كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«بصورة مفاجئة» لمنتصر القفاش
الحياة في مرآة ألعاب المحاكاة والتجلي والخفاء
أمام المجموعة القصصية الجديدة للكاتب منتصر القفاش وعنوانها «بصورة مفاجئة» (دار الكتب خان بالقاهرة) يجد المتلقي نفسه بصدد تجربة مغايرة في السرد القصصي، تجربة تتسم بالعمق والطابع الإنساني، وتقدم خطابًا سرديًّا يمثل في ذاته قراءة جديدة للحياة في ضوء عدد من الألعاب الجمالية، مثل المحاكاة وثنائية التجلي والخفاء للمعاني والقيم والأشياء. والمجموعة وإن كانت تمضي في المسار ذاته من الجدية والمغايرة والعمق السردي، الذي يتسم به مشروع منتصر القفاش، إلا أنها تمثل نقلة في الابتكار والتقنيات السردية، التي تبلغ ذروة العفوية مع العمق والبراعة والثراء الجمالي والدلالي في الوقت نفسه.
إن أهم ما يميز هذه المجموعة القصصية هو تماسك نصوصها وارتباطها برباط خفي يجعل منها كتابًا قصصيًّا متناغمًا في إحساسه وتوجهه والحالة الشعورية العامة، التي تنتظم هذه التجارب الحياتية وتلك العوالم القصصية؛ إذ تمتد بعض الخيوط التي تربط هذه القصص وما فيها من النماذج والشخصيات، وتشمل الأفكار والإحساس والمعاني وكذلك بعض التقنيات أو الإستراتيجيات السردية مثل الدمج بين الحقيقي الماثل في الحواس والإدراك بصورة مادية، مع ما هو متخيل أو يُتوهم وجوده، وكذلك ألعاب المحاكاة والتجلي والخفاء أو الظهور والامِّحاء والطمس لأشياء هذا العالم وحدوده الفاصلة وبعض تفاصيله.
في عدد من هذه القصص يمثل الخفاء والغياب لبعض التفاصيل والأشياء والعناصر نسقًا عامًّا يربط هذه العوالم، ويكشف هذا النسق أن الحياة لها أبعاد متعددة حتى في صورتها المعيشة بعيدًا من نظريات الفيزياء المتقدمة المحكومة بأبعاد الوجود الأربعة من الطول والعرض والارتفاع والزمن، فالواقع أن الوجود يتحدد بحسب الأبعاد التي ندركها منه، وأن أفكارنا حوله إنما تتأسس على هذه الأبعاد الإدراكية وما نستوعبه من هذا العالم، وأن هذا الإدراك له حدود تختلف من شخصية أو من ذات إلى أخرى. وهكذا فإن تجلي الأشياء وظهورها وبالتالي تأثيرها وحضور معناها، إنما يتأسس كله على إدراكنا لها؛ لتكون الأحلام كاشفة عن بعد إضافي يجعل الوجود متمددًا ويصبح عبرها هو الآخر مشتملًا على بعد إضافي له معناه وله جمالياته وله تشابكاته مع الواقع أو مع عالم العلم والحس والمادة الملموسة. وكذلك الذاكرة لها دورها في إظهار أبعاد إضافية، عبر أدوارها ووظائفها وتأرجحها بين التذكر والنسيان. ويكتسب الوجود في هذه القصص بعدًا إضافيًّا يخص العمق الزمني، وبدلًا من أن يكون الوجود مسطحًا، يمضي في لحظته الراهنة فقط، يكتسب هذا العمق الذي يجعل الحياة تتجلى بقدر من التركيب والغموض.
وهكذا نجد أن الشخصيات التي تعيش أحلامًا ورؤى منامية هي أصحاب عوالم متعددة أو عوالم متعددة الأبعاد، يتشابك فيها الحقيقي مع الخيالي وما يُدرَك فعليًّا بالحواس، مع ما يحمل العقل في أعماقه من انفعالات ومشاعر وذكريات ومخاوف وغيرها، ما يشكل مسار الأحلام أو ينتجها. والأمر نفسه للأطفال الذين تصبح لهم عوالهم الخاصة التي لا يراها غيرهم، وهي في الغالب تعتمد على ألعاب محاكاة حياة الكبار والرغبة في القفز للأمام في الزمن بفجوات كبيرة لسد احتياجات التطلع والنضوج السريع، على نحو ما نرى في ألعاب الأطفال في الحرب والزواج واشتباكاتهما، وغيرها من تفاصيل حياة الناضجين التي لا يجد الأطفال لها سبيلًا غير اللعب والمحاكاة، وهي على الرغم من بساطتها الشديدة فإنها دالة على نزوع الشخصيات وتطلّعها إلى التحرك السريع في الزمن إلى الأمام، فتعكس قدر ما لدى الأطفال من القلق والتوتر النفسي والتكوين الداخلي النفسي الحافل بالغموض والغرابة.
لعبة الخفاء والغياب
وهكذا فإن هذا الخطاب السردي الحافل بالجمال يصبح مقاربة عميقة للإنسان وقراءة دقيقة لما بداخله، ويمثل تفتيشًا ناعمًا بداخل أنماطه ونماذجه الإنسانية بمختلف الأجيال والعلاقات الإنسانية، بين الرجال والنساء وبخاصة في دائرة الأسرة؛ الأب والأم والإخوة والجد والجدة والأعمام وهكذا، فيما يمثل تحركًا في مساحة ضيقة داخل الأسرة لكنها تبقى حافلة وثرية بالمعاني والقيم والأحداث المشحونة بالرموز والأشياء. وتبدو تفاصيل هذا العالم موظفة توظيفًا مثاليًّا سواء على المستوى الجمالي أو الدلالي. وأبرز الأدوار والتوظيفات الجمالية تكمن في صناعة الغموض وتحويل الحدث اليومي الذي يبدو عاديًّا وعابرًا إلى لغز مشوق أو حدث غامض يستدعي المطاردة والتتبع. على نحو ما نجد تحديدًا مع سلوكيات الأب مع أوراقه ورسائله، كما في هذا المقتبس: «اعتاد أبي أن يضع في لسان العرب الرسائل التي يعثر عليها في صناديق أو حقائب مركونة منذ سنوات، وأحيانًا كان يقرأ لي مقاطع منها كتبها أصدقاؤه الذين رحلوا عن دنيانا أو لم يلتقِ بهم منذ سنوات. ويضحك وهو يريني جملًا عكس كاتبها ترتيب حروفها. ويشتد ضحكه حينما أنجح في قراءتها. كنت أراها جملًا عادية لا تستحق أن تكون مشفرة كما اعتاد أن يصفها». المجموعة ص35.
هذا المقطع دالّ على ذلك النسق الممتد من خفاء الأشياء في حياتنا وتجليها عبر الإدراك والتركيز، وهذه مسألة نسبية ترتبط بوعي الشخصية. فلدينا هنا لسان العرب الذي هو رمز عام للغة، ومفرداتها المنسية وإشاراتها وأساليبها وتاريخها وأشياء كثيرة دالة على علاقة الإنسان باللغة والخفي من اللغة تحديدًا، وبخاصة حين أشار الراوي إلى نمط قراءة الأب فيه بطريقتين؛ إما أن يبحث عن معنى كلمة محددة، أو يفتحه بشكل عشوائي ويقرأ الجزء الذي يقع أمامه، ثم داخل لسان العرب هناك الرسائل، والرسائل في صندوق مغلق، والصندوق وضع فوقه كم آخر من الكتب لتخفيه بحسب جزء آخر في القصة. وهناك فوق كل هذا من أساليب الإخفاء ولع الأصدقاء واعتيادهم تشفيرَ رسائلهم وكتابتها بطريقة غامضة، رغم كونها رسائل عادية. ويصبح ذلك نمطًا معتادًا إما لسلوك حقيقي ورغبة فعلية في الإخفاء والتكتم على بعض الأسرار، وإما لكونها مجرد عادات يومية أو ألعاب متكررة. وهكذا يكون لدينا أنماط عديدة من الإخفاء وصناعة الغموض والتشويق عبر هذه الحيل البسيطة.
فجوات إدراكية
في كل قصة من قصص المجموعة ثمة حكاية منتقلة عبر الذاكرة من جيل إلى آخر، الآباء يحكون لأبنائهم، والأبناء أحيانًا يحكون لآبائهم بعض مشاغباتهم وأسرار ألعابهم، ولكن دائمًا في كل حكاية ثمة فجوات إدراكية، فجوات في التصور، قد تكون ناتجة عن حالات من التوهم، وربما تكون ناتجة عن نظام الذاكرة ونمط عملها في الاسترجاع، وقد تكون ناتجة عن رغبة دفينة في امتلاك أسرار أو تخيل أشياء معزولة عن الواقع؛ لتملك الشخصية عبرها التميز أو التفرد عن جمود هذا الواقع.
من جماليات هذه المجموعة القصصية المتفردة أنها صنعت محاكاة دقيقة لما في أعماق الحياة من اختلاف وتفاوت في التصور والوعي والإدراك، وتباين في الأبعاد الواقعة في ذهن الشخصيات ومشاعرها، وهذه المحاكاة الدقيقة لما في الأعماق عكست هذه الفجوات الإدراكية المهمة على المستويين؛ الجمالي والدلالي. والحقيقة أن فجوات الإدراك هذه تحتاج لدراسة خاصة ومعمقة؛ لأنها دلت على منابع عديدة، وكانت لها تجليات كثيرة، ولم تكن محصورة في نمط واحد.
ويبلغ الخطاب القصصي حدًّا بعيدًا من البراعة في توظيف الألعاب السردية والإستراتيجيات الحكائية المختلفة عن السائد، بما يجعلها تنتج الشعرية السردية والتشويق والغموض والإحكام والثراء الدرامي بين الشخصيات في علاقاتهم؛ لنكون أمام عوالم قصصية مشحونة بالتوتر والقلق والطابع الحركي، وبخاصة في قصص معينة كانت على قدر كبير من الثراء الحركي، على نحو ما نرى في قصة الملاكم ومطاردة ألبوم الصور القديمة للبطل المتوفى منذ أربعين عامًا، وتوازي حركة البحث عن الصور مع حركة ارتداد الذاكرة لاستعادة تفاصيل حياة هذا البطل من منظور الجد/ابن عمه الذي كان مغرمًا بشخصيته ومشبعًا بالحزن عليه لموته في شبابه، واستمرار زيارته له في الأحلام وتلقينه بعض التدريبات.
وقريب من هذا التشويق والطابع الحركي والدرامي ما نجد في قصة وقائع العثور على اليوميات، حيث تتنوع أنماط البحث عن الشيء المفقود أو تتبع اللغز والأسرار ومواطن الغموض بين المادي والمعنوي، بين بحث عن شيء مفقود مثل لعبة أو صورة أو تمثال أو حصان خشبي أو مفتاح لصندوق غامض، وبحث في الذاكرة أو محاولات لاستكشاف معنى أو فكرة مجردة، أو مطاردة أغنية جميلة أو قطعة موسيقية أو حكاية قديمة.
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
0 تعليق