يعد صالحًا للعيش، ليس بفعل التصحر أو الاحتباس الحراري، ولا بسبب العَوز وندرة الموارد، وإنما لكونه قد ازدحم بالنفايات والمتلاشيات: أفقيًّا، إذ غَزَتْ آخر شبر، آخرَ فرصة لاستثمار الفراغ في إعادة بناء الحياة على الأرض، وعموديًّا لأنَّ مخلفات الاستهلاك المحموم قد بلغت عنان السماء: أشجارٌ وناطحاتُ سحاب من ركامِ ما تركتْه الحيوانات الثديية الناطقة قبل أن تغادر الكوكب.

ولأن البشر قد فطنوا للهاوية التي كانت تنفتح أمام إمكانية استدامة الحياة (في كوكب صار أشبه بعمل فني «ما بعد حداثي» ضخم إلى درجة يستبعد فيه المتلقي وينفيه!)، ولأنهم كانوا يرعون أمل العودة، لم تُعوزهم الحيلةُ: تركوا روبوتات تنكبُّ على التنظيف والفرز وإنعاش الفراغ. فجأة يصير الفراغ الذي لطالما أرعب البشر ودفعهم إلى مجابهته بالملء والترميم والمراكمة، يغدو هذا الفراغ أعزّ ما يُطلب، إنه «ما يمنح أسباب الوجود»، كما يعلمنا لاوتسو.

تجري أحداث فِلْم Wall-e (إخراج أندري ستاستون، 2008م) في المستقبل، وبالضبط سنة 2805. فِلْم يتبنى أطروحة إيكولوجية قِوامها المقاومة ضد الفظاظة التي تُعامل بها الطبيعة بدافعٍ من حمى الاستهلاك، وبباعثٍ من الزحف المستمر على احتياطي الفراغ. يكون البشر قد قضوا ما يقرب سبعةَ قرون، معتصمين بالمركبة الفضائية (Axiom)، وتحت رحمة روبوتات برمجَتِ البشرَ على عدم القيام بأي شيء عدا الجلوس والتطلع إلى شاشة تبث إشاراتٍ تغذي الأمل (وكأن الفِلْم لا يبارح واقع الحال اليوم!).

يحدث كل هذا ريثما تتحقق المعجزة: العثور على كائن حي، على علامةٍ تنبئ بأن استنبات الحياة على الأرض لا يزال ممكنًا. لا يسعنا، في نهاية الفِلْم، إلا أن نمحض الروبوت وول-إي (ومعه «حبيبته» الروبوت إيڤا) الإعجابَ والتقريظَ. ففي خضم انشغاله بالفرز والتصنيف سيعثر الروبوت على نبتةٍ (نفكر في حكاية «جاك ونبتة الفاصوليا السحرية» معكوسةً!) يتعهدها بالرعاية، كي تكون شيفرةً تُوجه المركبة للعودة إلى الأرض واستئناف الحياة مجددًا.

عبدالسلام بنعبد العالي

حالُ الروبوت وول-إي، نقيضُ البشر وقد تحولوا إلى كائنات كسولة، هي حال البريكولور. والبريكولاج نمط من العيش تشده إلى الشرط الحداثي أواصر قوية. ربما كان سيوران يفكر في هذه الوشائج حين كتب: «أن تكون حديثًا هو أن تُصلح ما أفسده الدهر». إلا أن البريكولور، بعيدًا من التراتبية التي تقيمها البداهة، والتي ينزل بمقتضاها منزلة الهامش قياسًا إلى المهندس، لا يقنع بأن يُزجّ به في مهام الرتق ورأب الصدوع. للبريكولاج، بما هو نمط تفكير، وبما هو التفكير كتابةً، «منطق» مضاد لعقلانية تصلبت فغدت تقليدًا؛ لذا فإن مهمة البريكولور تنتعش في الانفصال وبعث الفراغ والإقامة في الفتق. ولأنه كذلك، فالبريكولاج، في التفكير كتابةً، متحرِّرٌ من حمى إنقاذ العالم.

ينبه جيل دولوز في «الأبجدية» إلى أنه أبعد ما يكون عن صورة المثقف ذي الذاكرة القوية، فهو لا يكاد ينتهي من عمل حتى ينسى ما يتصل به من تفاصيل ودقائق وإحالات. وهذا النسيان هو ما يدفعه إلى «البدء من جديد» كلما انهمك في عمل جديد. على أن هذا التنبيه (وإن كانت «الأبجدية» نفسها «تكذبه» باعتبار شساعة اطلاع دولوز وقدرته على استحضار قراءاته)، أقول: إنه تنبيهٌ ينطوي على رؤية للكتابة تُجنبها الاعتداد بما يُنجز، وتفتحها على ما لم يتحقق بعد، على تعلُّم مزمن لا توقفه غاية، وعلى أسئلة لا تهدئ من روعها الأجوبة.

هذا النمط من فاعلية التفكير كتابةً، ومن الوقوف ضد احتجاز هذه الفاعلية في مكاتب الخبراء، المسلحين بالدقة والحسم من جهة، وبالأجوبة الجاهزة والخطاطات التي لا تترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها من جهة ثانية، هذه المقاومة ضد البلاهة هي ما يسند عمل الأستاذ عبدالسلام بنعبد العالي: عمل يصيخ لنبض الحياة المعاصرة، ويستمد فرادته من خفته وعدم ركونه إلى خطاطة تحدد المنطلق والغاية.

بذرةُ هذا العمل الدؤوب، في ورشة التفكير كتابةً، مستنبتةٌ عند بنعبد العالي منذ أطروحته «مجاوزة الميتافيزيقا» وصولًا إلى شتاتها في مؤلفات تنهض على بعث الدهشة، وإذكاء الفضول، والتحريض على إعمال الفكر في ما تم التفكير فيه مسبقًا. وإن كان من الضروري ربط هذه الكتابة بغايةٍ ما تبرر هذا الاختيار (على افتراض وجود هذه الغاية وهذا الاختيار)، فستكون إنقاذَ الكتابة من ركام المعرفة الجادة المتجهمة الذي يخنق صيرورتها، والعثورَ على «شيفرة» توجه الكتابة صوبَ إثبات الحياة. وها نحن أولاء نعثر على شبيه لوول-إي في الساحة الفكرية العربية!

شعرية ما يتبقَّى

إجابةً عن سؤال عنترة: هل غادر الشعراء من متردم؟ يضيء عبدالفتاح كيليطو في «الكتابة والتناسخ» الاختلاف بين هوميروس والشاعر الجاهلي. الأول يستمد الإلهام الشعري من الأولمب، والثاني يلفي نفسه أمام تراث سابق عليه، أمام الكلام الشعري وقد استنفده الأسلاف. كتب كيليطو: «نعلم أن هوميروس يتوجه، في مستهل الإلياذة، إلى ربات الفن طلبًا للمعونة. أما عنترة فينادي «شعراء» الماضي وصوت السابقين، الصوت الوحيد الذي، خارجًا عنه، لا يتبقى شعر ولا ما يمكن أن يقال». وفيما يشبه اكتشافًا نراه بعيدًا ويراه كيليطو قريبًا يقرر: «في مستهل القصيدة، بل عند بداية الشعر، هناك اهتمام بالتكرار والتقليد. في فجر التاريخ العربي نلفي رجوعًا إلى فجر سابق، إلى أصلٍ وأساسٍ، فجرٍ مضى وامحى (ولم يخلف إلا بعض الآثار)، ولكنه، ما زال بالنسبة لعنترة، حاضرًا ينبض بالحياة. شعر عنترة الذي نميل اليوم للنظر إليه كشروق، كان انحدارًا نحو المغيب».

الآثار التي خلفها القدماء (أطلالهم التي تلتبس ببقايا ديار الحبيبة!) هي ما يتبقى لدى الشاعر حين تنغلق أمامه إمكانية الإتيان «بما لم تستطعه الأوائل». وفي مضمار قرابةٍ تَشدُّ البريكولور إلى الشاعر، لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من إغراء المجاورة بين هوميروس والمهندس (من جهة كونهما يصدران عن علوٍّ ما يُلهم الأول تأسيسَ البدء الشعري، ويوحي للثاني بالقدرة على التنبؤ بالمآلات واستشراف الغايات)؛ ومن غوايةِ المواءمة، بالمقابل، بين عنترة والبريكولور (من جهة كونهما ينشغلان بما يتبقى، بما سبق أن قيل، بإدامة حياة الكلام اقتباسًا ونسخًا وتكرارًا). أما وقد أذعنّا إلى هذا الترقيع الذي يستوجبه «منطق البريكولور»، فإن بنعبد العالي، حين يُصرِّح باحتراف البريكولاج، لا يني يقرُّ بنسبه إلى شعريةٍ ترى في التفكير «عملًا لليد»، كما ينبهنا هايدغر، وتؤسس لكتابة تحتمي بحيوية التكرار كي تنقذ نفسها من التقليد.

البريكولاج وسياسة الفراغ

ثمَّة كُتَّاب لا تُعطيك كتاباتُهم أيَّ شيءٍ عنهم، عن حِرفهم المحتملة لو لم يكونوا كُتَّابًا، بينما آخرون في وسع المرء أن يقع بسهولة على حرفهم، على ما جنَّبتهم إيَّاه الكتابة. هذه الفئة لا تجد غضاضةً لا في الاعتراف بأقصى أمانيها، ولا في أن تجد لها عِوضًا في الكتابة. إنَّ حرفهم المجهضة (هل هي كذلك؟!) تجد لها تحقُّقًا في الكتابة، وكأنَّها قدرٌ لا رادَّ له.

بنعبد العالي بريكولور (خلوُّ من أيِّ معنى سلبيٍّ، نشدِّد)، نقول قولنا هذا لأنَّ الرَّجل يتدخَّل «فيما لا يعنيه». البريكولور يتجرَّأُ على كلِّ شيءٍ، ديدنه أنْ يضع يده في كلِّ شيء؛ مرَّ عليه هذا الشيء أم لم يمر، الأمر سيَّان. إنَّه لا يهابُ الأشياء، يأتيها دومًا كأيِّ ضليعٍ؛ لا يصيبه شكٌّ ولا خوفٌ. يتعلَّم مع الأشياء، إنَّها لوحُ «المْعَلَّم» وورشة التدريب في آنٍ معًا. معلموه الأوائل هي أشياؤه، هي محاولاته.

كأيِّ بريكولور؛ يضع بنعبد العالي يده على الأجناس كلَّها، لا لأنَّ الرجل تعوزه الحيلة أو لقلَّة ذات اليد، بل أساسًا لتقويض تلك «الجدران»، التي ما تنفك تُرفع في وجه الكُتَّاب، وكأنَّ الكتابة لديه هي تجربة الخوض في «ما لا يعنينا». الكتابة التي لا تقول إلا فيما تفهم.. ما فائدتها؟! أفكِّر أن بنعبد العالي يطأ أراضي يراها بعضٌ «مما ملكت أيمانه»؛ لا للتدليل على «علو كعبه»، ولا للبرهنة على أيِّ موسوعيةٍ من أيِّ نوعٍ، إنَّما ليُروِّع من هدوء «ثقافة الاختصاص». بريكولاج بنعبد العالي استعادة، بمعنى ما، «للمشاعة» في الكتابة.

ومن ناحية أخرى، بنعبد العالي لا يُفرِّط في براغيه، في اقتباساته. إنَّه كالبريكولور يعود إليها دومًا؛ يُلمِّعها، يُبدِّل مواقعها، يقلِّصها آنةً، ويُمدِّدها آنةً ثانيةً، هذه العمليات تُمليها الحاجة ومفاجآت المعالجة.

في هذه الورشة، الاقتباسات لا تثبت على حال، إنَّها منذورة للتَّحول، هذا التحوُّل لا يلحق «جلدها» وحسب، بل مواقعها كذلك. الاقتباسات، في هذه الكتابة، لا تظلُّ هي نفسها، بل تغدو دومًا شيئًا آخر، إنها مثل أشياء البريكولور التي يبدِّلُ دومًا «خِلْقتها». لكن، هذا التحول ليس دليلًا على أيِّ خيانةٍ من أيِّ نوعٍ، بل هي برهنة على أن الترجمة تتمُّ دومًا في جوٍّ من الندم الفكريِّ، إنها ميدان السُّخط لا الرِّضا، التنازلات لا الادِّعاءات. فضلًا عن ذلك، هذه الاقتباسات دائمة الترحال، دَيْدَنها التقلب في المكتوب، هذا التَّقلب ليس أمارةً على العوز والندرة، وإنما هو إيمان بأن الكلام لا يكشف عن نفسه إلا في تكراره. هذه الاقتباسات هي كأشياء البريكولور التي تغترب عن «بلدها» لتتجدَّد، لتربح حياة أخرى. التَّكرار الذي يقتل أشياء البريكولور هو، ويا للمفارقة، ما ينفخ فيها الحياة. بنعبد العالي يدبر أمره بما «يقع تحت يده»، لا يذهب بعيدًا، إنَّه يعالج كأيِّ بريكولور ما استجد بما في «صندوق براغيه». البريكولاج هو فنُّ الكفاف والإنفاق من الإقتار.

في هذا السياق دومًا، يحيط بنعبد العالي مصادره بالكتمان. إنه كالبريكولور الذي تجتمع لديه الأشياء، ولا علم له أنَّى وكيف جمعها. إنها هنا وكفى، إنها ملك له، يدوِّرها كما يشاء. إن جدواها لا تتبدَّى في الأمكنة التي اجتُزِئَتْ منها، ولا في الأسماء التي «ابتكرتها»، وإنما في الدور الذي تشغله، في العلاقات التي تنسجها.

البريكولور لا يحتقر «صغيرًا في مخاصمةٍ». إنَّه لا يجد غضاضةً في الاقتراب من الآيل للتلاشي، ومن «توافه» الأمور. وما البريكولور بظلَّام للأشياء. في هذه الورشة، لا شيء يُزدرى، إنه لا فرق بين هذا وذاك إلا باستعداده للتأقلم. أليس هذا حال بنعبد العالي؟! ألا يعتني في ورشته بالأشياء «الصغيرة»، بالموضوعات «البسيطة»؟ إنهما معًا يوقظان الغرابة في ما يظهر «سخيفًا» ولا قيمة له. البريكولاج قدرة على استلال الغرابة التي تطويها الألفة، وجرأة على فتحِ المسارب التي ضيَّقتها العادة، إنه استثمارٌ في احتياطي الإمكانات التي يختزنها المنسيُّ والمهمل والآيل للتلاشي؛ لذا فإن البريكولور ينطلق دومًا من أن هناك فرصة «ما قبل أخيرة» لمنح حياة أخرى لما «يقع تحت يده». ولعل هذا الـ«ما يقع تحت يده» هو ما ينقذ مهمة البريكولور من العلوِّ على الواقع والركون إلى التجريد، كما يحدث مع المهندس.

البريكولور فكَّاكٌ، ليس معناه أن البريكولاج هو دومًا صيانةٌ وإصلاحٌ. إنه ليس دومًا «خيرًا» كلَّه، يبثُّ الأمل في الميؤوس منه، ينفخ الحياة في الموتى، يكرِّم «عزيزَ قومٍ ذل». يحدث أحيانًا أن يُجهِز على الأشياء، أنْ ينزل عليها بضربة على «الرأس». البريكولور «يحيي ويميت، وبيده الأمر». أفكر أن لا شيء يسعد البريكولور، لا «الحياة الأخرى» التي يعطيها للأشياء، ولا تلك الدراهم التي يلقيها الناس خُفيةً في جيبه، أقول: إنَّ ما يسعده هو بُرغيٌّ نسي أنْ «يرده إلى أهله»، وقطعةٌ أبان الإصلاح أنَّها «زائدة». ومن ناحية أخرى، أفكِّر أن البريكولور لا يسعده لمُّ الأشياء، ولا ردُّ «شرايينها إلى مكانها»، وإنَّما فكُّ عُراها، جزُّ «رقابها»، وقدُّ «مفاصلها».

بينما يعود آخرون إلى نصوصهم لِرَتْقِ ما يبدو متصدِّعًا، ولشدِّ ما يبدو مهلهلًا، يعود بنعبد العالي إلى نصوصه لِيُفَكِّكَ وثاقها، ليقطعها «إربًا». في هذه الورشة، النُّصوص ما تنفك «ينقطع عقدها»، إنَّها تغدو شيئًا آخرَ، شذرةً، وكأنما لا يرضيها إلا «الرشاقة»، لكن، هذا «التَّنحيف» لا هو جريٌ وراء أيِّ حكمة من أيِّ نوع، ولا هو أمارة على أيِّ انسداد في الأفق أو أيِّ «عقم في الأرحام»، إنما هو دعوة إلى الكلام. النص الجيد لا يقول، وإنما يدعو إلى القول. هذا التشتيت هو قوةٌ نسبةً إلى تماسكٍ وهميٍّ ووهم التماسك. مقابل كتابة متماسكة؛ لا تترك فراغًا دون أن تردمه، ولا شرخًا دون أن تجبره؛ تقوم عند بنعبد العالي كتابة تَعْرق في «ابتكار الفصل»، و«فلاحة» الفراغ. وكأنَّ الكتابة هنا هي معرفة الفصل (لا حاجة إلى الوصل كما يوصي قدماؤنا). في عالم مُتْرَع بالكلام، بالامتلاء، لا يتبقَّى للكاتب إلا التدوير والاقتصاد. كتابة بنعبد العالي هي، من هذه الناحية، كتابة «صديقةٌ للبيئة»، كتابةٌ ترحم من في الأرض.

البريكولور يقتحم منازل الناس، في هذا الاقتحام لا يلزم صالة الضيافة، بل يدخل إلى المطبخ وكأنه ابن الدار، المطبخ الذي نتحايل دومًا لكيلا يتلصَّص عليه الغرباء، يؤذن له بالدخول إليه. ثم إنه يدخل في كامل «وسخه»، ويفرش فيه كل «فوضاه». البريكولاج وسخ، الهندسة نظافة. هذا الوسخ لا يقتل، وإنما يمنح جرعات الحياة.

بينما لا يكتب آخرون إلا داخل مكتب مكيَّف، وعلى طاولة منضودة؛ يكتب بنعبد العالي أنَّى كان. أتخيَّل دومًا طاولته تكتظ بالمسودات وبأصناف من المقصات والبراغي. إنها على خلاف طاولة ديكارت الممسوحة، وما ذلك إلا لأن الكتابة لا تُثبت معنى أول، لا تنطلق من فراغ، بل تسعى إلى بعثه فيما يوهم بالامتلاء، ولأن النص الذي ينتهي إليه المؤلف لا يعدو كونه نصًّا ثانيًا يُكتب بأيدٍ متعددة. لا يتعلق الأمر، والحالة هذه، بذات هي مصدر للمعنى، ولا بترتيب قِيميّ للمعاني (كما شدد الفكر المعاصر وهو ينحو باللائمة على التصور التقليدي للمعرفة وبناء المعنى) وإنما يتصل بذات تعي أن العالم، ومعه المعرفة والمعنى، مفعول للعلاقة. إن كان هناك درس يعلمنا إياه البريكولور فلن يكون أبعد من «احتراف قياس المسافات» وجس الجرح المزمن المخترق للكتابة، والإقامة في البين بين، أو لنقل مع إدوارد غليسان، لن يكون بمنأى عن «شعريةٍ للعلاقة».

بلغني أنَّ الأستاذ بنعبد العالي كان، في زمان ما، يكتب في المقاهي لا في البيت. ها هو الهدوء، بما هو دمغة تؤمِّن لهذه الكتابة المغايرةَ، تطلع من فضاءات صاخبةٍ. ها هو الكفاف اللُّغوي، بما هو سمة مائزة لهذه التجربة، تطلع من فضاءات تملأها «منويات مهذارة».

حين يكون بنعبد العالي مطالبًا بتبرير ممارسته للبريكولاج، لا يجد حرجًا من نعتها بـ«الوقحة»، ولا ينتج خطابًا «نظيفًا» يبرر به هذه الممارسة، بل يمعن في إذكاءِ اللبس عندما يستعين على هذه المهمة «الشاقة» بالاقتباسات والاستهلالات: يستعين بالبريكولاج نفسه للنظر في ممارسته البريكولاج.

السَّير دومًا باتجاه النَّجمة

من رحلات السندباد نتعلم أن الارتحال تَجدُّد وولادةٌ مستأنفة، ونتعلم أيضًا أن المترحِّل منذور لتدبر أمره، وللتخلص من مآزق غالبًا ما يخطو إليها بنفسه مُجتذَبًا إلى الخفي والمجهول. ينجو السندباد بفضل التمارين التي أكسبته القدرة على تمديد رحلاته، وينتهي إلى أن «المخاطرة جزء من النجاة». السندباد هو المؤسِّسُ الأول للبريكولاج، وهذا ما يؤهله كي يغدو «شخصية مفهومية» تنسجم وفرادة بنعبد العالي.

تفكيك الثنائيات الميتافيزيقية، والحرصُ على مجاوزة المنظور «المانوي»، من صميم ما تسهر عليه الكتابة بما هي مقاومة، إلا أن تفكيك بنعبد العالي هادئ، أو بعبارة أخرى تفكيك لا يترصد المُفكّك. لا يفكك بنعبد العالي على طريقة صاحب «أجراس»؛ لأننا «نشعر مع دريدا بنوع من الانتصار على النص المقروء»، بل يؤثر أن يهتدي بصاحب «المقابلة اللانهائية» (L’entretien Infini) حيث «نلمس عند بلانشو نوعًا من التواضع الفكري، ونحس بأن هناك، دومًا، صوتًا ما قد تقدمنا، وبأن مسألة الفكر هي خصام عشاق، وبأن الأمر يتعلق أكثر ما يتعلق بالعناية والرعاية اللامتناهية بما تقدم قوله». ويبدو أن بنعبد العالي يمارس هذه «الصيانة»، أثناء التفكير كتابةً، بملامح لا يعرف إليها التجهم سبيلًا. البريكولور غالبًا ما تعلو وجهَه سحابةُ ضجرٍ مما هو منكبّ عليه، قلما نتخيله مرحًا، أما زيارة ورشة بنعبد العالي فتَعِدُ بالانشراح، وتنفتح على إمكانية أن تتحول إلى لعب خلاق ينخرط فيه القارئ: اللعبُ بالعلامات وبالنصوص وخلطُ الإحالات، واللهوُ بالاستطرادات وتثمين «القفز والوثب» من موضوع إلى آخر، وتشييدُ الجسور التي لا تفضي إلى غير الجسور.. ينضاف إلى ذلك ما تشف عنه نصوص بنعبد العالي من تشديد على مزيةٍ تُؤجّج الرغبة في اللعب، ويندر أن نصادفها في الكتابة الفلسفية العربية: التشويق!

نقرأ في قصة لبورخيس:

«يُوكِل رجل لنفسه مهمة رسم العالم. وخلال سنوات يعمر الفضاء بصور الأقاليم والممالك والجبال والبحار والسفن والجزر والأسماك والغرف والأدوات والنجوم والخيول والناس. وقبل موته بقليل، يكتشف أنّ ما ترسمه تلك المتاهة الطويلة من خطوط هي صورة وجهه».

شتاتُ البورتريهات التي يرسمها بنعبد العالي للبريكولور ولأدواته: بورتريه للمسوَّدة حيث لا تراتبية تتحكم في تصريف المعنى، وحيث الشطب والحذف من صميم فعل الكتابة بما هي مكابدة وجهد، وبورتريه للممحاة كأداة تلغي ما قد يتهدد الأسلوب من تصلب، وبورتريه للمقص بما هو آلة اجتزاء وتشذيب. هذا الشتات حين ينظر إليه من مسافةٍ، وحين يتعود القارئ على الابتعاد منه بغرض الاقتراب مما ينتظمه من «خطوط»، هو وجه البريكولور، هو وجه بنعبد العالي.

«هكذا يبتكر اسمًا لوصفِ ما لا نكاد ندركه بسبب قربه الشديد»، بهذا الضرب من التكثيف يمتدح روديغر سافرانسكي في سيرة «معلم ألماني: هايدغر وعصره» اقتدار فيلسوف «الغابة السوداء» على تسمية الغريب المقيم في الألفة، ذاك الذي يحتجب من شدة انكشافه.

مع بنعبد العالي تصير الأشياء التي «تقع تحت اليد» محطَّ مساءلة وتثوير للإمكانات التي تختزنها وتحجبها. البريكولاج هو هذا العثور السعيد على التسمية/ الكنز دون سابق تصميم، وذلك بسلوك اللامباشَرة والطرق الملتوية والدروب التي لا تَعِدُ بغير السير الحثيث في اتجاه النجمة.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *