المقالات الأخيرة

رسالة في الجوهري من وجودنا المباشر.. ضوء لإنارة مدينتنا العربية

رسالة في الجوهري من وجودنا المباشر.. ضوء لإنارة مدينتنا العربية

بعد نحو اثني عشر كتابًا بالعربية، وكتبٍ ودراسات أخرى بالفرنسية، تنتسب في مجملها إلى فضاءات البحث الأكاديمي، يحط المفكر فهمي جدعان رحاله على ضفة البحث الحر، مختارًا عنوان «رسالة» لكتابه الأخير (ونرجو ألا يكون أخيرًا) «معنى الأشياء» الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات...

الهوامش الفلسفية في التراث الشرعي

الهوامش الفلسفية في التراث الشرعي

إن الناظر في التراث الإسلامي يلحظ تسرب بعض المسائل والقضايا الفلسفية إلى العلوم الشرعية وتحديدًا أصول الفقه، وعلوم الحديث. وورود مباحث ومسائل في الأدبيات الشرعية، مما ليس داخلًا في حدود الفن الذي وردت فيه بمعناه الضيق، ليس غريبًا(1)، إلا أن ثمة خصوصيةً في طبيعة...

سيف الرحبي.. هذا الرأسمال الثقافي العربي الكبير

سيف الرحبي.. هذا الرأسمال الثقافي العربي الكبير

أُومِنُ بأن لا شيء يدوم، كل زمن له جيله، بما في ذلك الأزمان الثقافية والمؤسساتية، ومع ذلك، ولأنني أعتبر «نزوى» بيتي الثقافي فقد شعرت بنوع من الحزن الغريب، يتعالى على المنطق، وأنا أقرأ خبر مغادرة الصديق سيف الرحبي هذا النزل الأدبي والفكري العريق، شعور يشبه من يرى بيتًا...

صمتُ الجثة الغريبة بين الغرباء

صمتُ الجثة الغريبة بين الغرباء

(جملٌ يُطلُّ بعنقه الطويل، إلى مئذنةٍ على حافة الصحراء، بسَمْتٍ مهيبٍ كأنما يُصغي إلى النداء الربانيِّ الذي يمنحه العزاءَ والطمأنينةَ بعد رحلته الشاقة في بحر الرمال الغاضب). هذه إحدى اللوحات التي تركها لي كهديةٍ الفنان العراقي الراحل (حَمّادي) الذي صارَ يوقعُ لاحقًا...

السودان: نحو عقد اجتماعي جديد

السودان: نحو عقد اجتماعي جديد

إن التاريخ الاجتماعي السوداني لم يكتب بعد بالطريقة التي تسمح لأي باحث أن ينظر بأدواته نظرة موضوعية غير متحيزة. إن الذي نقع عليه في غالبه تحيزات وانصراف أكثر للمنهج الوصفي الذي من عيوبه أنه يركز على الإجابة على أسئلة «ماذا؟» بدلًا من، ما «سبب؟» موضوع البحث. فالغرض...

«حيث تجلس أيامي الميتة» باكورة الشاعر الإماراتي

علي المازمي ينحني على جراحه الوجودية ومزقه المتناثرة غير القابلة للرتق

بواسطة | سبتمبر 1, 2024 | قراءات

ليس في ديوان الشاعر الإماراتي علي المازمي «حيث تجلس أيامي الميتة» (منشورات المتوسط) جنوح لبناء الكتاب الشعري، وفق إستراتيجية متولدة عن خطاطة مسبقة. بيد أن طموحه الشعري، يتجه نحو تركيب قصيدة نثر جديدة، تتبادل تراسلات وتفجرات ملتهبة، على امتداد نصوص الكتابة، التي تحتضن بنى ثيماتية هوسية لا تنفصل عن هوس تجديد الشكل النثري، في قصيدة متطلبة، منغرسة في أرض تجربتها الشعرية الوجودية. إن اتقاد تجربة الكتابة، بوحدة هواجسها الوجودية الحارقة، التي ما تفتأ تتكرر وتعود، على نحو هوسي خلاق، هو ما ينهض هنا مبررًا داخليًّا لبناء الكتاب، الذي يعتمد القفز والتوتر بدل الاسترسال والتدرج.

روح بريئة في عالم ملعون

لن نقارب إذن كتاب المازمي وفق تنامِ داخلي تفترضه أو تستدعيه بنيته النصية، وإنما وفق ما يمكن أن تسبغه القراءة على ثرائه النصي وتفجراته الشعرية، من وضوح يضيء ما تعتم أو خفي أو حتى تبدد بين الثنايا والتجويفات، مع التوكيد أن الشاعر لا يؤسس هنا تجربته الشعرية على منطق الغموض و«الرسالة التائهة»، بل يهبط (أو يقفز) إلى قيعانه الداخلية، مودعًا رؤياه العميقة، والمخيفة، في عبارات لا تتنازل، بالرغم من وعورة اللحظة الوجودية وحلكتها، عن حظها من الشفافية، التي تقتضي جهدًا في البناء وتطويع اللغة، وإن كان لا يظهر أثر ذلك، بشكل جلي، في جلد لغة الشاعر، التي تخرج من خضاتها الوجودية الهائلة، بنظارة أقرب إلى روح البراءة.

تتناثر صورة متخيلة ومركبة لـ«الشاعر» في كثير من نصوص المازمي. إن حلكة اللحظات الوجودية، كثيرًا ما تفرض انقلابًا للنظر باتجاه الداخل، الذي تتفجر منه الرؤى والأناشيد الملتاعة، المحملة بإحساس عميق باللعنة. هنا، وإن كان الشاعر يكشف عن شجرة أنسابه في ثراء الرمزية الفرنسية بشعرائها «الملاعين»، الذين يحولون الإحساس بالذنب أو الخطيئة أو حتى التمرد وسوء التفاهم، إلى فن وجمالية في الرؤية إلى الحياة والشعر والعالم- فإنه ينفرد بخصوصيته الشعرية، فيما هو يدفع بذلك الثراء «الملعون» نحو منابع الحياة نفسها، وما تنطوي عليها نواتها العميقة من قسوة وعبث وفقدان للمعنى، دون نسيان للشرط الإنساني نفسه، المفتقد، بحكم التقليد والدوافع الغامضة، إلى جدارته الإنسانية، التي تسمح لفسحة العيش بالتفتح والإيناع والنفاذ.

تبدو الحياة، في هذا المنظور، ليلًا من الأرق اللانهائي، لا ينفلت الشاعر من أسره، ويتخذ من جحيمه مكانه الأثير، الملعون؛ لامتصاص لهبه الداخلي ونفثه في وجه العالم والكلمات والأشياء. أرقٌ طويل وعميق في آن، يأخذ أحيانًا معنى الموت نفسه، لا يستيقظ منه الشاعر، ولا يخرج منه سوى بـ«جرعة شعر» (ص 35). هذا الدوران الوجودي، العبثي، المدوخ، في حلقة هذا الأرق، هو ما تكتبه الذات الشاعرة، وتجهد لتبني من خلاله عالمًا قائمًا بذاته، بظلاله وغيومه وشمسه السوداء وبرده ونزفه الداخلي الذي ينطلق من الذات، ليمتد سيلانه البطيء في كل مكان. إنه قدر الشاعر: «أتأوه سرًّا خلف الوجود» (ص 13)، يستسلم له بقوة، بوعي لا ينفصل عن الغريزة، مستقطرًا، في قصائد نثر سطرية مكثفة (غالبًا)، أناشيده الليلية الحارقة: «لا توقظوني…/ دعوني بقلقي/ باحثًا عن ارتباكات الوجود/ وثغرة الكون العظيمة» (ص 32).

