كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
انكسار الأحلام والصداقات
لست أدري لم استهلّيت صبيحة هذا اليوم الحزيراني القائظ، باستذكار ثلاثة أصدقاء كنت أحاورهم، في السنة الجامعية الأخيرة، في خياراتنا الدراسية المحتملة القادمة. كنا نطوف بالكلام طويلًا، ونحطّ على جامعات باريس التي تعلّم فيها أساتذة الفلسفة الذين علّمونا، ووضعوا في أسماعنا أسماء تثير الفضول: بول ريكور المشغول، آنذاك، بقضايا الخير والشر قبل أن ينجز سفرَهُ الكبير: «الحكاية والزمن» في أجزاء ثلاثة. وفرديناند ألكيّيه المهجوس بقضايا الإنسان الداخلية التي تبدأ بالعزلة والاغتراب وتنتهي بالموت، وغاستون باشلار، الأكثر شهرة في اختصاصاته المتعددة، التي تبدأ بفلسفة الفيزياء، ولا تنتهي «بعلم نفس النار».
لم نكن نعلم أكان مقصدنا محاكاة أساتذتنا الجامعيين، أم كسر الطوق والالتحاق بشهرة الفلاسفة الفرنسيين، إرضاء لطموح شريد صادق النوايا ساذج الحسبان؟ والأرجح أنه كان في أرواحنا سرب من الأحلام، ورومانسية معرفية تلغي المسافة بين الممكن والمرغوب. وكان في تلك الأحلام ما يملؤنا بالبهجة.
وعلى عكس هذا اليوم القائظ كان صباحي المبكّر، يبدأ بانتظار عصفوريْن أسوديْن بالغي الصغر، لا يتجاوز حجم الواحد منهما «حبة الجوز» يحطّان، عادة، على وردة حمراء، عالية العنق، بحثًا عن الرزق المتاح واستباقًا لغيرهما من الطيور. كان في العصفورين ووردتهما ما يعطي الصباح مذاق الندى والتفاؤل، فإن أخلفا الميعاد بدا الصباح منكمشًا متكسّر الأوصال.
مَنِ استذكرتهم من الأصدقاء القدامى ثلاثة، لم يقع عليهم نظري منذ عقود، أرجعوني إلى فترة منقضية كنا فيها نتبادل رسائل مكتوبة، بالشكل التقليدي، رسالة وبريد، نعبّر عن الشوق ونتمنى النجاح ونمر على جديد الكتب. اجتاحني هذا الصباح حنين إلى مكان، حنين بلا وعي، يذكّر بالحب والورق وغبطة استلام رسالة أو إرسالها، وملامح وجوه تخادع الذاكرة، وأصداء أصوات تقترب وتبتعد، وحركات بالعينين واليدين لم أعتقد مرة، أنها ستغدو أطيافًا أو قرينًا للأطياف.
تذكّرت أنّ أقربهم إلى نفسي ضاق بعالمه العربي وحمل ضيقه وهرب إلى السويد، باحثًا عن فرج مؤجّل. تمنَّيت له الفرج وأجّلت الكتابة إليه، وماطلت في التأجيل، بعد أن طلب مني أكثر من مرة اللحاق به إلى «بلاد الراحة». قلت في نفسي: الذي لا يظفر بالفرج في بلاد العرب لن يعثر على الراحة في بلاد الغرب؛ رغم أنني كنت، وما زلت، مفتونًا بكتاب برتراند راسل: «حكمة الغرب».
الذي ارتحل إلى السويد كان طالبًا مجتهدًا، شحيح البصر أو خافت النظر، أنجز دراسة مرموقة عن: اليوتوبيا بين ماركوزه وابن عربي، ربما يرفع عقيرته منشرحًا وهو يتحدّث عن هوسِرل ورومان إنغاردن، ويتفاخر بأنه قرأ الأخير، أو «استأجر» تلميذًا يعينه على النظر والقراءة. رأى في كتابتي الصحفية مرة إضاعة للوقت وتبخيسًا لاغتراب ماركس، الذي كان موضوع دراستي الجامعية. ونصح بقراءة جادة للمدينة الفاضلة «بين الأخير وفالتر بنيامين». وكان يعتقد أن دور الفلاسفة، وهو منهم، اقتراح مدينة فاضلة، أو «يوتوبيا»، تواجه الزمن وتظل لطيفة الإجابة. أجبته: إن «شروطنا» متقشفة في الفلسفة والاقتصاد والسياسة و«شرح حرف الواو»، أجابني: إن شجاعة الفلسفة تروّض ما لا يروّض، إلى أن روّضته «شروطنا» وبحث بجهد عن «صحيفة» يكتب فيها. لم يعثر عليها، وارتحل إلى «بلاد الراحة»، ولم يصبح مرتاحًا.
هاتفني قبل سنوات وطلب أن نكتب دراسة مشتركة عن الفينومينولوجي البولوني رومان إنغاردن، وأن «بلاد الراحة» تتكفّل بمكافأة وافية، سألته متضاحكًا: ولكن ما تعريف «المرموق» في فلسفة السيد إنغاردن؟ كفَّ عن مراسلتي وتابع حياة مرهقة، تأتلف مع متاحف الكوابيس، وتزجر الأحلام المؤجّلة.
أطروحة لم تتم
الأول الذي ارتحل إلى السويد مؤتلف مع عادة الرحيل، كان فلسطينيًّا، بدأ دراسته الجامعية في دمشق وأكملها في القاهرة. أما الثاني فكان قرويًّا من ريف دمشق، عُرف بمثابرته النموذجية، وبصوته العالي، وعينيه الجاحظتين، وبأناقة تترجم قرويته بلا أخطاء. يتفاخر، بلا اقتصاد، بعنوان أطروحته الجامعية القادمة: «المنطق المتعالي بين هوسِرل وكانط»، وبالأستاذ بول ريكور الذي وافق على الإشراف على رسالته، ويجهر مرتاحًا بعنوان دراسته، ويشدّد على الكلمات والحروف ويقول «المنطق الترانسندنتالي»، فالصفة بهذا الشكل أكثر فخامة. فإذا ملأه الرضا قال: سيماهم في وجوههم، وفي عنوان أطروحتي ثلاث علامات فارقة: «علمان من أعلام الفلسفة وصفة تجمع بينهما لا يعرف معناها إلا قليلون».
التقيته بعد سنوات وسألته: ماذا فعل الزمان «بمنطقه» الذي لا يعرف معناه إلا القليلون؟ شدّ ملابسه وكان أنيقًا كما كان، وأشعل «سيجارة غلواز»، سيجارته الفرنسية المفضلة، وقال: كما تعرف أنا لا أريد بحثًا تجاريًّا، أو مدرسيًّا ضيّقًا، ولا أكاديميًّا ملفّقًا، فما أسعى إليه إضافة فلسفية لموضوعي الفلسفي؛ لذا ذهبت إلى لندن، سلخت من عمري عامين في تعلّم الإنجليزية «(تبيّن لاحقًا أنه صادق فتاة إنجليزية في باريس وقَطَرَته معها إلى بلاد السيد بلفور) أجبته: إنك لا تزال مخلصًا: لموسوعيتك المشتهاة». أجاب: إنّ لموسوعيتي الفلسفية بحثًا يطول!».
التقيته ثانية بعد أربع سنوات. وقبل أن أتكلّم أسهب في تبيان أفكار أستاذه «ريكور» وأخلاقياته التي تمنعه أن يكون عنصريًّا كبعض الأساتذة. وحين بدرت مني إشارة إلى أطروحته الشهيرة أخذ «بذؤابة الكلام»، وهي من تعابيره، وأجاب: لا شك أنك لا تزال تعرف هاجسي الموسوعي الذي يجعلني مختلفًا عن الطلبة التقليديين. لهذا تعلّمت الألمانية، لغة هوسِرل وكانط، وسافرت إلى ألمانياـ لم يذكر مدة الإقامة ولست أدري إن تعثّر هذه المرة بفتاة ألمانية، ذكر بخير الفيلسوف الألماني الشهير: كارل ياسبرز، ومرّ على أسماء لم أسمع بها. تمنيت له الخير، وسألت الله أن يوفّق «موسوعيّته» المليئة.
بعد مرور أربعة عشر عامًا على إقامته في فرنسا، قيل لي: إنه لم ينهِ الأطروحة الميمونة بعد، وأنه يعمل «ناظرًا على التلاميذ» في مدرسة ثانوية في جنوب فرنسا.
والثالث بيننا، وهو قصير القامة كبير الرأس، كان أكثرنا بساطة وراحة. التقيته مرة واحدة، تحدّث سريعًا وأعطى فكرة «غير فلسفية» عما انتهى إليه، وأوضح: أردت في البداية إنجاز أطروحة عن جهود المصري عبدالرحمن البدوي في الترجمة، دوافعها وأسبابها وتنوّعها. والدكتور البدوي، كما تعلم، يعيش في فندق في الحي اللاتيني، اللقاء به سهل وميسور، حياته محوّطة بالعزلة، مقتصد في كل شيء بما في ذلك الكلام. لكنني بعد أن تأملت حياته، وهو الذي أتقن لغات عدة وترجم ووضع أكثر من سبعين كتابًا، قرّرت أن أقلع عن مشروعي الدراسي، وبخاصة أن الحياة غمرتني بكرمها؛ إذ تزوّجت سيدة مغربية وهبها الله وظيفة مرموقة، لا تحوجني إلى العمل. ابتسم قليلًا وقال: لا أخفيك أنها تتجاوزني عمرًا، عامرة باللطف والدماثة. لم أمنع نفسي عن سؤاله: ماذا تفعل في أوقات الفراغ؟ أجاب: الحياة كلها فراغ في فراغ، وبعيدًا من مشاكل المنزل، فتصريف الفراغ في باريس أمر لا مشقة فيه. أحنى رأسه وانصرف ولم أره بعد ذلك.
كان عبدالرحمن البدوي يبدو لنا أيام الشباب معجزة، وأقل منها بقليل، تعلّم لغات عدة، وترجم إلى العربية الإنجليزي بايرون والفرنسي سارتر والإسباني سيرفانتس والألماني بريشت، وراجع ودقّق وشرح «الفلسفة الإسلامية»، وأصدر «الزمن الوجودي»، وديوان شعر عنوانه: «الحور والنور» ربما.
تحولات الأزمنة
أستذكر الأصدقاء القدامى، اليوم ويستيقظ في خاطري سؤالان، ما الذي دفعهم إلى إخفاق، أو ما يشبه الإخفاق، وكانوا ذات مرة تلامذة لامعين؟ تحولات الأزمنة، ربما هي التي سحبتنا من فترة واعدة، النصف الأول من ستينيات القرن الماضي، إلى هزيمة ساحقة بعد عام 1967م، تلت «الاستقلال الوطني»، واغتصاب فلسطين، وصعود أحزاب واسعة الشعارات تطلّعت إلى «خلق العالم من جديد». أحزاب، ويا للغرابة، متنوعة الأقوال متجانسة الممارسة والسلوك، أسقطت معنى الأحزاب ودلالة السياسة والنظرية والتجديد الفكري.
السؤال الثاني ليس بالسؤال، إنما هو الإجابة عنه: يستذكر الإنسان الماضي حين يشعر أنه لن يعود ويرى في ابتعاده «فقدًا أليمًا» يغلق الأمل.
الإخفاق الذي عشناه «نحن المثقفين»، أو ما يشبهنا، زرع في الروح خيبة وزهدًا بالكتب والمكتبات، عبّر عنهما أساتذتنا الذين تلقوا العلم في «مدينة النور»، واجتهدنا في محاكاتهم وهم الذين حاكوا، بعد التقدّم في العمر، غيرهم من المخفقين. فأستاذنا الألمع الدكتور عبدالكريم اليافي كان في شبابه أشهر منه في شيخوخته، وهو الذي ظفر «بخمس اختصاصات علمية»، شملت الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم الإحصاء وفلسفة العلوم وتاريخ التصوّف واللغة العربية… انتهى إلى إنسان «لا تفارقه سجادة الصلاة»، التي أطلقت لسان الراحل الدكتور صادق العظم بتعليقات ساخرة وجادة معًا. وأستاذنا بديع الكسم قال في شيخوخته: أنظر الآن إلى روحي ولا ألتمس عونًا من الكتب. أما الأخير «أنطون مقدسي»، المولع بأفلاطون، فقد اشتكى من ارتفاع ثمن كتاب «الجمهورية» لأفلاطون، رغم ترجمته البارعة، كما «يقال».
تكشّفت جمالية الحياة، ذات مرة، في جماليات القراءة والكتابة إلى أن أشفقت علينا وأخذت بنا إلى جماليات متاحة جديدة: المطر المنهمر، مرتاحًا، في يوم ربيعي، سجالات العصافير في الصباح، بلاغة الأعشاب المزهرة، أم تحنو على صغيرها في طريقهما إلى «الحضانة»، دفء يجود به اللباس على يدين هاربتين من برد شديد، وطفل يقود جده الأعمى إلى مكان عبادة قريب.
هل يمتع الروح كتاب عن «الوجود والعدم»، معقد الصياغة غريب الكلمات، أم عصفور بحجم «حبة الجوز» يحطّ على وردة حمراء صباحًا؟ أيبهج البصر منظر مثقف متعالم، يرتحل من قناة تلفزيونية إلى أخرى أم بقعة شمس على شجرة خضراء في الصباح؟
كنا نقول باطمئنان: تأتي الأفكار من الكتب وتحاور كتبًا أخرى، أمّا في «زمن آخر» فنقول بلا اطمئنان: ما ترسّب في ذاكرة الطفولة من أحلام يعود في زمن الشيخوخة طيفًا متواضعًا متطايرًا في الفضاء.
لستُ أدري ما الذي دفعني في يوم، بدا كغيره، إلى تذكّر أصدقاء سقطت أطيافهم في نسيان غير مقصود، يرحّل الإنسان من بئرٍ إلى آخر، ويلقي به في عزلةٍ روحية ترحِّبُ، صباحًا، بعصفورٍ منقطع عن البشر، صغير كإصبع اليد ومشبعٌ بالنقاء.
المنشورات ذات الصلة
أرض الإشارات.. أميركا في نثار اليوميات
نافذة في إطاريْن ثمة تعارضات بين نافذة تنسي الجنوبية، ونافذة التذكر البغدادية. لكل منهما إطار مختلف. بغداد تكثف ضباب...
مراهقٌ زادُهُ الخيالُ.. أبواب حديدة
«يُغمض المراهق عينيه ويفكر: الآخرون يرونني». عندما سأقرأ ذلك وقد طويت خمسًا وستين سنة، أجزم أن إدواردو غاليانو قد...
تطمينات الحنين.. الفضاء الأميركي من نافذة جنوبية
نيسان شهر الزوال نيسان 2011م كان من أقسى الشهور عليَّ، ليس تماهيًا مع قصيدة إليوت، فعنده يُخرج نيسان الليلك من الأرض،...
0 تعليق