ينفصل شاعر اللعنة، في كتاب المازمي، عن التراث الرؤيوي لشعرية النبوة في قصيدة الحداثة. فالشاعر ليس ذلك المعذب بتحولات تموزية تجعل منه رائيًّا ونبيًّا، يخترق الحجب والحدود، سابرًا غياهب المجهول، وإنما ذلك الكيان «الشقي»، الذي لم يملك، تجاه رؤاه اليائسة وأفعال الوجود العبثية، سوى جرح نفسه ورفع «نبراس العدم» وارتجال أعمال القسوة، الفظيعة والمجانية في آن: «هنا كنت في ماض قريب، على بعد خطوات من اليوم، عندما سرقوا آخر أصابعك، ورفعت نبراس العدم، ضربت بالمناجل المصلين، أنا دفنتهم ولم أبكِ» (ص 35). تذكر هذه النبرة بـ«أناشيد مالدرور» للوتريامون، وإن كانت تجد في تجربة الشاعر المازمي بعض التبرير الشعري، الذي يحولها إلى صرخة هلع واحتجاج في وجه عالم يغيب عنه (أو يغيب بقسوة) وجه الأم: منبع الحنان والارتواء الوجودي. وإذا كان ثمة، في عمل المازمي، من رؤيا معذبة باستحالتها، فهي رؤيا تكتبها الذات الشاعرة في قصيدتها التدشينية، بالإنصات إلى صوت المعذبين في الأرض بيتمهم: «رافعين أصواتهم، والريح تشتد: أول الأيتام أنا» (ص 5).

الجرح الأنثوي- الأمومي

إن الانعطاف نحو الأنا في الملفوظ الشعري، يشكل أحد مواطن الخصب في تجربة الديوان. بيد أن هذه الأنا ليست أنا الذات أو الآخر، على نحو مباشر ومتعين في الأحياز الخارجية، ولكنها أنا الشرط الوجودي، غير المنفصل عن تشكيل الكتابة وهواجسها، في جدلها غير السعيد مع الذات والعالم. هذا التشكيل هو ما يجعل منها تأويلًا أورفيًّا جديدًا للحياة، ينظر عميقًا في مواطن الجرح، ولكن دونما قدرة على الحلم بالتعافي أو الخلاص. إن الحياة تظل ممعنةً في هربها وانحدارها الغسقي الذي لا يتوقف، ما دامت الأم «تتعفن في وحشتها»، وما دامت الأشعار/ الأزهار، ليست أكثر من باقات عبثية، يرمي بها الشاعر «تتطاير في وجه العالم، في قبرها الكبير» (ص 36).

لا يصعد، من تجاويف الجرح، نزيف الأمومة بوحشة غيابها فحسب، بل تلتقي، في لحظة غامضة من الكتابة، جراح انقسام الأنوثة على ذاتها، فتبدو المرأة في توتر حارق مع نفسها أو تاريخها. إنها إحدى ذرى اللحظات الوجودية الصعبة، التي تسلل الشعر إلى حكايتها، المكثفة، الغامضة، من خلال عبور ميتافيزيقي لـ«الشط القديم»، تلتقي المرأةُ خلاله «سيدةَ الجذور»، لقاءً لا يترتب عنه البوح والاعتراف القاسي، المكتوم طويلًا فحسب، بل كشف مرير عن تاريخ من الجراح الذاتية المتعفنة، التي كانت المرأة/ الأم مصدرها وأداتها: «قالت: جئت إليك حافية، وعبرت تاريخنا بجراحي كلها، بساقي التي طالما هجوتها، وريشي المنتوف في الصبا، جئت إليك ولا عذر في يدي، أرى أنك ما زلت تحتفظين بدموعي الساحقة، كم كان مؤلمًا أن تضرب امرأةٌ بدموعها ! ذكريني كم مرة مت على يديك» (ص 37). إنها، فعلًا لحظة نادرة، يتكئ فيها الجرح الأنثوي- الأمومي على تمزق تاريخه الشخصي؛ ليكشف، في ملفوظ شعري مخترق بصوت المرأة نفسها، عن مأساة الإرادة الأنثوية المقيدة، أسيرة المثل الممْلاة عليها، وضحية افتراسها.

ليس «الشاعر» في عمل المازمي أكثر من «مغترب في خرائب الوجود» (ص59). مغترب تصعد أناشيده في صيغة كوابيس مبعثرة، ومزق وجودية حارقة، مستعصية على الرتق والالتئام، تستنفد الزمن بوصفه أرقًا وجوديًّا مديدًا، تنهار معه الحدود والبراهين والحقائق والجماليات، فـ«يغرس الضياع نابه العجوز في معانينا» (ص 8). ضياع تفتقد معه الجدوى، فلا تملك الذات الكاتبة إلا أن تعلن يأسها على لسان الشاعر: «سأغادر مقوسًا ظهري باتجاه الماضي، راميًا رأسي خلفي لينفجر» (ص11). مغادرة تستغرقها الالتفاتة العدمية إلى الخلف، عديمة الجدوى والقيمة، التي ترى الفساد ساريًا في الزمن والعلاقات الإنسانية، وفي صلب خلية الحياة نفسها، حيث لا خلاص يبدو ممكنًا، ما دامت القيم القوية «المثالية»، ومنها الحب، حتى الأنوثة، ترزح تحت عبء تمزقها ولعنتها الغامضة: «لنعدْ إلى ما قبل الحياة، يوم كانت في عيني، وكنت في دفئها أغتسل، ليس كمثلها أحد، انفرادةٌ محضةٌ، لكننا ولدنا، وسالتْ من مساقط رؤوسنا الدماء، تجرعْنا سم الأمهات» (ص 7).

وجود هش وعبثي

خلق الإنسان، في سياق هذه الرؤية العبثية، بمصنع. حيث «ماكينة عملاقة تصنع الأجساد وترمي الرؤوس عليها». مصنعٌ، خلق فيه الشاعر من شحنة، كان لا بد أنْ «يسهو عنها العمال». من قلب هذا الكشف، بوصفه نبوءة وثنية مضادة، يستقي الشاعر رؤياه المرعبة: «كل آلاف السنين كانت طريقًا للموت، والذين يحفرون هذا القبر العملاق، لا يعرفون شيئًا عن براغيث ناعمة، ولدوا داخل هذه الجثة» (ص 39).

على هذه الوثيرة، تستأنف الذات الشاعرة بناء عالمها الشعري، مدلية بوثائق ملتهبة من كوابيسها وأحلامها ومسرحها الداخلي، الذي يظهر فيه الإنسان عاريًا، مجردًا من مزاياه، التي تحولت بقوة قاهرة إلى لعنات ووساوس، لا مجال معها لتفاؤل الإرادة الشعرية، ما دامت كل الأفعال عبثية، وفاقدة للجدوى. إن سوء التفاهم وعلاقة التبرم القائمة بين الإنسان والحياة، متأصلة في نطفة «ملعونة» تخرب المعنى، وتشرف من منطقة غارقة في العدم، على انهياره. إنها تجربة ترثي ضياع الأمومة والحب والشعر واغتراب الإنسان، الذي لم يعد يجد في الحياة سوى أرق وجودي مديد، يمتد من النطفة إلى القبر. إن أناشيد الشاعر النثرية هي ابنة هذه السراديب، التي يتكرر فيها مشهد دفن لا ينتهي، يأتي على الإنسان والقيم التي ساندت وجوده
الهش والعبثي.

ينحني علي المازمي على جراحه الوجودية، ومزقه المتناثرة غير القابلة للرتق، فلا يصدر عن تصميم قبلي مفكر فيه، بل تصعد قصيدته النثرية من جوفه، ناتئة، ودامية، ناضجة بخبرتها الغريزية بعبثية الحياة وتجهم العالم، الذي لا يسمح للإرادة الشعرية بالتفتح والإيناع، في غير سراديبه وعوالمه السفلى. يندرج الحب في تجربة الشاعر المازمي، ضمن رمادية المنظور العبثي، الذي لا يجد في عالم الأرض أي أمثلة للوجود والحياة، بل نفخًا لا نهائيًّا في نطفة العدم الكبيرة.

تأويل المعنى في تجربة علي المازمي، يتصل بتمزق حبل الأمومة باكرًا، الذي حول الحياة إلى تجريد كابوسي معتم، فيما استحال العالم إلى قبر كبير، يصدر الشاعر من داخله أغانيه النثرية اليائسة. إن شيئًا وافرًا من «مثالب الولادة» يتسرب إلى عالم الشاعر علي المازمي، فيصله بتيارات التشاؤم الكبيرة بتراثنا (أبو العلاء المعري) أو تراث الإنسانية (إيميل سيوران). وهو بذلك، يكشف عن حساسية ميتافيزيقية، تساعدنا، بتعبير باشلار، على «التقرب من أوديتنا الليلية السحيقة».

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *